27 أكتوبر 2024
فرنسا بين الانتماءين الوطني والديني
كتب رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (CRIF)، فرانسيس كاليفا، مهدداً الزعيم السياسي اليساري الفرنسي، جان لوك ميلانشون، برفع دعوى قضائية، إثر هجوم الأخير على المؤسسة. فما هي هذه المؤسسة، وما هو الجرم العظيم الذي اقترفه الزعيم الشعبوي الأول في فرنسا بحقها؟
بعيداً عن حديث اللوبيات، الممقوت فرنسياً والمُحبّذ أميركياً، فإن للمجلس التمثيلي حضوراً قوياً للغاية في الساحة الفرنسية، حيث تحج إليه مختلف القوى السياسية عشية الانتخابات. ويُعتبر عشاؤه السنوي موعداً ثميناً يُعتبر من يُدعى إليه من المرضي عنهم، ومن يُقصى عنه من الضالين. وعلى الرغم من أن هذه المؤسسة "المدنية" فرنسية التسجيل وحقل النشاط، إلا أنها تبدو من مواقفها السياسية المُعلنة والمرتبطة حثيثاً بالدولة الإسرائيلية، وكأنها الممثل الرديف لها و"الوحيد" لليهود الفرنسيين، كما يحلو لها تسميتهم، أو للفرنسيين اليهود، وهو التعبير الأكثر التزاماً بالانتماء إلى مجموعة وطنية شاملة.
ويفخر رئيسها، فرنسيس كاليفا، بأنه من أقرب أصدقاء رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، شخصياً وسياسياً، وربما حتى على يمينه، كما يبدو واضحاً من مواقفه وتصريحاته المرتبطة أكثر بما يحصل في الطرف الآخر من المتوسط، على ما يعني اليهود كمجموعة دينية في الوطن الفرنسي. ومن المفيد الإشارة إلى أنه كان في شبابه عضواً ناشطاً في منظمة بيتار، اليمينية المتطرفة، والتي لم تمتنع عن اللجوء إلى العنف في كل مواجهة مع المظاهرات المنددة بالاحتلال الإسرائيلي، والمتضامنة، ولو بخجل، مع حقوق الشعب الفلسطيني.
أما جان لوك ميلانشون، فهو أشد السياسيين الفرنسيين إيماناً بنظرية المؤامرة، وأقربهم عقيدةً
وقلباً إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وأبعدهم حقيقةً عن حقوق الشعوب المضطهدة من فنزويلا إلى الصين مروراً بكوبا وسورية، وحيث لا ينفك يُدافع بشراسة عن انتهاكات الديكتاتوريين في هذه الدول وسواها، لعقيدة أيديولوجية بافلوفية تُقارِعُ المخططات الإمبريالية بكل ما تحتويه هذه العبارة، أي الإمبريالية، من المعنى واللامعنى. وبعد أن كان، مدة طويلة، جزءاً من التركيبة السياسية التقليدية الفرنسية، وعضوا في الحزب الاشتراكي الذي أوصله إلى تبوء موقع الوزارة في إحدى حكوماته، نراه اليوم يعتمد على فقدان الذاكرة الجمعي مُقدّماً نفسه عدوا لكل المؤسسات التقليدية، ومعتبراً نفسه البديل الثوري للرأسمالية المتفشية. وهو يعتمد على مواقف هوجاء، وتصريحات عالية الصوت فاقدة المعنى، في مقاربةٍ شبه مطابقة لخطاب اليمين المتطرف، ولكن من جهة اليسار. فماذا اقترف ميلانشون هذا من جرم يستحق عليه الويل والثبور؟
حاول، قبل أيام، المشاركة في باريس بما سميت "المسيرة البيضاء"، تخليداً لذكرى سيدة ثمانينية مُتهمٌ بقتلها أحد جيرانها لسرقتها، مع أنه أُرفق بهذا الاتهام، ومن دون أية مؤشرات ملموسة حتى اليوم، عنصر معاداة السامية، كون الراحلة يهودية. وقد تم طرده من المسيرة بطريقة مُشينة، وطردت إلى جانبه رئيسة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، مارين لوبين. ومن المفهوم نظرياً أن تُطرد هذه لما تمثله من حمولة فاشية، تمكن ترجمتها في أدبيات حزبها المعادي قناعةً للسامية، وإن لم يعد يُصرّح بهذا كما كان يفعل سابقاً. ومن الطبيعي أن يكون حضورها استفزازياً، وهي التي تسعى إلى تعديل صورة الحزب، اقتراباً من جذب ناخبين يمينيين جدد، يخشون من الخطاب الفاشي الملتصق بماضي الحزب. ويمكن اعتبار حضورها انتهازية سياسية، ليست نادرة في المشهد العام، خصوصاً أنها تسعى إلى اللعب على حبل الاستقطاب الفئوي، وتوجيه اللوم والإدانة إلى فئة الفرنسيين المسلمين، تناسقاً مع مبادئ حزبها الداعي الى الحد من الهجرة وطرد اللاجئين والتمييز على أساس الانتماءين، الثقافي والديني، فهي سعت إذاً إلى استغلال هذا الحادث، لتأجيج خطاب الكراهية ضد المسلمين والتقرّب من اليهود.
أما ميلانشون، فتم طرده بناءً على موقفه الانتقادي للسياسة الإسرائيلية، وهو ربما الموقف
الإيجابي الوحيد له على المستوى الدولي، ودعوة أعضاء في حزبه إلى مقاطعة منتجات المستوطنات. ويهدّد هذا التبرير مبادئ الجمهورية الفرنسية، لأنه يُبيّن أن مؤسسةً تدّعي تمثيل فئة دينية وطنية، تمثل بالأحرى مصالح دولة أجنبية وتدافع عن انتهاكاتها. وفي ذلك إساءة لهذه الفئة، بحيث يتم ربط حضورها ومستقبله بسياسات دولةٍ، يحكمها عنصريون ومتطرفون، وتحتل أراضي وتستوطنها على حساب حقوق شعبها. وبالتالي، هو يُعطي المبرّر الذهبي لمن يعادي السامية فعلاً، بأن يتلطى خلف مساندته قضية فلسطين، ويُساعد في تعقيد المشهد الفئوي في دولةٍ، قامت منذ ثورتها على تقديم الانتماء للوطن على أي انتماء فئوي آخر.
الاستقطاب الفئوي المستجد في فرنسا لا ينفك يتعمّق يوماً بعد يوم. ومن فادح الذكر أن يُصرّح وزير خارجيتها، جان إيف لودريان، إثر لقائه نتنياهو، في 29 مارس/ آذار المنصرم، بأن الأخير "أبدى رضاه عما تقوم به فرنسا ضد معاداة السامية". فالرضى من رئيس دولة اجنبية عن السياسات العامة المحلية لا يُعيب الدولة الفرنسية متى جاء من إسرائيل، بل هو مصدر افتخار وزير خارجيتها.
إذا كان رب البيت بالطبل ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص. ألم يسبق للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، التصريح، عن جهل أم عن دراية، إن "معاداة الصهيونية هي الوجه الآخر لمعاداة السامية"؟
بعيداً عن حديث اللوبيات، الممقوت فرنسياً والمُحبّذ أميركياً، فإن للمجلس التمثيلي حضوراً قوياً للغاية في الساحة الفرنسية، حيث تحج إليه مختلف القوى السياسية عشية الانتخابات. ويُعتبر عشاؤه السنوي موعداً ثميناً يُعتبر من يُدعى إليه من المرضي عنهم، ومن يُقصى عنه من الضالين. وعلى الرغم من أن هذه المؤسسة "المدنية" فرنسية التسجيل وحقل النشاط، إلا أنها تبدو من مواقفها السياسية المُعلنة والمرتبطة حثيثاً بالدولة الإسرائيلية، وكأنها الممثل الرديف لها و"الوحيد" لليهود الفرنسيين، كما يحلو لها تسميتهم، أو للفرنسيين اليهود، وهو التعبير الأكثر التزاماً بالانتماء إلى مجموعة وطنية شاملة.
ويفخر رئيسها، فرنسيس كاليفا، بأنه من أقرب أصدقاء رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، شخصياً وسياسياً، وربما حتى على يمينه، كما يبدو واضحاً من مواقفه وتصريحاته المرتبطة أكثر بما يحصل في الطرف الآخر من المتوسط، على ما يعني اليهود كمجموعة دينية في الوطن الفرنسي. ومن المفيد الإشارة إلى أنه كان في شبابه عضواً ناشطاً في منظمة بيتار، اليمينية المتطرفة، والتي لم تمتنع عن اللجوء إلى العنف في كل مواجهة مع المظاهرات المنددة بالاحتلال الإسرائيلي، والمتضامنة، ولو بخجل، مع حقوق الشعب الفلسطيني.
أما جان لوك ميلانشون، فهو أشد السياسيين الفرنسيين إيماناً بنظرية المؤامرة، وأقربهم عقيدةً
حاول، قبل أيام، المشاركة في باريس بما سميت "المسيرة البيضاء"، تخليداً لذكرى سيدة ثمانينية مُتهمٌ بقتلها أحد جيرانها لسرقتها، مع أنه أُرفق بهذا الاتهام، ومن دون أية مؤشرات ملموسة حتى اليوم، عنصر معاداة السامية، كون الراحلة يهودية. وقد تم طرده من المسيرة بطريقة مُشينة، وطردت إلى جانبه رئيسة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، مارين لوبين. ومن المفهوم نظرياً أن تُطرد هذه لما تمثله من حمولة فاشية، تمكن ترجمتها في أدبيات حزبها المعادي قناعةً للسامية، وإن لم يعد يُصرّح بهذا كما كان يفعل سابقاً. ومن الطبيعي أن يكون حضورها استفزازياً، وهي التي تسعى إلى تعديل صورة الحزب، اقتراباً من جذب ناخبين يمينيين جدد، يخشون من الخطاب الفاشي الملتصق بماضي الحزب. ويمكن اعتبار حضورها انتهازية سياسية، ليست نادرة في المشهد العام، خصوصاً أنها تسعى إلى اللعب على حبل الاستقطاب الفئوي، وتوجيه اللوم والإدانة إلى فئة الفرنسيين المسلمين، تناسقاً مع مبادئ حزبها الداعي الى الحد من الهجرة وطرد اللاجئين والتمييز على أساس الانتماءين، الثقافي والديني، فهي سعت إذاً إلى استغلال هذا الحادث، لتأجيج خطاب الكراهية ضد المسلمين والتقرّب من اليهود.
أما ميلانشون، فتم طرده بناءً على موقفه الانتقادي للسياسة الإسرائيلية، وهو ربما الموقف
الاستقطاب الفئوي المستجد في فرنسا لا ينفك يتعمّق يوماً بعد يوم. ومن فادح الذكر أن يُصرّح وزير خارجيتها، جان إيف لودريان، إثر لقائه نتنياهو، في 29 مارس/ آذار المنصرم، بأن الأخير "أبدى رضاه عما تقوم به فرنسا ضد معاداة السامية". فالرضى من رئيس دولة اجنبية عن السياسات العامة المحلية لا يُعيب الدولة الفرنسية متى جاء من إسرائيل، بل هو مصدر افتخار وزير خارجيتها.
إذا كان رب البيت بالطبل ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص. ألم يسبق للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، التصريح، عن جهل أم عن دراية، إن "معاداة الصهيونية هي الوجه الآخر لمعاداة السامية"؟