19 أكتوبر 2019
جيش أوروبي بسبب حليف غير عاقل؟
قد يصبح الدفاع الأوروبي كياناً حقيقياً، ليس بسبب التهديدات ومدركات التهديد والشواغل الأمنية الأوروبية، وإنما بسبب مضي الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في التهكم من الأوروبيين، بل وإهانتهم ومعاملتهم بشكلٍ لا يليق إطلاقاً بالعلاقة بين حلفاء تقليديين، مثل الدول الأوروبية والولايات المتحدة، فالرئيس الأميركي يبدو مرتاحاً ولطيفاً مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وحتى الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، كما حدث خلال قمتهما في سنغافورة بعد فترةٍ من تبادل صبيانيٍّ للتصريحات غير معهود في حوليات الدبلوماسية الدولية. ولا يتردّد ترامب في إهانة بعض القادة الأوروبيين، عبر تغريدات اندفاعية بدون أية مصفاة. وإن واصل على هذا المنوال، فإنه سيأتي على شعرة معاوية، ويدمر الرابطة الإستراتيجية العابرة للأطلسي.
ربما كان الأوروبيون يتمنون أن يلقى ترامب هزيمة في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، علَّه يهدأ ويتعقل بعض الشيء، لكن ذلك لم يحدث، فالديمقراطيون استرجعوا الأغلبية في مجلس النواب، فيما احتفظ الجمهوريون بالأغلبية في مجلس الشيوخ. ومن ثم، ليس من المصادفة أن يعود الحديث هذا الأسبوع، في الأوساط الأوروبية، إلى تشكيل جيش أوروبي. صحيح أن هذه المسألة ليست جديدةً، والمبادرات تتوالى من دون أن تجسّد على أرض الواقع. والسبب عدم
توفر قناعةٍ لدى أغلبية الدول الأوروبية بجدوى إنشاء قوة أوروبية وضرورتها، خصوصا أن هناك مظلة أطلسية (الناتو)، مستندة للقوة الأميركية، تحميها، لا تكلفها مالا كثيرا. وهذا طبعاً ما يثير غضب الأميركيين الذين يضغطون، أكثر فأكثر، على الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف الأطلسي، لترفع ميزانياتها الدفاعية، لتقاسم العبء العسكري. ويعد ترامب الرئيس الأميركي الأكثر إلحاحاً على هذه القضية، وبشكلٍ لم تعهده التقاليد الدبلوماسية بين الحلفاء.
سبق للدول الأوروبية الأعضاء في "الناتو" أن التزمت برفع ميزانياتها العسكرية تدريجياً، حتى تخصص نسبة 2% من إجمالي الناتج المحلي للدفاع، علماً أن خمس دول فقط في الحلف تحترم هذه القاعدة. وجلها مخير في ذلك أكثر مما هو مجبر، فمن جهةٍ لديها قناعة إستراتيجية بأن أوروبا تعيش في جوار "العلاقة مع روسيا" وبيئة دولية غير مستقرة. ومن جهة ثانية، هناك قناعة، سيما لدى الدول الأوروبية أطلسية التوجه، أن رفع إنفاقها العسكري سيكون دلالةً على التزامها بحلف الناتو، وأداة لتوطيد علاقة التحالف الإستراتيجية مع أميركا. لكن هذه المعادلة تغيرت، مع التوجه الجديد للولايات المتحدة في عهد ترامب، ما جعل الأوروبيين يتأملون في القول المأثور: عدو عاقل خير من صديق (وهنا مفردة الحليف أحسن) جاهل.
وربما يتساءل بعض القادة في دول الاتحاد الأوروبي عن جدوى التعاون مع أميركا في الوقت الحالي، ورفع إنفاقهم لدعم قدرات "الناتو"، إذا كانت الثقة العابرة لحلف الأطلسي قد تزعزعت. والواضح أن هناك خيبة أمل ومللا من سياسة ترامب، فالحديث عن ضرورة بناء جيش أوروبي، بغض النظر عن واقعية الطرح من عدمها، بادر به الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي طالما أكد على ضرورة التحاور مع أميركا ترامب، والتعاون معها، لإقناعها بالعدول عن سياساتها الاقتصادية والأمنية والمناخية. واستمر ماكرون على نهجه المهادن والمتعاون، على الرغم من أنه عاد خالي الوفاض من زيارته الولايات المتحدة. لكن على ما يبدو بلغ السيل الزبى، ولم تعد فرنسا ماكرون تحتمل مزاج ترامب، وتغريداته المتناقضة والاندفاعية وسياسته المعادية لمصالح أوروبا (الحمائية، الموقف من النووي الإيراني، الموقف من روسيا..) ومن بعض القضايا العالمية، سيما اتفاق المناخ.. ولا يجادل اثنان في أن العبارات الأقوى، كتلك الخاصة بالقوميات، الواردة في خطاب الرئيس الفرنسي، الذي ألقاه في الاحتفال بمرور قرن على نهاية الحرب العالمية الأولى، موجّهة بالأساس إلى الرئيس الأميركي الذي صرح، قبل ذلك بأيام، بأنه قومي.
جدّد الرئيس الفرنسي، بعد الاحتفالات بمئوية الحرب العالمية الأولى إرادته إنشاء "جيش
أوروبي"، حتى لا يبقى الأوروبيون خاضعين للولايات المتحدة، لأن مصداقية أوروبا على المحك، على حد قوله. ضمت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، صوتها لصوت ماكرون مساندة ومبادرة. ففي خطابها أمام البرلمان الأوروبي، أعلنت ميركل دعمها إنشاء جيش أوروبي، قد يكون مكملاً للحلف الأطلسي، لكن العبارة الأهم في خطابها، والمعبرة عن حالة الاستياء الأوروبي هي التالية: "لقد ولى العهد الذي كان باستطاعتنا الاعتماد فيه بدون مشكل على الآخرين".
إنها مفارقة ليس بعدها مفارقة: تأسيس جيش أوروبي بسبب الحليف، غير العاقل، وليس بسبب العدو/ التهديدات. هل سيدفع ترامب الأوروبيين إلى العمل جدّيا من أجل الانعتاق الإستراتيجي من الولايات المتحدة؟ رد على هذه المبادرة بتغريدة اندفاعية قائلاً: على الأوروبيين دفع ما عليهم في ميزانية "الناتو"، بدل إنشاء جيش أوروبي. وهذا يعني أنه ربما بدأ يتفطّن إلى أن تحقيق هذا المسعى الأوروبي سيكون على حساب "الناتو" على الأقل مالياً.
مهما كان الأمر، وبغض النظر عما آلت إليه المبادرات السابقة، فإن مصير المبادرة الأوروبية الجديدة مرهون بعدة عوامل. أولها ترتيب أمور البيت الأوروبي، للتوصل إلى توافق حول هذه المبادرة التي لم تلق دعم الأغلبية بعد، وربما لن تحظى به، فألمانيا هي الوحيدة من دعم المبادرة الفرنسية، لكن ميركل في وضع سياسي صعب، وهذه آخر ولاية لها، ما يعني أن الدعم الألماني غير مضمون. ثانيها، الشرخ الأيديولوجي في أوروبا يجعل الحكومات الشعبوية/ المتطرّفة أقرب من أميركا ترامب منها من فرنسا ماكرون. ثالثها، فشل ترامب في الفوز بولايةٍ ثانيةٍ، سيساهم في إجهاض المشروع، أو على الأقل في تأجيله. في المقابل، فإن تشدده المتواصل وفوزه بولاية ثانية قد يسرّع تجسيد مشروع الجيش الأوروبي، خصوصا أن قاعدة التمايز الذاتي، المعمول بها في بعض المجالات في الاتحاد الأوروبي، قد تسمح بتشكيل جيش أوروبي، تشارك فيها مجموعة محدودة، ولكن فاعلة من الدول الأعضاء، ريثما يلتحق بها بقية الأعضاء، إن أرادوا.
ربما كان الأوروبيون يتمنون أن يلقى ترامب هزيمة في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، علَّه يهدأ ويتعقل بعض الشيء، لكن ذلك لم يحدث، فالديمقراطيون استرجعوا الأغلبية في مجلس النواب، فيما احتفظ الجمهوريون بالأغلبية في مجلس الشيوخ. ومن ثم، ليس من المصادفة أن يعود الحديث هذا الأسبوع، في الأوساط الأوروبية، إلى تشكيل جيش أوروبي. صحيح أن هذه المسألة ليست جديدةً، والمبادرات تتوالى من دون أن تجسّد على أرض الواقع. والسبب عدم
سبق للدول الأوروبية الأعضاء في "الناتو" أن التزمت برفع ميزانياتها العسكرية تدريجياً، حتى تخصص نسبة 2% من إجمالي الناتج المحلي للدفاع، علماً أن خمس دول فقط في الحلف تحترم هذه القاعدة. وجلها مخير في ذلك أكثر مما هو مجبر، فمن جهةٍ لديها قناعة إستراتيجية بأن أوروبا تعيش في جوار "العلاقة مع روسيا" وبيئة دولية غير مستقرة. ومن جهة ثانية، هناك قناعة، سيما لدى الدول الأوروبية أطلسية التوجه، أن رفع إنفاقها العسكري سيكون دلالةً على التزامها بحلف الناتو، وأداة لتوطيد علاقة التحالف الإستراتيجية مع أميركا. لكن هذه المعادلة تغيرت، مع التوجه الجديد للولايات المتحدة في عهد ترامب، ما جعل الأوروبيين يتأملون في القول المأثور: عدو عاقل خير من صديق (وهنا مفردة الحليف أحسن) جاهل.
وربما يتساءل بعض القادة في دول الاتحاد الأوروبي عن جدوى التعاون مع أميركا في الوقت الحالي، ورفع إنفاقهم لدعم قدرات "الناتو"، إذا كانت الثقة العابرة لحلف الأطلسي قد تزعزعت. والواضح أن هناك خيبة أمل ومللا من سياسة ترامب، فالحديث عن ضرورة بناء جيش أوروبي، بغض النظر عن واقعية الطرح من عدمها، بادر به الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي طالما أكد على ضرورة التحاور مع أميركا ترامب، والتعاون معها، لإقناعها بالعدول عن سياساتها الاقتصادية والأمنية والمناخية. واستمر ماكرون على نهجه المهادن والمتعاون، على الرغم من أنه عاد خالي الوفاض من زيارته الولايات المتحدة. لكن على ما يبدو بلغ السيل الزبى، ولم تعد فرنسا ماكرون تحتمل مزاج ترامب، وتغريداته المتناقضة والاندفاعية وسياسته المعادية لمصالح أوروبا (الحمائية، الموقف من النووي الإيراني، الموقف من روسيا..) ومن بعض القضايا العالمية، سيما اتفاق المناخ.. ولا يجادل اثنان في أن العبارات الأقوى، كتلك الخاصة بالقوميات، الواردة في خطاب الرئيس الفرنسي، الذي ألقاه في الاحتفال بمرور قرن على نهاية الحرب العالمية الأولى، موجّهة بالأساس إلى الرئيس الأميركي الذي صرح، قبل ذلك بأيام، بأنه قومي.
جدّد الرئيس الفرنسي، بعد الاحتفالات بمئوية الحرب العالمية الأولى إرادته إنشاء "جيش
إنها مفارقة ليس بعدها مفارقة: تأسيس جيش أوروبي بسبب الحليف، غير العاقل، وليس بسبب العدو/ التهديدات. هل سيدفع ترامب الأوروبيين إلى العمل جدّيا من أجل الانعتاق الإستراتيجي من الولايات المتحدة؟ رد على هذه المبادرة بتغريدة اندفاعية قائلاً: على الأوروبيين دفع ما عليهم في ميزانية "الناتو"، بدل إنشاء جيش أوروبي. وهذا يعني أنه ربما بدأ يتفطّن إلى أن تحقيق هذا المسعى الأوروبي سيكون على حساب "الناتو" على الأقل مالياً.
مهما كان الأمر، وبغض النظر عما آلت إليه المبادرات السابقة، فإن مصير المبادرة الأوروبية الجديدة مرهون بعدة عوامل. أولها ترتيب أمور البيت الأوروبي، للتوصل إلى توافق حول هذه المبادرة التي لم تلق دعم الأغلبية بعد، وربما لن تحظى به، فألمانيا هي الوحيدة من دعم المبادرة الفرنسية، لكن ميركل في وضع سياسي صعب، وهذه آخر ولاية لها، ما يعني أن الدعم الألماني غير مضمون. ثانيها، الشرخ الأيديولوجي في أوروبا يجعل الحكومات الشعبوية/ المتطرّفة أقرب من أميركا ترامب منها من فرنسا ماكرون. ثالثها، فشل ترامب في الفوز بولايةٍ ثانيةٍ، سيساهم في إجهاض المشروع، أو على الأقل في تأجيله. في المقابل، فإن تشدده المتواصل وفوزه بولاية ثانية قد يسرّع تجسيد مشروع الجيش الأوروبي، خصوصا أن قاعدة التمايز الذاتي، المعمول بها في بعض المجالات في الاتحاد الأوروبي، قد تسمح بتشكيل جيش أوروبي، تشارك فيها مجموعة محدودة، ولكن فاعلة من الدول الأعضاء، ريثما يلتحق بها بقية الأعضاء، إن أرادوا.