06 نوفمبر 2024
دروس أمي المتأخرة
أزف الوقت اليوم، لأعرف كم كانت أمي محقةً وبعيدة النظر. وكم نهشني الندم، لأني لم أُعر لدروسها اهتماماً، فأوليت ظهري لنصائحها حيناً، ومارست العناد مع بعضها، متذرّعةً بأننا قد خُلقنا ليوم غير أيام أمهاتنا وآبائنا أحياناً كثيرة. ولكن اليوم قد جاء لأرى من أولادي ما رأته أمي مني منذ زمن بعيد، حين كنت مراهقة غريرة، فابنتي الصغيرة تضحك ملء فيها، وهي تقول لي بحب، وتغمز بعينها: أنت يا أمي "دقة قديمة". أما ابني فيقول لي محتجاً على خوفي عليه، وقلقي بسبب غيابه وتهوره: العالم يتقدّم، وأنت تركضين خلف مشاعرك...
اليوم يذبحني الندم، فليتني سرت خلف مشاعر أمي الراكضة واللاهثة خوفاً وحرصاً، ليتني اتبعت قوانينها، وسرت خلف تحذيراتها، وتتبعت سبابتها المحذّرة لي. فبعد سبع سنوات على رحيلها، أعترف بأن قوانينها لم تنبع إلا من حب، ولم تسن إلا من حرص، ولم تردّدها إلا من دراية وخبرة في الحياة، فكانت تقولها وتهزّ رأسها، لأنها تدرك جيداً أن الزمن سيكون مدرسةً لمن لم تعلّمه أمه، ولم ينصحه أبوه، كما كانت تردّد أمام عدم سماع نصائحها. وأول دروسها أنها علمتني الصبر، فكانت تصر على أن أقف بجوار الموقد، وأنتظر أن يغلي إبريق الشاي الكبير الذي وضعت فيه مقادير الشاي المضبوطة من ماء وسكر وشاي وأوراق النعنع صيفاً، وعروق المريمية شتاء، فكانت تحسب المقادير، بمجرد النظر، وتطلب مني أن أقف متصلبةً أمام الموقد، لكي لا يفور السائل فوق الموقد فتضطر إلى تنظيفه، فقد كانت أمي ترى أن نظافة الموقد ولمعانه من علامات مهارة ربة البيت الحاذقة، فكنت أقف مثل جندي حراسة، لكي لا يحدث ذلك، وحين أطفئ الموقد أتنفس الصعداء، وتنظر لي أمي بعين الرضا، وأنا أحمل الإبريق في طريقي إلى مجلس العائلة، حيث تنتظر الأكواب وعيون الشاربين المتلهفين. ومر العمر بي، وقرأت عن قاعدة علمية لم تكن أمي تعرفها، وهي أن إضافة السكر في قعر الإبريق يؤخر من غليان الماء. وبذلك، كنت أمرّ بأطول فترة امتحان لصبري أمام الموقد، وأنا التي كانت تريد اللحاق بنكتةٍ، قبل أن تنتهي، لأكون أول من يقهقه، أو لسماع قرارٍ من أبي، فأكون أول من يعترض ويناقش.
وكانت أمي تزجرني بشدة عندما ألهو مع أولاد خالتي الذكور، داخل حوض الماء الكبير الذي تتوسطه نافورة، ويتوسط ساحة دار جدي. ولم تكن تفصح عن سبب منعها لي، سوى أنها كانت تميل على أذن جدتي، وتهمس لها أن أولاد خالتي الذكور لا يُؤمن جانبهم، على الرغم من أنهم صبية صغار، ولكني كنت أغافل أمي، فأنزل داخل الحوض، وألهو مع ابن خالتي الذي يكبرني بعام، ولم أكن أفهم سر نظراته إلى جسدي الصغير المبلل بالماء، ولا لمساته الخاطفة المتردّدة، حتى كبرنا، وصارحني، وهو يستنكر رفضي الزواج به، بأنه كان يتحرّش بي داخل الحوض، وبأنه قد اكتشف ذكورته في ذلك المكان، فتذكّرت أمي وتحذيراتها، وضربت رأسي بالحائط، وأنا أكتشف أن جسدي كان مختبر الرجولة الأول لأحدهم.
قوانين أمي لم تكن جائرة. كانت ترى عين الصواب، واليوم فقط حين أتذكّرها، يعتصرني الندم أني لم أسمع منها، وأتحول إلى أم خائفة، أم تتكلم بحكمةٍ لم تفتح لها أذناً في صغرها، وترى أولادها يغضّون بصرهم عنها. أراني أخاف على صغيرتي، أنتهرها أن تثق، أرى عين الماضي تطل على حاضرٍ يشبهه، ولكن ألوانه زاهية إلى درجة الخديعة، كفخ العصافير الذي كان ينصبه جارنا في أرض فلاءٍ خلف دارنا، ولكني كنت أتسلل لأرقبه، وهو يصطاد العصافير، وقد كان قد تقدم به العمر، ولا يملك زوجةً ولا عائلة. وكنت أراه مسكيناً حتى مرت سنوات كثيرة، وعرفت أنه كان يصطاد الفتيات الصغيرات، قبل العصافير، ويغتصبهن. ولذلك لم تكن أمي ترتاح لنظراته الحادة التي فهمتها، فحذّرتني من الاقتراب من فخه، وأنقذتني عنايةٌ إلهية بوجود إخوتي في المكان، فلم أقع في شباكه.
اليوم يذبحني الندم، فليتني سرت خلف مشاعر أمي الراكضة واللاهثة خوفاً وحرصاً، ليتني اتبعت قوانينها، وسرت خلف تحذيراتها، وتتبعت سبابتها المحذّرة لي. فبعد سبع سنوات على رحيلها، أعترف بأن قوانينها لم تنبع إلا من حب، ولم تسن إلا من حرص، ولم تردّدها إلا من دراية وخبرة في الحياة، فكانت تقولها وتهزّ رأسها، لأنها تدرك جيداً أن الزمن سيكون مدرسةً لمن لم تعلّمه أمه، ولم ينصحه أبوه، كما كانت تردّد أمام عدم سماع نصائحها. وأول دروسها أنها علمتني الصبر، فكانت تصر على أن أقف بجوار الموقد، وأنتظر أن يغلي إبريق الشاي الكبير الذي وضعت فيه مقادير الشاي المضبوطة من ماء وسكر وشاي وأوراق النعنع صيفاً، وعروق المريمية شتاء، فكانت تحسب المقادير، بمجرد النظر، وتطلب مني أن أقف متصلبةً أمام الموقد، لكي لا يفور السائل فوق الموقد فتضطر إلى تنظيفه، فقد كانت أمي ترى أن نظافة الموقد ولمعانه من علامات مهارة ربة البيت الحاذقة، فكنت أقف مثل جندي حراسة، لكي لا يحدث ذلك، وحين أطفئ الموقد أتنفس الصعداء، وتنظر لي أمي بعين الرضا، وأنا أحمل الإبريق في طريقي إلى مجلس العائلة، حيث تنتظر الأكواب وعيون الشاربين المتلهفين. ومر العمر بي، وقرأت عن قاعدة علمية لم تكن أمي تعرفها، وهي أن إضافة السكر في قعر الإبريق يؤخر من غليان الماء. وبذلك، كنت أمرّ بأطول فترة امتحان لصبري أمام الموقد، وأنا التي كانت تريد اللحاق بنكتةٍ، قبل أن تنتهي، لأكون أول من يقهقه، أو لسماع قرارٍ من أبي، فأكون أول من يعترض ويناقش.
وكانت أمي تزجرني بشدة عندما ألهو مع أولاد خالتي الذكور، داخل حوض الماء الكبير الذي تتوسطه نافورة، ويتوسط ساحة دار جدي. ولم تكن تفصح عن سبب منعها لي، سوى أنها كانت تميل على أذن جدتي، وتهمس لها أن أولاد خالتي الذكور لا يُؤمن جانبهم، على الرغم من أنهم صبية صغار، ولكني كنت أغافل أمي، فأنزل داخل الحوض، وألهو مع ابن خالتي الذي يكبرني بعام، ولم أكن أفهم سر نظراته إلى جسدي الصغير المبلل بالماء، ولا لمساته الخاطفة المتردّدة، حتى كبرنا، وصارحني، وهو يستنكر رفضي الزواج به، بأنه كان يتحرّش بي داخل الحوض، وبأنه قد اكتشف ذكورته في ذلك المكان، فتذكّرت أمي وتحذيراتها، وضربت رأسي بالحائط، وأنا أكتشف أن جسدي كان مختبر الرجولة الأول لأحدهم.
قوانين أمي لم تكن جائرة. كانت ترى عين الصواب، واليوم فقط حين أتذكّرها، يعتصرني الندم أني لم أسمع منها، وأتحول إلى أم خائفة، أم تتكلم بحكمةٍ لم تفتح لها أذناً في صغرها، وترى أولادها يغضّون بصرهم عنها. أراني أخاف على صغيرتي، أنتهرها أن تثق، أرى عين الماضي تطل على حاضرٍ يشبهه، ولكن ألوانه زاهية إلى درجة الخديعة، كفخ العصافير الذي كان ينصبه جارنا في أرض فلاءٍ خلف دارنا، ولكني كنت أتسلل لأرقبه، وهو يصطاد العصافير، وقد كان قد تقدم به العمر، ولا يملك زوجةً ولا عائلة. وكنت أراه مسكيناً حتى مرت سنوات كثيرة، وعرفت أنه كان يصطاد الفتيات الصغيرات، قبل العصافير، ويغتصبهن. ولذلك لم تكن أمي ترتاح لنظراته الحادة التي فهمتها، فحذّرتني من الاقتراب من فخه، وأنقذتني عنايةٌ إلهية بوجود إخوتي في المكان، فلم أقع في شباكه.