05 نوفمبر 2024
الجائعون قادمون
على الرغم من أنّ أغلب التوقعات والقراءات التي اطّلعتُ عليها، لباحثين إيرانيين وخبراء عرب في الحالة الإيرانية، كانت تؤكّد أنّه لا أفق سياسيا أو تطوّرا نوعيا يمكن أن يترتب على الاحتجاجات التي شهدتها إيران أخيرا، إلاّ أنّ شروطها ما تزال قائمة أولاً، وثانياً لا تخلو من دلالات مهمة، خصوصا لنا في العالم العربي.
ثمّة اتفاق بين جميع تلك القراءات على أمور رئيسة؛ احتجاجات مرتبطة، ابتداءً، بالأوضاع الاقتصادية والمعيشية، قبل أن تمتد إلى الطلاب والناشطين السياسيين، وعلى أنّها مختلفة تماماً عن احتجاجات 2009 التي تلت الانتخابات وعملية التزوير، وكانت بقيادة التيار الإصلاحي والثورة الخضراء. لذلك المحتجّون بلا أب شرعي يعترف بهم ويقودهم، على الرغم من الحديث عن بعض المراجع الدينية ورموز التيار المحافظ، الذين أعلنوا براءتهم مما يحدث.
الدلالة المرتبطة بإيران، عربياً، أنّ من قام بهذه الاحتجاجات هي الطبقات الفقيرة والمهمّشة، وليست الطبقة الوسطى التي قادت الربيع العربي، وكانت ثورات الطبقات الوسطى التكنوقراطية المثقفة، كما يحلل ويرصد المفكر الأميركي الشهير، فرانسيس فوكوياما (في كتابه الانحطاط السياسي)، بينما احتجاجات إيران ذات طابع اقتصادي صارخ، ومرتبطة بالطبقات الأقلّ شأناً، وتشمل التيارات المحافظة (الممسكة بالدولة العميقة) والإصلاحيين (قوى التغيير الموعود).
تقودنا هذه الملاحظة إلى معاينة ما يحدث في تونس اليوم، فالعملية الديمقراطية والانتخابات قائمة، والحركات الإصلاحية التي كانت أمس في المعارضة هي اليوم شريك في السلطة. مع ذلك، لم تتغير الأوضاع الاقتصادية، وعجلة النمو لم تتحرّك، ما دفع الطبقات الفقيرة والمحرومين والعاطلين عن العمل إلى الانتفاضة العنيفة، وليست السلمية (كما حدث مع الطبقة الوسطى).
وجه الشبه بين أحداث تونس وإيران (وقبلهم احتجاجات الريف المغربي نسبيا) أنّها جاءت من خارج رحم القوى التقليدية والأطر الحزبية المعروفة. وفي أغلبها من أشخاصٍ غير بارزين سياسيين، أو في مواقع قيادية رسمية. ولعلّ بروز اسم ناصر الزفزافي في الريف المغربي، على سبيل المثال، وهو من الطبقة العامة، وكان تاجراً بسيطاً، غير معروف بانتماء أيديولوجي محدّد، ولا بانتماء تنظيمي معين، بمثابة مؤشّر مهمّ على هذه الحالة الجديدة.
هذا وذاك يفتح المجال إلى إعادة قراءة ما يحدث في العالم العربي، إذا تجاوزنا التسميم الراهن لمناخات الهوية (بمعنى الصراعات الطائفية والهواجس الدينية نتيجة ما يحدث في دول عديدة)، فإنّ ثورات الربيع العربي كانت نتاج الطبقة الوسطى وجيل الشباب الجامعي المتعلّم والمثقف. أمّا احتجاجات إيران وتونس والريف المغربي سابقاً، فهي مقدّمة للحظة تاريخية خطيرة قد تكون قادمة مرتبطة بالأزمات الاقتصادية والمالية والضغوط السكانية، كالبطالة والفقر والحرمان الاجتماعي.
يتزاوج ذلك كلّه مع الانفجارات المجتمعية والانقسامات الكبرى المرعبة في الدول التي تشهد حروباً داخلية وأزمات طاحنة، مثل سورية والعراق واليمن وليبيا، أدت إلى عمليات تهجير سكانية كبرى وصراعات دموية، وفي وسط هذا الجحيم (المستمر منذ سبعة أعوام) بدأ جيل جديد يصعد ويكبر، سواء وسط الحروب أو مخيمات اللاجئين في دول الجوار، أو النازحين في الدول نفسها، يعاين معنى القتل والجوع والألم والخوف والدمار بصورة مباشرة ويومية.
الخلاصة؛ من كان يظنّ أنّ ثورات الربيع العربي غمامة صيفٍ عابرة، أو حدث تمّ تجاوزه، فإنّها كانت أشبه بإنذار مبكّر لوضعٍ لا يمكن أن يستمر، لأنّه سيولّد ما هو أسوأ منه بكثير. هذا من ناحية. كما أنّ الديمقراطية إن لم تتزاوج مع مشروعات وطنية لتغييرات جوهرية تمس التعليم والاقتصاد والتنمية، فإنّها لن تكون حبل الإنقاذ الذي تنتظره المجتمعات والشعوب. ومن ناحية ثالثة، من الواضح أنّ الأوضاع الاقتصادية والمالية تدفع بعض الطبقات إلى كسر حاجز الخوف، عندما لا تشعر أنّ هنالك ما تخسره، فكانت "السوشيال ميديا" هي من كسر حاجز الخوف والصمت في الثورات العربية 2011، لكن الجوع والحرمان والتهميش هي من تكسره في الاحتجاجات القادمة.
ثمّة اتفاق بين جميع تلك القراءات على أمور رئيسة؛ احتجاجات مرتبطة، ابتداءً، بالأوضاع الاقتصادية والمعيشية، قبل أن تمتد إلى الطلاب والناشطين السياسيين، وعلى أنّها مختلفة تماماً عن احتجاجات 2009 التي تلت الانتخابات وعملية التزوير، وكانت بقيادة التيار الإصلاحي والثورة الخضراء. لذلك المحتجّون بلا أب شرعي يعترف بهم ويقودهم، على الرغم من الحديث عن بعض المراجع الدينية ورموز التيار المحافظ، الذين أعلنوا براءتهم مما يحدث.
الدلالة المرتبطة بإيران، عربياً، أنّ من قام بهذه الاحتجاجات هي الطبقات الفقيرة والمهمّشة، وليست الطبقة الوسطى التي قادت الربيع العربي، وكانت ثورات الطبقات الوسطى التكنوقراطية المثقفة، كما يحلل ويرصد المفكر الأميركي الشهير، فرانسيس فوكوياما (في كتابه الانحطاط السياسي)، بينما احتجاجات إيران ذات طابع اقتصادي صارخ، ومرتبطة بالطبقات الأقلّ شأناً، وتشمل التيارات المحافظة (الممسكة بالدولة العميقة) والإصلاحيين (قوى التغيير الموعود).
تقودنا هذه الملاحظة إلى معاينة ما يحدث في تونس اليوم، فالعملية الديمقراطية والانتخابات قائمة، والحركات الإصلاحية التي كانت أمس في المعارضة هي اليوم شريك في السلطة. مع ذلك، لم تتغير الأوضاع الاقتصادية، وعجلة النمو لم تتحرّك، ما دفع الطبقات الفقيرة والمحرومين والعاطلين عن العمل إلى الانتفاضة العنيفة، وليست السلمية (كما حدث مع الطبقة الوسطى).
وجه الشبه بين أحداث تونس وإيران (وقبلهم احتجاجات الريف المغربي نسبيا) أنّها جاءت من خارج رحم القوى التقليدية والأطر الحزبية المعروفة. وفي أغلبها من أشخاصٍ غير بارزين سياسيين، أو في مواقع قيادية رسمية. ولعلّ بروز اسم ناصر الزفزافي في الريف المغربي، على سبيل المثال، وهو من الطبقة العامة، وكان تاجراً بسيطاً، غير معروف بانتماء أيديولوجي محدّد، ولا بانتماء تنظيمي معين، بمثابة مؤشّر مهمّ على هذه الحالة الجديدة.
هذا وذاك يفتح المجال إلى إعادة قراءة ما يحدث في العالم العربي، إذا تجاوزنا التسميم الراهن لمناخات الهوية (بمعنى الصراعات الطائفية والهواجس الدينية نتيجة ما يحدث في دول عديدة)، فإنّ ثورات الربيع العربي كانت نتاج الطبقة الوسطى وجيل الشباب الجامعي المتعلّم والمثقف. أمّا احتجاجات إيران وتونس والريف المغربي سابقاً، فهي مقدّمة للحظة تاريخية خطيرة قد تكون قادمة مرتبطة بالأزمات الاقتصادية والمالية والضغوط السكانية، كالبطالة والفقر والحرمان الاجتماعي.
يتزاوج ذلك كلّه مع الانفجارات المجتمعية والانقسامات الكبرى المرعبة في الدول التي تشهد حروباً داخلية وأزمات طاحنة، مثل سورية والعراق واليمن وليبيا، أدت إلى عمليات تهجير سكانية كبرى وصراعات دموية، وفي وسط هذا الجحيم (المستمر منذ سبعة أعوام) بدأ جيل جديد يصعد ويكبر، سواء وسط الحروب أو مخيمات اللاجئين في دول الجوار، أو النازحين في الدول نفسها، يعاين معنى القتل والجوع والألم والخوف والدمار بصورة مباشرة ويومية.
الخلاصة؛ من كان يظنّ أنّ ثورات الربيع العربي غمامة صيفٍ عابرة، أو حدث تمّ تجاوزه، فإنّها كانت أشبه بإنذار مبكّر لوضعٍ لا يمكن أن يستمر، لأنّه سيولّد ما هو أسوأ منه بكثير. هذا من ناحية. كما أنّ الديمقراطية إن لم تتزاوج مع مشروعات وطنية لتغييرات جوهرية تمس التعليم والاقتصاد والتنمية، فإنّها لن تكون حبل الإنقاذ الذي تنتظره المجتمعات والشعوب. ومن ناحية ثالثة، من الواضح أنّ الأوضاع الاقتصادية والمالية تدفع بعض الطبقات إلى كسر حاجز الخوف، عندما لا تشعر أنّ هنالك ما تخسره، فكانت "السوشيال ميديا" هي من كسر حاجز الخوف والصمت في الثورات العربية 2011، لكن الجوع والحرمان والتهميش هي من تكسره في الاحتجاجات القادمة.