19 أكتوبر 2019
الدفاع الأوروبي الموحد
الدفاع الأوروبي الموحد قضية قديمة، كانت ومازالت محل مبادرات ومشاريع متعدّدة، منذ خمسينيات القرن الماضي، ولم يُكتب لها النجاح، بسبب الخلافات الأوروبية البينية. إذ يتجاذب الاتحاد الأوروبي تياران. استقلالي، تتزعمه فرنسا، يقول بضرورة تشكيل بنية دفاعية أوروبية مستقلة عن حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبالتالي عن الولايات المتحدة. وقد حقق هذا التيار بعض النجاح، لاسيما في مجال التعاون بين الاتحاد الأوروبي والحلف في عملياتٍ لا يشارك فيها الأخير رسمياً. وقد توصل الطرفان إلى اتفاقات "برلين زائد"، بموجب قمة الحلف الأطلسي في واشنطن عام 1999، والتي حدّدت كيفية وضع إمكانات الحلف تحت تصرف الاتحاد الأوروبي، في حال عمليات لا يشارك فيها الحلف. بيد أن هذا التقدم بقي من دون طموحات هذا التيار، الساعي إلى بناء هوية دفاعية أوروبية، مستقلة عن المظلة الأميركية، بشكلٍ تكون فيه للاتحاد الأوروبي الإمكانات العسكرية اللازمة لقيادة عمليات في القارة وخارجها، دفاعاً عن الأمن الأوروبي، خصوصاً أن الإستراتيجية الأمنية الأوروبية، لعام 2003، تعتبر أنه، بحكم طبيعة التهديدات الجديدة، فإن الأمن الأوروبي يُصان أيضاً عن بُعد. أما التيار الثاني، وتمثله الدول الأوروبية ذات التوجه الأطلسي، أي الأكثر قرباً من الولايات المتحدة، وفي مقدمته بريطانيا (الدولة الأوروبية الأكثر أطلسية)، فتتخوف من فك الترابط الإستراتيجي بين ضفتي الأطلسي، ومن تخلي أميركا عن التزامها حيال الأمن الأوروبي. وشكلت بريطانيا عقبة حقيقية أمام أي مشروع جاد لتشكيل بنيةٍ دفاعيةٍ أوروبية حقيقية ومستقلة عن المظلة الأميركية. وكانت دول أوروبية أخرى، أطلسية التوجه، لكنها لا تشارك بريطانيا كل تحليلاتها في هذا الخصوص.
وبغض النظر عن الأسباب الأخرى التي يتعلق بعضها بالتنافس بين الدول الأوروبية وتخوف
بعضها من استخدام قوى أوروبية لإمكانات الاتحاد العسكرية خدمة لمصالح قومية، فإن الخلاف بين التيارين يخصّ، تحديداً، العلاقة مع حلف شمال الأطلسي، وبالتالي الولايات المتحدة. فالتيار الأول يقول إن بنية دفاعية أوروبية مستقلة ستكون مكمِّلة للحلف، بينما يقول الثاني إنه ستَطرح مشكلة الازدواجية في العمل، بل ستُطرح بديلاً له. ولم يتمكن الطرفان من حسم هذه المعضلة التي تعقدت أكثر مع توسيع الاتحاد الأوروبي في العام 2004 إلى عشر دول، كلها من أوروبا الشرقية، (باستثناء مالطا وقبرص). وهي دول تدعم التوجه الأطلسي داخل الاتحاد، لأنها ترى في حلف شمال الأطلسي درعاً يقيها التهديد القادم من روسيا (عدوها التقليدي حسب مدركاتها للتهديد). فكان أن أضعف هذا التوسيع موقف التيار الأول الذي وجد نفسه بين كفي كماشة: بريطانيا وبعض دول الاتحاد في غرب أوروبا من جهة، ودول أوروبا الشرقية الحديثة العضوية في الاتحاد من جهة ثانية.
وبقي المشهد الدفاعي الأوروبي يتأرجح بين طموح بنية دفاعية أوروبية مستقلة، بعيد المنال إلى الآن، والتوجه الأطلسي الثقيل، على الرغم من تقدّم أحرزه دعاة الدفاع الأوروبي، في سياق تميز بتجديد الرؤساء الأميركيين، الذين تعاقبوا على السلطة منذ نهاية الحرب الباردة، التزام بلادهم بالأمن الأوروبي. إلا أن السياق تغير بفعل عاملين، خارجي وأوروبي. يكمن الأول في وصول دونالد ترامب إلى رئاسة أميركا، ليبدأ التصدع في هذه الالتزام. فالرجل متقلب المزاج، وأثبت نوعاً من التهور في تعاطيه مع قضايا إستراتيجية، فضلاً عن وضعه المصالح الأميركية فوق كل اعتبار، ما يعني تضحيته بمصالح حلفائه الأوروبيين، وإنْ سار على خطى أسلافه، لما طالب الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف الأطلسي رفع ميزانياتها الدفاعية، لتحمّل جزءٍ من عبء الأمن الأوروبي، ولتخفيض المجهود الإنفاقي الأميركي. أما الثاني فيكمن في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي سيصبح فعلياً بداية من مارس/ آذار 2019، لتسقط العقبة المحلية الأساسية أمام الدفاع الأوروبي، فطالما عارضت بريطانيا، صاحبة أكبر ميزانية عسكرية في أوروبا، الدفاع الأوروبي، رافضة بشكل مطلق فكرة جيش أوروبي.
استغلت 23 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي هذا السياق الجديد، لتخرج من هذه المعضلة معلنة، الأسبوع الماضي في اجتماع وزرائها للدفاع، الالتزام بالتعاون العسكري وتعزيزه لاسيما في مجالي تطوير الصناعة العسكرية الأوروبية والعمليات (العسكرية) الخارجية، سبيلاً لبناء أوروبا الدفاع. وشدّدت هذه الدول على أن تعاونها سيكون مكمِّلاً لحلف شمال الأطلسي، ساعية بذلك إلى طمأنة الأطراف المتخوفة من هذه المبادرة. كما أكدت على أن هذه المبادرة تأتي استجابة أيضاً لانتشار العمليات الإرهابية، كما حدث في العام 2015 ولأزمة القرم، ولضرورة تكفل الأوروبيين بأمنهم، خصوصاً بعد وصول ترامب إلى السلطة.
تهدف هذه المبادرة الجديدة إلى إنشاء هيئة أركان عملياتية، خاصة بالوحدات القتالية الأوروبية وبنية للإسناد (اللوجستيك). سعياً إلى المرونة في التعاون وتعاضد الجهود، تريد الأطراف
المشاركة التركيز، في البداية، على مشاريع مشتركة في بعض المجالات، لاسيما تطوير بعض أنواع الأسلحة، مثل الطائرات بدون طيار، طائرات النقل العسكري والأقمار الصناعية العسكرية (وهي قطاعات تعرف تأخراً أوروبياً مقارنة بالولايات المتحدة). وتعد الصناعة العسكرية، بما فيها البحث والتطوير، عاملاً حاسماً في بناء الدفاع الأوروبي، للحد من الاعتماد على الصناعة الأميركية، ولتعاضد الجهود الأوروبية لمقاومة المنافسة الأميركية، لأن دول الاتحاد لا يمكنها مجابهة الأخيرة فرادى. ولتحقيق هذا المسعى، يعمل الاتحاد الأوروبي على إنشاء صندوق بقيمة 5،5 مليارات يورو، لتحفيز الصناعة العسكرية الأوروبية. أما العامل الحاسم الآخر فهو محاولة تشكيل قوة أوروبية من حيث العدة، لأن أميركا تتردد كثيراً في وضع قواتٍ تحد من تصرّف الأوروبيين.
في انتظار إطلاق هذه المبادرة الأوروبية رسمياً الشهر المقبل (ديسمبر/ كانون الأول)، والتي سميت "التعاون المهيكل الدائم"، يمكن القول إنه توجب انتظار تغيرين أساسيين، ليتمكن دعاة الدفاع الأوروبي من إطلاق مبادرة جماعية في هذا الاتجاه. والملاحظ أنه لا فضل لهم في التغيرين. فبريطانيا هي من اختار الانسحاب من الاتحاد بمحض إرادتها، أما انتخاب ترامب رئيساً في أميركا فلا يعنيهم. وبالتالي، لم ينجحوا في مساعيهم إلى إنشاء بنية دفاعية أوروبية مستقلة. لكن بما أنه لا دور لهم، لا في العامل المحلي (الأوروبي) ولا الخارجي (الأميركي)، فذلك يسهل من مهمتهم بإسقاط آخر القلاع المحلية الصامدة في وجه الدفاع الأوروبي. فالأطراف الأوروبية أطلسية التوجه، أو المتردّدة، تعي أنه لا يمكنها المراهنة، لا على بريطانيا ولا على أميركا ترامب. لكن، هل يكفي هذا السياق المناسب للغاية لتفعيل مشروع الدفاع الأوروبي؟ المسألة مرهونة بمدى تبديد المدركات والمخاوف الأوروبية البينية، وحل الثقة بدل الريبة والتنافس، وبالتحديد أوْرَبة (europeanization) كل أمن قومي لكل دولة أوروبية، ما يجعله أمناً أوروبياً موحداً لا يتجزأ.
وبغض النظر عن الأسباب الأخرى التي يتعلق بعضها بالتنافس بين الدول الأوروبية وتخوف
وبقي المشهد الدفاعي الأوروبي يتأرجح بين طموح بنية دفاعية أوروبية مستقلة، بعيد المنال إلى الآن، والتوجه الأطلسي الثقيل، على الرغم من تقدّم أحرزه دعاة الدفاع الأوروبي، في سياق تميز بتجديد الرؤساء الأميركيين، الذين تعاقبوا على السلطة منذ نهاية الحرب الباردة، التزام بلادهم بالأمن الأوروبي. إلا أن السياق تغير بفعل عاملين، خارجي وأوروبي. يكمن الأول في وصول دونالد ترامب إلى رئاسة أميركا، ليبدأ التصدع في هذه الالتزام. فالرجل متقلب المزاج، وأثبت نوعاً من التهور في تعاطيه مع قضايا إستراتيجية، فضلاً عن وضعه المصالح الأميركية فوق كل اعتبار، ما يعني تضحيته بمصالح حلفائه الأوروبيين، وإنْ سار على خطى أسلافه، لما طالب الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف الأطلسي رفع ميزانياتها الدفاعية، لتحمّل جزءٍ من عبء الأمن الأوروبي، ولتخفيض المجهود الإنفاقي الأميركي. أما الثاني فيكمن في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي سيصبح فعلياً بداية من مارس/ آذار 2019، لتسقط العقبة المحلية الأساسية أمام الدفاع الأوروبي، فطالما عارضت بريطانيا، صاحبة أكبر ميزانية عسكرية في أوروبا، الدفاع الأوروبي، رافضة بشكل مطلق فكرة جيش أوروبي.
استغلت 23 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي هذا السياق الجديد، لتخرج من هذه المعضلة معلنة، الأسبوع الماضي في اجتماع وزرائها للدفاع، الالتزام بالتعاون العسكري وتعزيزه لاسيما في مجالي تطوير الصناعة العسكرية الأوروبية والعمليات (العسكرية) الخارجية، سبيلاً لبناء أوروبا الدفاع. وشدّدت هذه الدول على أن تعاونها سيكون مكمِّلاً لحلف شمال الأطلسي، ساعية بذلك إلى طمأنة الأطراف المتخوفة من هذه المبادرة. كما أكدت على أن هذه المبادرة تأتي استجابة أيضاً لانتشار العمليات الإرهابية، كما حدث في العام 2015 ولأزمة القرم، ولضرورة تكفل الأوروبيين بأمنهم، خصوصاً بعد وصول ترامب إلى السلطة.
تهدف هذه المبادرة الجديدة إلى إنشاء هيئة أركان عملياتية، خاصة بالوحدات القتالية الأوروبية وبنية للإسناد (اللوجستيك). سعياً إلى المرونة في التعاون وتعاضد الجهود، تريد الأطراف
في انتظار إطلاق هذه المبادرة الأوروبية رسمياً الشهر المقبل (ديسمبر/ كانون الأول)، والتي سميت "التعاون المهيكل الدائم"، يمكن القول إنه توجب انتظار تغيرين أساسيين، ليتمكن دعاة الدفاع الأوروبي من إطلاق مبادرة جماعية في هذا الاتجاه. والملاحظ أنه لا فضل لهم في التغيرين. فبريطانيا هي من اختار الانسحاب من الاتحاد بمحض إرادتها، أما انتخاب ترامب رئيساً في أميركا فلا يعنيهم. وبالتالي، لم ينجحوا في مساعيهم إلى إنشاء بنية دفاعية أوروبية مستقلة. لكن بما أنه لا دور لهم، لا في العامل المحلي (الأوروبي) ولا الخارجي (الأميركي)، فذلك يسهل من مهمتهم بإسقاط آخر القلاع المحلية الصامدة في وجه الدفاع الأوروبي. فالأطراف الأوروبية أطلسية التوجه، أو المتردّدة، تعي أنه لا يمكنها المراهنة، لا على بريطانيا ولا على أميركا ترامب. لكن، هل يكفي هذا السياق المناسب للغاية لتفعيل مشروع الدفاع الأوروبي؟ المسألة مرهونة بمدى تبديد المدركات والمخاوف الأوروبية البينية، وحل الثقة بدل الريبة والتنافس، وبالتحديد أوْرَبة (europeanization) كل أمن قومي لكل دولة أوروبية، ما يجعله أمناً أوروبياً موحداً لا يتجزأ.