31 أكتوبر 2024
حجاب "النصرة" في ظل نظام الأسد
وصل، في الأول من مايو/ أيار الحالي، إلى مناطق سيطرة نظام الأسد 42 من مخطوفي قرية اشتبرق الذين كانوا في سجون جبهة النصرة في إدلب منذ ثلاث سنوات. هؤلاء، ومعظمهم من النساء والأطفال، علويون بالولادة، وهم مخطوفون لأنهم كذلك، غير أن أياً من النسوة المحرّرات اللواتي وصلن، بكامل حجابهن الشرعي (بحسب شرع الجهة الخاطفة)، لم تقدم على ما يمكن توقع حدوثه في مثل هذه الحالة. لم تخلع أي منهن حجابها "المفروض" في لحظة وصولها إلى المنطقة التي يفترض أن السلطة المسيطرة فيها لا تفرض الحجاب. كان يتوقع المرء هذا السلوك، نظراً إلى أن الحجاب في هذه الحالة جزء من عملية الخطف، أي إنه جزء قسري من عملية القسر الكلية التي هي الخطف، وهو فوق ذلك يحمل بصمة هوياتية مذهبية، تشكل، حسب الجهة الخاطفة، العمق الايديولوجي لعملية الخطف.
يشبه الأمر ما كانت عليه حلاقة الشعر على الصفر، وحلاقة الشوارب جزءا من الحجز في سجن تدمر العسكري سيئ الذكر. الأمر الذي جعل طول شعر الرأس والشوارب نوعاً من تأكيد التحرّر بالنسبة لسجين تدمر المحرّر، وربما نوعاً من الانتقام الرمزي، على الرغم من أن سجين تدمر كان يتحرّر من سجن النظام، ويبقى تحت سيطرة النظام نفسه. أما في الحالة التي تناقش هنا، فإن المحرّرات يصلن إلى منطقةٍ يفترض أنها معادية للجهة الخاطفة، ويفترض أنها ترحب بأي فعل تمرّدي، ولو كان رمزيا، ضد هذه الجهة.
السؤال هو لماذا لم تقدم أي من النسوة المحرّرات على خلع الحجاب الشرعي الذي كان
مفروضاً عليهن في فترة احتجازهن لدى جبهة النصرة، خلعاً استعراضياً مثلاً، أو فعلا تحرريا معلنا يقول للخاطف إنني أرفضك، وأرفض ما تفرضه علي من رموز، أو أرفض هذا الحجاب لأنه ارتبط بخطفك لي وقسري عليه؟ أليس هذا الحجاب هو في الواقع قطعةً ماديةً متبقيةً من عملية الخطف، ألا يشكل استمراراً رمزياً للخطف؟ هل امتنعت هؤلاء النسوة عن ذلك بفعل الاعتياد؟ ولكن من الطبيعي أن تكون لحظة التحرير أقوى من روتين الاعتياد. هل امتنعن عن ذلك بفعل تحول "إيماني" لديهن؟ ولو افترضنا ذلك، هل من المعقول أن يشمل هذا التحول جميع النسوة؟ ألا يوجد استثناء واحد مثلاً؟ ثم كيف يستوي هذا التحول الإيماني، لو حصل، مع التهجم الشديد على الخاطفين، في حين ينبغي النظر إليهم، والحالة هذه، "هداة"؟
يستمر خيط الأسئلة، ليشمل المستقبلين والمحرِّرين (اسم فاعل)، لماذا لم يتجرّأ أب أو أخ أو ابن أو بنت أو زوج إحدى المحرّرات، على انتزاع الحجاب عن رأسها نوعا من التحدّي للخاطفين "الإرهابيين" أو نوعا من إعلان الرفض وإرادة التحرّر منهم؟ هل هو احترام لخيار القريبة المحرّرة؟ ولكن هذه القريبة لم تكن بهذا الحجاب الشرعي حين خطفت، ولا حاجة للبرهان على أنه مفروض، ثم هل استشار أحد من هؤلاء المخطوفة المحرّرة ليعلم ما هو خيارها؟
السؤال الملحّ: لماذا لم يُقدم "شبيح" واحد أو مقاتل واحد ممن يهتفون بالولاء للأسد والدولة العلمانية، ويهتفون بالموت للإرهابيين المتطرفين العملاء الجاهلين.. إلى ما هناك من نعوت التخوين والتبخيس، على ما امتنع عنه أقارب المحرّرات؟ ألم يعثر هؤلاء على صورة جبهة النصرة في ذاك الحجاب الشرعي المفروض قسراً؟ لماذا سكتوا عن هذه الإضافة التي أملتها على مخطوفاتهم جبهة النصرة "العدوة" التي فرضت عليهم أن يروا مخطوفاتهم وفق الصورة التي "تشرعها" وتفرضها الجبهة، حتى حين يكنّ في ظل سلطة نظام الأسد؟
لا يغير في هذه المحاججة شيئاً أن تخلع هذه النسوة "حجاب النصرة" في ما بعد، ذلك أن لحظة التحدي انتهت بانتهاء الاستقبال، أي بانتهاء تلك اللحظة التي يرى الأهالي مخطوفاتهم على هيئة "رمزية" غير هيئتهن المعهودة. وبانتهاء اللحظة التي يُتاح فيها للمحرّرة أن تخلع حجابها المفروض، ولا تفعل. مرور هذه اللحظة من دون أي رد فعل يعني أن الجهة الخاطفة تمتلك قدرة على مجتمع المخطوفات تتجاوز القدرة العسكرية، أو قدرة القسر المادية، وتستمر إلى ما بعد الخطف. هل تنبع هذه القدرة من دونيةٍ مذهبيةٍ لمجتمع المخطوفات تجاه مجتمع الخاطفين؟
في منبج مثلاً، احتفلت النساء، بخروج "داعش" منها في صيف 2016، بحرق البراقع
والسير في الشوارع بوجه مكشوف وبتدخين السجائر .. إلخ. السبب عدم وجود دونية مذهبية لدى مجتمع هذه النسوة تجاه "داعش"، على اعتبار أن النسوة هناك ينتمين إلى المرجعية المذهبية نفسها. وهو ما لم نره في الحالة التي نناقشها، على الرغم من أن النسوة في هذه الحالة أقسى وأمرّ، لأنهن مخطوفات، ولسن مجرد نساءٍ في مدينة تحتلها قوة متشددة مذهبياً.
يمكن فهم سلوك الإبقاء على الحجاب المفروض على المخطوفات، واحترامه العلني، أنه سلوك موجه إلى المجتمع المذهبي الذي تنتمي إليه الجهة الخاطفة، وتزعم إنها تمثله، وليس إلى الجهة الخاطفة نفسها. أي إنه سلوكٌ ينطوي على إيماءة "خضوع" علنيةٍ لمجتمع الدين الرسمي "السني"، حتى لو أن المخطوفة المحرّرة تخلت لاحقاً عن هذا الحجاب.
ولكن ما سبق لا يفسر "احترام" عناصر النظام وشبيحته حجاب المحرّرات. الغالب أن ما ضبط هؤلاء عن الإقدام على استعراض "علماني وحداثي" بتخليص المحرّرات من حجابهن الشرعي ذاك هي توجيهات سلطوية هادفة إلى خطب ود أهل المذهب الرسمي، عن طريق تمرير هذا "الخضوع الرمزي"، في موازاة توجيهات أخرى هادفة إلى تدمير هذا المجتمع وتركيعه فعلياً.
هكذا تعزف سلطة الأسد لحن استمرارها الدموي، مرةً على وتر مذهبي عالي النبرة، ومرة على وتر آخر "خفيض الجناح"، لحن يجمع الخضوع المذهبي المسالم إلى سياسة القتل المعمم والتهجير القسري. وهكذا، حين يبدو القاتل محرّراً (اسم فاعل) لا يجد المجتمع المحسوب على النظام إلا الانصياع حتى الآن، الانصياع لضرورات هذا اللحن الجنائزي المستمر.
يشبه الأمر ما كانت عليه حلاقة الشعر على الصفر، وحلاقة الشوارب جزءا من الحجز في سجن تدمر العسكري سيئ الذكر. الأمر الذي جعل طول شعر الرأس والشوارب نوعاً من تأكيد التحرّر بالنسبة لسجين تدمر المحرّر، وربما نوعاً من الانتقام الرمزي، على الرغم من أن سجين تدمر كان يتحرّر من سجن النظام، ويبقى تحت سيطرة النظام نفسه. أما في الحالة التي تناقش هنا، فإن المحرّرات يصلن إلى منطقةٍ يفترض أنها معادية للجهة الخاطفة، ويفترض أنها ترحب بأي فعل تمرّدي، ولو كان رمزيا، ضد هذه الجهة.
السؤال هو لماذا لم تقدم أي من النسوة المحرّرات على خلع الحجاب الشرعي الذي كان
يستمر خيط الأسئلة، ليشمل المستقبلين والمحرِّرين (اسم فاعل)، لماذا لم يتجرّأ أب أو أخ أو ابن أو بنت أو زوج إحدى المحرّرات، على انتزاع الحجاب عن رأسها نوعا من التحدّي للخاطفين "الإرهابيين" أو نوعا من إعلان الرفض وإرادة التحرّر منهم؟ هل هو احترام لخيار القريبة المحرّرة؟ ولكن هذه القريبة لم تكن بهذا الحجاب الشرعي حين خطفت، ولا حاجة للبرهان على أنه مفروض، ثم هل استشار أحد من هؤلاء المخطوفة المحرّرة ليعلم ما هو خيارها؟
السؤال الملحّ: لماذا لم يُقدم "شبيح" واحد أو مقاتل واحد ممن يهتفون بالولاء للأسد والدولة العلمانية، ويهتفون بالموت للإرهابيين المتطرفين العملاء الجاهلين.. إلى ما هناك من نعوت التخوين والتبخيس، على ما امتنع عنه أقارب المحرّرات؟ ألم يعثر هؤلاء على صورة جبهة النصرة في ذاك الحجاب الشرعي المفروض قسراً؟ لماذا سكتوا عن هذه الإضافة التي أملتها على مخطوفاتهم جبهة النصرة "العدوة" التي فرضت عليهم أن يروا مخطوفاتهم وفق الصورة التي "تشرعها" وتفرضها الجبهة، حتى حين يكنّ في ظل سلطة نظام الأسد؟
لا يغير في هذه المحاججة شيئاً أن تخلع هذه النسوة "حجاب النصرة" في ما بعد، ذلك أن لحظة التحدي انتهت بانتهاء الاستقبال، أي بانتهاء تلك اللحظة التي يرى الأهالي مخطوفاتهم على هيئة "رمزية" غير هيئتهن المعهودة. وبانتهاء اللحظة التي يُتاح فيها للمحرّرة أن تخلع حجابها المفروض، ولا تفعل. مرور هذه اللحظة من دون أي رد فعل يعني أن الجهة الخاطفة تمتلك قدرة على مجتمع المخطوفات تتجاوز القدرة العسكرية، أو قدرة القسر المادية، وتستمر إلى ما بعد الخطف. هل تنبع هذه القدرة من دونيةٍ مذهبيةٍ لمجتمع المخطوفات تجاه مجتمع الخاطفين؟
في منبج مثلاً، احتفلت النساء، بخروج "داعش" منها في صيف 2016، بحرق البراقع
يمكن فهم سلوك الإبقاء على الحجاب المفروض على المخطوفات، واحترامه العلني، أنه سلوك موجه إلى المجتمع المذهبي الذي تنتمي إليه الجهة الخاطفة، وتزعم إنها تمثله، وليس إلى الجهة الخاطفة نفسها. أي إنه سلوكٌ ينطوي على إيماءة "خضوع" علنيةٍ لمجتمع الدين الرسمي "السني"، حتى لو أن المخطوفة المحرّرة تخلت لاحقاً عن هذا الحجاب.
ولكن ما سبق لا يفسر "احترام" عناصر النظام وشبيحته حجاب المحرّرات. الغالب أن ما ضبط هؤلاء عن الإقدام على استعراض "علماني وحداثي" بتخليص المحرّرات من حجابهن الشرعي ذاك هي توجيهات سلطوية هادفة إلى خطب ود أهل المذهب الرسمي، عن طريق تمرير هذا "الخضوع الرمزي"، في موازاة توجيهات أخرى هادفة إلى تدمير هذا المجتمع وتركيعه فعلياً.
هكذا تعزف سلطة الأسد لحن استمرارها الدموي، مرةً على وتر مذهبي عالي النبرة، ومرة على وتر آخر "خفيض الجناح"، لحن يجمع الخضوع المذهبي المسالم إلى سياسة القتل المعمم والتهجير القسري. وهكذا، حين يبدو القاتل محرّراً (اسم فاعل) لا يجد المجتمع المحسوب على النظام إلا الانصياع حتى الآن، الانصياع لضرورات هذا اللحن الجنائزي المستمر.