08 يوليو 2019
"الجهاد" والجريمة
لم يكن يعرف خالد مسعود، آخر مرتكبي عمليات الدهس الجماعي، جنسية الذين راحوا يتقافزون أمام عجلات سيارته العمياء، ولا أديانهم. المهم بالنسبة له وجود أناسٍ يتراكضون أمامه، ثم يسقطون على الأرض، أو يرمون أنفسهم في نهر التايمز.. وصولا إلى اللحظة الدرامية، الرثّة: الاصطدام بالأسوار الحديدية الخارجية لمجلس العموم البريطاني. يعرف مسعود، مئة بالمئة، هذه الأسوار الحديدية، ويعرف استحالة اختراقها بسيارة دفعٍ رباعيٍّ مدنيةٍ مثل التي كان يستخدمها، ويعرف المسافة بينها وبين المقر الداخلي للبرلمان والقاعة التي يجري فيها استجواب رئيسة الوزراء من أعضاء البرلمان. ويعرف أكثر: استحالة أن يُحْدِث بسيارته، وفي شوارع ضيقة، وذات وجود شرطي كبير، مثل وسط لندن، ما أحدثه التونسي محمد أبو هلال، من قتل واسع النطاق في نيس، للأسباب المذكورة.. لكن لم يكن كل ما ذكرته مهماً: لا عدد القتلى، ولا جنسياتهم، ولا أديانهم. المهم هو الحدث بحد ذاته، وفي قلب لندن التي بدت، حتى تلك اللحظة، في منأىً عن هذه الموجة الجديدة من "الجهاد".
لم يعد مفاجئاً أن يكون مرتكبو هذه الجرائم، باسم الجهاد، من أصحاب السجلات الجنائية. بل أصبح هو النمط. وهو الأكثر ترجيحاً. فمن في وسعه قتل أعداد كبيرة من البشر "عن جنب وطرف" (كما يقول مثلنا الشعبي) إلا إذا كان مجرماً، إلا إذا كان مختلاً، إلا إذا كان واقعاً تحت تأثير مخدّرين قويين: المخدرات الفعلية والدينية. الأولى تأكَّد تعاطيها في أثناء تنفيذ عملياتٍ من هذا الطراز، قام بها "جنود الخلافة"، والثانية كلمة دينية واحدة تكفي: كفار. لا حاجة إلى معرفة اللغة العربية التي لا تمكن معرفة القرآن، والدين بالتالي، من دونها. لا حاجة إلى تضلّعٍ بالفقه، ولا حتى إلى فتاوى تتعلق بهذا "الجهاد". هناك من قرأ. وهو يقول لك: هؤلاء كفار فاقتلهم. ولست متأكداً إنْ كانت تعني هؤلاء الحياة الأخرى، الجنة والنار، العقاب والثواب، الغلمان المخلَّدون والحور العين. قد تكون لدى بعضهم مثل هذه المحفّزات، ولكني لا أظن أن هذا ما يحرّكهم لفعل الجريمة. هناك جوانبُ نفسيةٌ واجتماعيةٌ ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار عند الحديث عن هذه الظاهرة التي أصبحت نمطاً: "جهاديو" السوابق.
دعونا نعود الى أصل هذه الظاهرة. في البدء كان "الجهاديون" الذين سـ"يجاهدون" في غير ساحة الجهاد الحقيقية (فلسطين المحتلة، أو الجولان، أو جنوب لبنان) من أبناء الطبقات العربية الوسطى، وستبرز ظاهرتهم في أفغانستان. كان العدو شيوعياً وليس صهيونياً. فحتى تلك اللحظة (من أواخر سبعينيات القرن الماضي) كان عدو العرب (والمسلمين) هو الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، غير أن الحرب ضد الشيوعيين الأفغان وحلفائم السوفييت (بتمويل وعديد عربيين) وتحت إدارة الاستخبارات الأميركية، ستسجل بروز ظاهرة "الجهاد". وتدخل إلى معجم السياسة العربية هذه المفردة القادمة من الخطاب الديني.
هذه هي الموجة الأولى من "الجهاد"، وكان أعلامها أشخاص ذوو تعليم عال: من عبد الله عزام إلى أيمن الظواهري مروراً بأسامة بن لادن، ومن التفَّ حولهم في أفغانستان من عرب ومسلمين. أما الموجة الثانية فسوف يكون أعلامها من ذوي السوابق، بدءاً من الزرقاوي وصولا إلى خالد مسعود (أدريان راسل) مروراً بمحمد مراح، عبد الحميد أبا عود، محمد أبو هلال، أحمد كوليبالي، شريف كواشي والأخوين بكراوي.. إلخ.
هؤلاء أعلام في الموجة. هناك عديدون غيرهم ممن لا نعرفهم هُرِّبوا من سجون نوري المالكي وبشار الأسد، لينخرطوا في حروب "دولة الخلافة" في كل من العراق وسورية.
وليس مدهشاً البتة أن هؤلاء (وسواهم) خريجو سجون. وليس مثيراً للحيرة أن هؤلاء عاشوا في أحياء تشبه الغيتو في الضواحي الفرنسية والبلجيكية (أو ما تسمى المدن الداخلية). لقد كشفت التحقيقات التي أجرتها الصحافة عما يشبه المعازل يعيش فيها مهاجرو العالم العربي (المغرب الكبير خصوصاً) في هذه البلدان الأوروبية. ليس هذا تبريراً لمرتكبي هذه الجرائم الفظيعة، بل محاولة لفهم الرابط بين "الغيتو" (أو ما يشبهه) والجريمة والتطرّف الديني. إنه رفضٌ عميقٌ للحياة كما عرفوها. فمن ينتحر سواء بحزام ناسف، أم بسيارة تقتل العشرات ثم يُقتل، يوجِّه طعنةً عميقة للحياة نفسها. لذلك لا يأخذ هؤلاء من التعليم الديني المتطرّف سوى كلمة أو كلمتين كافيتين لتغليف الجريمة بسُكَّر المقدَّس.
لم يعد مفاجئاً أن يكون مرتكبو هذه الجرائم، باسم الجهاد، من أصحاب السجلات الجنائية. بل أصبح هو النمط. وهو الأكثر ترجيحاً. فمن في وسعه قتل أعداد كبيرة من البشر "عن جنب وطرف" (كما يقول مثلنا الشعبي) إلا إذا كان مجرماً، إلا إذا كان مختلاً، إلا إذا كان واقعاً تحت تأثير مخدّرين قويين: المخدرات الفعلية والدينية. الأولى تأكَّد تعاطيها في أثناء تنفيذ عملياتٍ من هذا الطراز، قام بها "جنود الخلافة"، والثانية كلمة دينية واحدة تكفي: كفار. لا حاجة إلى معرفة اللغة العربية التي لا تمكن معرفة القرآن، والدين بالتالي، من دونها. لا حاجة إلى تضلّعٍ بالفقه، ولا حتى إلى فتاوى تتعلق بهذا "الجهاد". هناك من قرأ. وهو يقول لك: هؤلاء كفار فاقتلهم. ولست متأكداً إنْ كانت تعني هؤلاء الحياة الأخرى، الجنة والنار، العقاب والثواب، الغلمان المخلَّدون والحور العين. قد تكون لدى بعضهم مثل هذه المحفّزات، ولكني لا أظن أن هذا ما يحرّكهم لفعل الجريمة. هناك جوانبُ نفسيةٌ واجتماعيةٌ ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار عند الحديث عن هذه الظاهرة التي أصبحت نمطاً: "جهاديو" السوابق.
دعونا نعود الى أصل هذه الظاهرة. في البدء كان "الجهاديون" الذين سـ"يجاهدون" في غير ساحة الجهاد الحقيقية (فلسطين المحتلة، أو الجولان، أو جنوب لبنان) من أبناء الطبقات العربية الوسطى، وستبرز ظاهرتهم في أفغانستان. كان العدو شيوعياً وليس صهيونياً. فحتى تلك اللحظة (من أواخر سبعينيات القرن الماضي) كان عدو العرب (والمسلمين) هو الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، غير أن الحرب ضد الشيوعيين الأفغان وحلفائم السوفييت (بتمويل وعديد عربيين) وتحت إدارة الاستخبارات الأميركية، ستسجل بروز ظاهرة "الجهاد". وتدخل إلى معجم السياسة العربية هذه المفردة القادمة من الخطاب الديني.
هذه هي الموجة الأولى من "الجهاد"، وكان أعلامها أشخاص ذوو تعليم عال: من عبد الله عزام إلى أيمن الظواهري مروراً بأسامة بن لادن، ومن التفَّ حولهم في أفغانستان من عرب ومسلمين. أما الموجة الثانية فسوف يكون أعلامها من ذوي السوابق، بدءاً من الزرقاوي وصولا إلى خالد مسعود (أدريان راسل) مروراً بمحمد مراح، عبد الحميد أبا عود، محمد أبو هلال، أحمد كوليبالي، شريف كواشي والأخوين بكراوي.. إلخ.
هؤلاء أعلام في الموجة. هناك عديدون غيرهم ممن لا نعرفهم هُرِّبوا من سجون نوري المالكي وبشار الأسد، لينخرطوا في حروب "دولة الخلافة" في كل من العراق وسورية.
وليس مدهشاً البتة أن هؤلاء (وسواهم) خريجو سجون. وليس مثيراً للحيرة أن هؤلاء عاشوا في أحياء تشبه الغيتو في الضواحي الفرنسية والبلجيكية (أو ما تسمى المدن الداخلية). لقد كشفت التحقيقات التي أجرتها الصحافة عما يشبه المعازل يعيش فيها مهاجرو العالم العربي (المغرب الكبير خصوصاً) في هذه البلدان الأوروبية. ليس هذا تبريراً لمرتكبي هذه الجرائم الفظيعة، بل محاولة لفهم الرابط بين "الغيتو" (أو ما يشبهه) والجريمة والتطرّف الديني. إنه رفضٌ عميقٌ للحياة كما عرفوها. فمن ينتحر سواء بحزام ناسف، أم بسيارة تقتل العشرات ثم يُقتل، يوجِّه طعنةً عميقة للحياة نفسها. لذلك لا يأخذ هؤلاء من التعليم الديني المتطرّف سوى كلمة أو كلمتين كافيتين لتغليف الجريمة بسُكَّر المقدَّس.