06 نوفمبر 2024
وعاد إلى أمّه في كفن
يردّدون ويستغربون، ويكثرون من التفسير والتأويل، كيف ابتسمت، وقد عاد إليها في كفن، ما سر بسمتها، ما سر انفراج شفتيها، لماذا افترّ ثغرها؟ لا أحد يجد جواباً للسؤال، فيلجأون إلى علماء النفس ويستنجدون بهم، هل من تفسيرٍ لديكم، فيما يضع المحللون السياسيون تصوراً آخر بخصوص ابتسامتها، ولكنه في النهاية عاد إليها في كفن، خرج في وقت لا يعتاده الناس للخروج، لكن مواعيد البحر تختلف عن مواعيد أهل الأرض، فهو يبحث عن رزقٍ قليلٍ بين أمواج البحر الكبير، وأمامه مخاطرتان، فالبحر مشهور ومعروف بأنه ليس له أمان، أما العدو فهو يتربص ببوارجه وقواربه التي تمخر عباب البحر، لترهب البعيد والقريب، لكنه خرج وأوصد باب الدار خلفه، وسمعت أمه وقع أقدامه تبتعد، ودعا قلبها أن يعود على قدميه، وفي كل مرة كانت تتوقع أن يعود في كفن.
كان الجمع غفيراً حولها، حين عادوا إليها بجثمان فلذة كبدها، بعد أن احتجزه العدو ثمانية عشر يوماً. كانوا يشعرون بأقل من شعورها بالتأكيد، لكن الجميع كان يحني جبهته احتراماً لبسمتها، أما دموعها فكانوا يشعرون بأنها تزلزل الأرض تحتهم، وهل هناك أكثر قوة من دموع الأم، أما الصمت الذي خيم فوق رؤوسهم، وكأن عليها الطير، فهذا الصمت بسبب وجودهم في حضرة دم الشهيد الحاضر، المسجى أمامهم.
هل كان بارداً، بعد أن أمضى في ثلاجة الموتى لدى العدو كل هذه الأيام، وكيف مرت الأيام بأمه، وهي تنتظر عودته.. يا لهول طول انتظارها، لن يعود على قدميه، يا امرأة، لن يطلب منك أن تقطعي حبات البندورة وتشويها فوق نار الموقد العتيق في مطبخك المتصدع، وتضعيها بجوار طبق واسع، اصطفت فوقه بضع سمكات مشوية اصطادها، واستبقاها لطعام غداء العائلة، فيما باع أكثرها في سوق المخيم القريب، لكي يجمع بعض المال الضروري، لإعالة هذه العائلة المستورة ببيت صغير، والكثيرة الاحتياجات والطلبات.
نعرف الحكاية، يا سيدتي. نعرف أنه لم يكمل تعليمه في المدرسة، وتوجه صوب البحر، ليمارس مهنة الآباء والأجداد، فعائلتكم من العائلات الشهيرة بامتهان الصيد، على الرغم من أنها منحدرة الجذور من قرية مهجرة صغيرة قرب مدينة المجدل المحتلة، وهي قرية حمامة، وأصبح اسمها مقترناً بالبحر وخيراته، وكلما نظر أحدهم في وجه أحد أبناء العائلة، يرى البشرة التي لوّحتها الشمس والأسنان البيضاء المرصوصة السليمة، لأنها تتغذّى على السمك الطازج بكثرة.
في هامش ضيق، تفيد دراسة حديثة بأن من يتناولون السمك بكثرة يعيشون عمراً طويلاً، وبأن السمك يحمي من الموت المبكر، لكنهم لم يتوصلوا بعد إلى أن صائد السمك يتعرّض للقتل المبكر.
نعود إلى بسمتك التي غاظت العدو، وتصدّرت وسائل الإعلام، والتي كتبوا عنها أنها تعادل ألف صاروخ، فقد فسرها علماء النفس بأنها بسمة الصدمة. أما المحللون السياسيون، فيقولون إنك ابتسمت فرحاً بأنه قد عاد، ولم يدفن في مقبرة الأرقام الإسرائيلية، هل كنت تعلمين، يا سيدتي المتشحة بالسواد، أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تنشئ مثل هذه المقابر السرية، وهي مدافن بسيطة محاطة بالحجارة، وبدون شواهد، ومثبت فوق كل قبر لوحة معدنية، تحمل رقما مسلسلا. وبالتالي، هي سميت بهذا الاسم، بكل ما تحمله من إهانة للإنسانية، ومن حرمان للميت من أقل حقوقه، وهو أن يدون اسمه على شاهد قبره، وأن يعرف أهله مكانه، لكي يزوروه، ويجلسوا بجواره ليحدّثوه عن شوقهم ولوعتهم، وماذا جرى فوق الأرض بعده.
كنت خائفةً أن يصبح مجرد رقم، ألا يحمله رفاق المخيم في موكبٍ مهيب، ألا تزغرد النساء خلفه، ألا يراه أبوه وإخوته، ويرفعون هاماتهم فخراً به. كان الخوف يقتلك، وتنتظرين كل يوم أن يعلن عن الإفراج عن جثمانه، يا لقوة صبرك، يا أم الأمهات، كنت تنتظرينه، وقد عاد إليك كما وعدك آخر مرة، ولكن هذه المرة قد عاد في كفن.
"عن الشهيد الفلسطيني الصياد الصغير إسماعيل أبو ريالة"
كان الجمع غفيراً حولها، حين عادوا إليها بجثمان فلذة كبدها، بعد أن احتجزه العدو ثمانية عشر يوماً. كانوا يشعرون بأقل من شعورها بالتأكيد، لكن الجميع كان يحني جبهته احتراماً لبسمتها، أما دموعها فكانوا يشعرون بأنها تزلزل الأرض تحتهم، وهل هناك أكثر قوة من دموع الأم، أما الصمت الذي خيم فوق رؤوسهم، وكأن عليها الطير، فهذا الصمت بسبب وجودهم في حضرة دم الشهيد الحاضر، المسجى أمامهم.
هل كان بارداً، بعد أن أمضى في ثلاجة الموتى لدى العدو كل هذه الأيام، وكيف مرت الأيام بأمه، وهي تنتظر عودته.. يا لهول طول انتظارها، لن يعود على قدميه، يا امرأة، لن يطلب منك أن تقطعي حبات البندورة وتشويها فوق نار الموقد العتيق في مطبخك المتصدع، وتضعيها بجوار طبق واسع، اصطفت فوقه بضع سمكات مشوية اصطادها، واستبقاها لطعام غداء العائلة، فيما باع أكثرها في سوق المخيم القريب، لكي يجمع بعض المال الضروري، لإعالة هذه العائلة المستورة ببيت صغير، والكثيرة الاحتياجات والطلبات.
نعرف الحكاية، يا سيدتي. نعرف أنه لم يكمل تعليمه في المدرسة، وتوجه صوب البحر، ليمارس مهنة الآباء والأجداد، فعائلتكم من العائلات الشهيرة بامتهان الصيد، على الرغم من أنها منحدرة الجذور من قرية مهجرة صغيرة قرب مدينة المجدل المحتلة، وهي قرية حمامة، وأصبح اسمها مقترناً بالبحر وخيراته، وكلما نظر أحدهم في وجه أحد أبناء العائلة، يرى البشرة التي لوّحتها الشمس والأسنان البيضاء المرصوصة السليمة، لأنها تتغذّى على السمك الطازج بكثرة.
في هامش ضيق، تفيد دراسة حديثة بأن من يتناولون السمك بكثرة يعيشون عمراً طويلاً، وبأن السمك يحمي من الموت المبكر، لكنهم لم يتوصلوا بعد إلى أن صائد السمك يتعرّض للقتل المبكر.
نعود إلى بسمتك التي غاظت العدو، وتصدّرت وسائل الإعلام، والتي كتبوا عنها أنها تعادل ألف صاروخ، فقد فسرها علماء النفس بأنها بسمة الصدمة. أما المحللون السياسيون، فيقولون إنك ابتسمت فرحاً بأنه قد عاد، ولم يدفن في مقبرة الأرقام الإسرائيلية، هل كنت تعلمين، يا سيدتي المتشحة بالسواد، أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تنشئ مثل هذه المقابر السرية، وهي مدافن بسيطة محاطة بالحجارة، وبدون شواهد، ومثبت فوق كل قبر لوحة معدنية، تحمل رقما مسلسلا. وبالتالي، هي سميت بهذا الاسم، بكل ما تحمله من إهانة للإنسانية، ومن حرمان للميت من أقل حقوقه، وهو أن يدون اسمه على شاهد قبره، وأن يعرف أهله مكانه، لكي يزوروه، ويجلسوا بجواره ليحدّثوه عن شوقهم ولوعتهم، وماذا جرى فوق الأرض بعده.
كنت خائفةً أن يصبح مجرد رقم، ألا يحمله رفاق المخيم في موكبٍ مهيب، ألا تزغرد النساء خلفه، ألا يراه أبوه وإخوته، ويرفعون هاماتهم فخراً به. كان الخوف يقتلك، وتنتظرين كل يوم أن يعلن عن الإفراج عن جثمانه، يا لقوة صبرك، يا أم الأمهات، كنت تنتظرينه، وقد عاد إليك كما وعدك آخر مرة، ولكن هذه المرة قد عاد في كفن.
"عن الشهيد الفلسطيني الصياد الصغير إسماعيل أبو ريالة"