19 أكتوبر 2019
بين حظر الأسلحة النووية وحظر انتشارها
تشكّل معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لعام 1968، والتي دخلت حيز التنفيذ في مارس/ آذار 1970، الإطار القانوني الدولي في هذا المجال. وتم تبني هذه المعاهدة خمسا وعشرين سنة. وبموجب المؤتمر الدولي لعام 1995، الخاص بالنظر فيها، اتخذت الدول المشاركة قراراً تاريخياً يقضي بتمديدها إلى أجل غير مسمى. وبلغ عدد الدول الموقعة عليها أكثر من 190 دولة. وعاد الحديث حول الأسلحة النووية إلى الواجهة، مع بدء المحادثات نهاية الشهر الماضي، برعاية الأمم المتحدة حول حظرها، وليس مجرد حظر انتشارها.
يتجاذب العالمَ اتجاهان في مجال الأسلحة النووية. يقول الأول بضرورة تأييد معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ودعمها وتحصينها. تقول بهذا الاتجاه القوى النووية المعترف بـ "قانونية" حيازتها السلاح النووي، وهي الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين. وهي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن (صاحبة حق النقض). تسعى هذه الدول إلى الإبقاء على النادي النووي الرسمي محكماً مغلقاً، لكن هذا السلوك المسؤول الذي يُحسب لها يخفي، في واقع الحال، تصرفاتٍ غير مسؤولة، وإن كانت تعود إلى فترة ما قبل تبني معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، لأن هناك نادياً نووياً ثانياً، هو بمثابة الابن غير الشرعي للنادي الرسمي، لتورّط قوى نووية في وجوده، فمثلاً فرنسا هي من سلح إسرائيل نووياً في منتصف خمسينيات القرن الماضي. ويتشكل هذا النادي غير الرسمي من كل من الهند وباكستان وإسرائيل وكوريا الشمالية. ترفض الدول الثلاث الأولى الانضمام إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ولا تضغط عليها القوى النووية الرسمية، لإجبارها على ذلك، بل تحميها، فمثلاً تعمل القوى الغربية، وخصوصا الولايات المتحدة، على حماية الحصرية النووية الإسرائيلية في الشرق الأوسط، فضلاً عن تفوقها في مجال الأسلحة التقليدية، بمنع الآخرين (الدول العربية وإيران) من حيازة هذا السلاح، هذا إذا فترضنا أن دولاً عربية تسعى حقاً إلى امتلاكه. أما كوريا الشمالية، فانضمت إلى المعاهدة، إلا أنها انسحبت منها في العام 2003.
إذن، موقف القوى النووية الرسمية هو نفسه منذ عقود؛ دعم معاهدة حظر الانتشار النووي مع
غض النظر عن النادي النووي غير الرسمي، باستثناء كوريا الشمالية. وبموقفها هذا، هي أول من يخل بروح هذه المعاهدة ومضمونها، لأنها تقرّ باستثناءاتٍ تضرب مصداقية معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. وهي أمام معضلة حقيقية، فبحكم تحالفاتها الاستراتيجية، فإن بعض هذه القوى (الولايات المتحدة خصوصاً) لا تريد الضغط على الهند وباكستان وإسرائيل، بينما تسعى إلى ذلك حيال كوريا الشمالية، لكن من دون التجرؤ على استخدام القوة ضدها، خوفاً من أي رد نووي، مهما كانت محدوديته، من حيث القوة والنطاق الجغرافي.
الاتجاه الثاني، وهو الأضعف، لا يكتفي بحظر انتشار الأسلحة النووية، بل يقول بحظرها أصلاً، أي جعلها أسلحة ممنوعة بحكم القانوني الدولي، على نمط حظر الأسلحة البيولوجية منذ 1972، وحظر الأسلحة الكيميائية منذ 1993. ويرى أصحابه (من دول وجمعيات ومنظمات أهلية محلية وعابرة للأوطان) أن خير سبيلٍ لحماية الكوكب من الدمار الشامل هو جعله منطقة خالية تماماً من السلاح النووي. وتقول الدول المنخرطة في حملة حظر الأسلحة النووية إنها لا تنفع أمام التهديدات الجديدة، وإن استعمالها يعني نهاية الحياة، ومن ثم فالحل الوحيد لإقناع الدول التي تتملكها للتخلص منها هو حظرها تماماً. وتعد النمسا وإيرلندا والسويد والمكسيك من الدول الأكثر نشاطاً في هذا المجال.
وهذا هو مضمون رسالة المؤتمر المنعقد في الأمم المتحدة، منذ 27 مارس/ آذار الماضي، والذي تشارك فيه 113 دولة. وبالطبع، لم يكن من المتوقع أن تقبل القوى النووية وحلفاؤها بهذا المسعى الذي سيجرّدها من أهم مصادر قوتها العسكرية، فضلاً عن أن هذه القوى النووية شرعت في استثماراتٍ ضخمةٍ، لتجديد ترساناتها النووية وتطويرها. لذا، رفضت القوى النووية الرسمية الخمس فكرة المؤتمر ومضمونه جملة وتفصيلا.
بدأ هذا المؤتمر أشغاله على أساس قرارٍ صادقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2016، ينص على التفاوض حول آلية قانونية ملزمة للدول، تقضي بحظر الأسلحة النووية نهائياً وإلى الأبد، صوتت عليه 113 دولة، وعارضته 35 دولة منها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ومعظم الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فيما امتنعت 13 دولة عن التصويت، منها الصين التي رفضت في ما بعد المشاركة في المؤتمر.
تتخوف القوى النووية الرسمية من إمكانية توصل الدول المشاركة في مثل هذه العملية، طويلة الأمد، إلى اتفاقٍ على معاهدة دولية حول حظر الأسلحة النووية، وما لذلك من تبعات، فعدم
توقيع هذه القوى النووية على المعاهدة سيفرغ الأخيرة من محتواها، لكن مجرد وجودها يُحدث لها متاعب، ويضعها تحت ضغط الرأي العام العالمي، كما يجعلها في وضعٍ لا تحسد عليه، إن هي أرادت الدفاع عن معاهدات واتفاقيات دولية أخرى. وتعلم هذه القوى مدى التأثير الرمزي والسياسي لمعاهدة حظر الألغام المضادة للأفراد لعام 1997، والتي عارضتها دول، مثل الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين وكوريا الشمالية وإسرائيل... رافضة الانضمام إليها. للتذكير، دخلت هذه المعاهدة الموقع عليها في سبتمبر/ أيلول 1997 حيز التنفيذ في الأول من مارس/ آذار 1999. وبلغ عدد الدول الموقع عليها اليوم 162 دولة.
من منظور موازين القوى، الغلبة للقوى النووية الرسمية، أما القوى النووية غير الرسمية فهي لا تكترث أصلاً بالقانون الدولي، وإلا لما أصبحت نووية. لكن القانون الدولي يقوم على إيجاد معايير جديدة، والعمل بها بمجرد أن تتبناها الأغلبية. وهذا ما سيتسبب في مشكلات للقوى النووية الرسمية، فبحكم عضويتها الدائمة في مجلس الأمن، تساهم الأخيرة بقوة في صياغة معايير القانون الدولي، ورفضها بعض معاييرها سيحدّ سياسياً من هامش مناورتها، ويفقدها بعض النفوذ السياسي دولياً. فضلاً عن ذلك، فإن بعض القوى النووية الرسمية، مثل الولايات المتحدة التي نشرت أسلحتها النووية في بعض الدول (خمس دول أعضاء في الحلف الأطلسي توجد أسلحة نووية أميركية على أراضيها، هولندا وألمانيا وبلجيكا وإيطاليا وتركيا) ستُجبر على سحبها، في حال انضمام دولة معنية (هولندا مثلاً امتنعت عن التصويت على قرار الجمعية العامة) إلى المعاهدة المنشودة.
لا توجد، في الراهن، دلالات على احتمال التقريب بين الاتجاهين، نظراً إلى التناقض بينهما ولرفض القوى النووية الانخراط في المحادثات، بعض النظر عن الالتزام بنتائجها من عدمه. أما القوى النووية غير الرسمية فهي تراهن على مصلحة الأولى في إجهاض المسعى.
بغض النظر عن مواقف الطرفين، الأمر بحاجة إلى تفكير معمق، لأن السلاح النووي هو الذي سمح بالتحول من نظام دولي (نظام الحرب الباردة) إلى نظام دولي جديد من دون حرب، وهي سابقةٌ في التاريخ، فتوازن الرعب النووي، الذي حال دون مواجهة مسلحة مباشرة بين أميركا والاتحاد السوفييتي، يحول اليوم من دون أي مواجهة مماثلة بين القوى الكبرى. ومن ثم، قد يبدو حظر الأسلحة النووية حلاً لتجنيب العالم دماراً محتملاً، لكن ذلك يعني حتماً حرمانه من صمام أمان منع الحروب بين القوى الكبرى. ومن ثم، ليس مستبعداً عودة ويلات الحروب "التقليدية"، بعد التخلص من صمام الأمان النووي، على الرغم من رعبه... فضلاً عن ذلك، ليست المشكلة اليوم في التهور النووي لدولٍ مثل كوريا الشمالية، وإنما في احتمال استحواذ جماعاتٍ إرهابية وإجرامية على مواد نووية. من هذا المنظور، يبدو حظر الانتشار النووي باتجاه الفواعل غير الدولتية (نسبة إلى الدولة) أولى وأكثر إلحاحا من حظر الأسلحة النووية نهائياً (وهي عملية معقدة وطويلة الأمد في كل الأحوال).
يتجاذب العالمَ اتجاهان في مجال الأسلحة النووية. يقول الأول بضرورة تأييد معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ودعمها وتحصينها. تقول بهذا الاتجاه القوى النووية المعترف بـ "قانونية" حيازتها السلاح النووي، وهي الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين. وهي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن (صاحبة حق النقض). تسعى هذه الدول إلى الإبقاء على النادي النووي الرسمي محكماً مغلقاً، لكن هذا السلوك المسؤول الذي يُحسب لها يخفي، في واقع الحال، تصرفاتٍ غير مسؤولة، وإن كانت تعود إلى فترة ما قبل تبني معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، لأن هناك نادياً نووياً ثانياً، هو بمثابة الابن غير الشرعي للنادي الرسمي، لتورّط قوى نووية في وجوده، فمثلاً فرنسا هي من سلح إسرائيل نووياً في منتصف خمسينيات القرن الماضي. ويتشكل هذا النادي غير الرسمي من كل من الهند وباكستان وإسرائيل وكوريا الشمالية. ترفض الدول الثلاث الأولى الانضمام إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ولا تضغط عليها القوى النووية الرسمية، لإجبارها على ذلك، بل تحميها، فمثلاً تعمل القوى الغربية، وخصوصا الولايات المتحدة، على حماية الحصرية النووية الإسرائيلية في الشرق الأوسط، فضلاً عن تفوقها في مجال الأسلحة التقليدية، بمنع الآخرين (الدول العربية وإيران) من حيازة هذا السلاح، هذا إذا فترضنا أن دولاً عربية تسعى حقاً إلى امتلاكه. أما كوريا الشمالية، فانضمت إلى المعاهدة، إلا أنها انسحبت منها في العام 2003.
إذن، موقف القوى النووية الرسمية هو نفسه منذ عقود؛ دعم معاهدة حظر الانتشار النووي مع
الاتجاه الثاني، وهو الأضعف، لا يكتفي بحظر انتشار الأسلحة النووية، بل يقول بحظرها أصلاً، أي جعلها أسلحة ممنوعة بحكم القانوني الدولي، على نمط حظر الأسلحة البيولوجية منذ 1972، وحظر الأسلحة الكيميائية منذ 1993. ويرى أصحابه (من دول وجمعيات ومنظمات أهلية محلية وعابرة للأوطان) أن خير سبيلٍ لحماية الكوكب من الدمار الشامل هو جعله منطقة خالية تماماً من السلاح النووي. وتقول الدول المنخرطة في حملة حظر الأسلحة النووية إنها لا تنفع أمام التهديدات الجديدة، وإن استعمالها يعني نهاية الحياة، ومن ثم فالحل الوحيد لإقناع الدول التي تتملكها للتخلص منها هو حظرها تماماً. وتعد النمسا وإيرلندا والسويد والمكسيك من الدول الأكثر نشاطاً في هذا المجال.
وهذا هو مضمون رسالة المؤتمر المنعقد في الأمم المتحدة، منذ 27 مارس/ آذار الماضي، والذي تشارك فيه 113 دولة. وبالطبع، لم يكن من المتوقع أن تقبل القوى النووية وحلفاؤها بهذا المسعى الذي سيجرّدها من أهم مصادر قوتها العسكرية، فضلاً عن أن هذه القوى النووية شرعت في استثماراتٍ ضخمةٍ، لتجديد ترساناتها النووية وتطويرها. لذا، رفضت القوى النووية الرسمية الخمس فكرة المؤتمر ومضمونه جملة وتفصيلا.
بدأ هذا المؤتمر أشغاله على أساس قرارٍ صادقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2016، ينص على التفاوض حول آلية قانونية ملزمة للدول، تقضي بحظر الأسلحة النووية نهائياً وإلى الأبد، صوتت عليه 113 دولة، وعارضته 35 دولة منها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ومعظم الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فيما امتنعت 13 دولة عن التصويت، منها الصين التي رفضت في ما بعد المشاركة في المؤتمر.
تتخوف القوى النووية الرسمية من إمكانية توصل الدول المشاركة في مثل هذه العملية، طويلة الأمد، إلى اتفاقٍ على معاهدة دولية حول حظر الأسلحة النووية، وما لذلك من تبعات، فعدم
من منظور موازين القوى، الغلبة للقوى النووية الرسمية، أما القوى النووية غير الرسمية فهي لا تكترث أصلاً بالقانون الدولي، وإلا لما أصبحت نووية. لكن القانون الدولي يقوم على إيجاد معايير جديدة، والعمل بها بمجرد أن تتبناها الأغلبية. وهذا ما سيتسبب في مشكلات للقوى النووية الرسمية، فبحكم عضويتها الدائمة في مجلس الأمن، تساهم الأخيرة بقوة في صياغة معايير القانون الدولي، ورفضها بعض معاييرها سيحدّ سياسياً من هامش مناورتها، ويفقدها بعض النفوذ السياسي دولياً. فضلاً عن ذلك، فإن بعض القوى النووية الرسمية، مثل الولايات المتحدة التي نشرت أسلحتها النووية في بعض الدول (خمس دول أعضاء في الحلف الأطلسي توجد أسلحة نووية أميركية على أراضيها، هولندا وألمانيا وبلجيكا وإيطاليا وتركيا) ستُجبر على سحبها، في حال انضمام دولة معنية (هولندا مثلاً امتنعت عن التصويت على قرار الجمعية العامة) إلى المعاهدة المنشودة.
لا توجد، في الراهن، دلالات على احتمال التقريب بين الاتجاهين، نظراً إلى التناقض بينهما ولرفض القوى النووية الانخراط في المحادثات، بعض النظر عن الالتزام بنتائجها من عدمه. أما القوى النووية غير الرسمية فهي تراهن على مصلحة الأولى في إجهاض المسعى.
بغض النظر عن مواقف الطرفين، الأمر بحاجة إلى تفكير معمق، لأن السلاح النووي هو الذي سمح بالتحول من نظام دولي (نظام الحرب الباردة) إلى نظام دولي جديد من دون حرب، وهي سابقةٌ في التاريخ، فتوازن الرعب النووي، الذي حال دون مواجهة مسلحة مباشرة بين أميركا والاتحاد السوفييتي، يحول اليوم من دون أي مواجهة مماثلة بين القوى الكبرى. ومن ثم، قد يبدو حظر الأسلحة النووية حلاً لتجنيب العالم دماراً محتملاً، لكن ذلك يعني حتماً حرمانه من صمام أمان منع الحروب بين القوى الكبرى. ومن ثم، ليس مستبعداً عودة ويلات الحروب "التقليدية"، بعد التخلص من صمام الأمان النووي، على الرغم من رعبه... فضلاً عن ذلك، ليست المشكلة اليوم في التهور النووي لدولٍ مثل كوريا الشمالية، وإنما في احتمال استحواذ جماعاتٍ إرهابية وإجرامية على مواد نووية. من هذا المنظور، يبدو حظر الانتشار النووي باتجاه الفواعل غير الدولتية (نسبة إلى الدولة) أولى وأكثر إلحاحا من حظر الأسلحة النووية نهائياً (وهي عملية معقدة وطويلة الأمد في كل الأحوال).