10 نوفمبر 2024
المرافق المجنون في فرنسا
نشرت صحيفة لوموند، الفرنسية المرموقة، على موقعها في الإنترنت شريطاً مصوّراً يظهر فيه مسؤول الأمن الشخصي لرئيس الجمهورية، إيمانويل ماكرون، في أثناء تعامله بعنف مع أحد المتظاهرين في الأول من مايو/ أيار الماضي. وتأكدت الواقعة، وأضيف إليها أن المُعتدي ذاته، واسمه ألكسندر بنعلا، قد اعتدى أيضاً على سيدةٍ في المناسبة نفسها، منتحلاً صفة رجل شرطة، أو حاصلاً على تسهيلاتٍ من الشرطة.
فرنسا، بشيبها وشبابها، منشغلة بالقضية. وعلى الرغم من القيظ الذي تعيشه في سابقةٍ مناخيةٍ نادرة، ومع بدء إجازات الصيف التي تترافق عادةً بإهمالٍ واسع للشأن العام من الجمهور العريض، تعيش البلاد على وقع تطورات ملف هذا الشخص، وتداعياته إعلامياً وسياسياً.
إعلامياً، تُسخر جُلُّ نشرات الأخبار مساحةً واسعةً في مقدماتها للحديث عن المسألة، بكل تفاصيلها المهمة، كما المُملّة. كما تخصّص الصحف، الجادّة والصفراء، صفحاتٍ للحديث عن الموضوع وانعكاساته على مختلف المستويات. ومن جهة الحياة السياسية، تم تشكيل لجنتي تحقيق، ترتبط الأولى بمجلس النواب، والثانية بمجلس الشيوخ، حيث تم استدعاء عدد من عناصر القضية، كوزير الداخلية ورئيس الشرطة وأمين عام القصر الجمهوري، لتحقيق دامت جلساته ساعاتٍ، تم بثها المباشر على التلفزيون.
من الطبيعي أن هذا الحادث/ الحدث قد حظي بأشكال متنوعة من التعامل مع حيثياته، والتفاعل مع نتائجه، فبعضٌ ممن تعوّد الاستكانة للسلطة وممثليها، بعيداً عن دولة القانون، يمكن أن
يعتبره عاديا، وبل أكثر من عادي، وأن يستغرب هذه الحساسية الغربية والمبالغة فيها. والمؤكد أن هذا الملف الذي أثار هذه الموجة من ردود الفعل السياسية والإعلامية والمجتمعية في فرنسا التي ترسّخت فيها دولة القانون والمؤسسات منذ زمن بعيد، يظل يبدو لبعض الخاضعين للسلطات المستبدّة مُستهجناً أو مُستغرباً، فلدى أولئك من البشر المُستعبدين، يُعتبر المقرّبون من السلطة و"رجالاتها" أمنياً أو سياسياً، أو حتى فساداً، حاصلين على حصانةٍ شبه مقدّسة، تحميهم من كل مساءلة، وحيث لا تقع عليهم أية محاسبة. وربما يصحّ في أولئك ما قاله عبد الرحمن الكواكبي، منذ قرن ونيف، "إذا ضُربت على الأمة الذلّة والمسكنة، وتوالت على ذلك القرون والبطون، تصير تلك الأمة سافلة الطباع، حتى أنها تصير كالبهائم، أو دون البهائم، لا تسأل عن الحرية، ولا تلتمس العدالة".
من الطبيعي في الأنظمة الديمقراطية أن تتصدّى الصحافة لفضح التجاوزات ذات الدلالة العميقة، وأن لا تحصر "نقدها" بأساليب تعبيد الطرق أو أعطال محطات الصرف الصحي، مثلاً كما يحلو لصحافة المستبدّين أن تعتبره نقداً شديداً، ففي هذا الملف تتضافر عناصر عدّة يمكن أن تُشير إلى انحرافاتٍ عميقةٍ في الممارسة السياسية لبلد ديمقراطي، تسود فيه دولة القانون، فالمرافق الذي ليست له صفة عسكرية أو شِرَطية قام بانتهاك واضح وجلي لحرية التعبير، في الاعتداء على متظاهر سلمي، حتى يثبت العكس المُشار إليه في دفاعات المتهم، والذي ادّعى أن الذي تعرّض للتعنيف منه كان يرمي رجال الشرطة بمقذوفاتٍ زجاجية. كما أن العقوبة على هذا المرافق في اليوم الذي تلا قيامه بهذا الاعتداء، الإيقاف عن العمل أسبوعين، لا تتناسب ألبتة مع رمزية وظيفته وحمولة فعلته. إضافة إلى أن الكشف عن القصة أزاح بعض الغموض عن طريقة إدارة شؤون الموظفين في القصر الرئاسي، والتي يُطالب الناس، عبر ممثليهم البرلمانيين، بأن تكون واضحة للعموم، وأن لا يشوبها أي غموض مرتبط بالميّزات التي يحصل عليها بعض العاملين من سكن أو وسائل تنقل.. إلخ.
في جلسات الاستماع والتحقيق، والمستمرة، ذخيرة غنية من الدروس بشأن الدور الفعلي الذي يجب أن يلعبه ممثلو الناخبين على مختلف الأصعدة، كما أن المتابعة الإعلامية التي بدت كأنها كرة ثلج تتدحرج كشفت تفاصيل إضافية، مفيدة، وتُشير إلى صحةٍ مجتمعية مُطَمْئِنة.
وحتى لو أشار مراقبون، وعن حق ربما، بأنه جرى تضخيم المسألة من أحزاب المعارضة لغايات سياسوية، فهذا الجانب أيضاً يُعتبر جزءاً من اللعبة السياسية الديمقراطية، والتي على كل من يتبوأ منصباً مهماً أن يعيها، ويستعدّ لها، وأن يتجنب الهفوات من طرفه، أو من "حاشيته"، مهما كانت بريئةً وغير بنيوية.
أحيل المرافق الشاب الأهوج إلى المحكمة، وخضع لاستجوابات مطوّلة، كما ستسقط رؤوس عدة لمن سهّل دوره، أو تسامح مع خطيئته. وسيتاح للمتظاهر الضحية أن يكون جهة مدّعية إنْ أحب، وسيستمع إليه القضاء العادي شاهدا وضحية. وسيأخذ القانون مجراه مهما تسابقت الأحزاب والجماعات السياسية على استغلال الموقف، أو في التعتيم عليه. وهذا مؤشر صحيح وصحّي، للحفاظ على دولة المؤسسات وحماية حقوق الناس، بعيداً عن أية معايير أخرى.
فرنسا، بشيبها وشبابها، منشغلة بالقضية. وعلى الرغم من القيظ الذي تعيشه في سابقةٍ مناخيةٍ نادرة، ومع بدء إجازات الصيف التي تترافق عادةً بإهمالٍ واسع للشأن العام من الجمهور العريض، تعيش البلاد على وقع تطورات ملف هذا الشخص، وتداعياته إعلامياً وسياسياً.
إعلامياً، تُسخر جُلُّ نشرات الأخبار مساحةً واسعةً في مقدماتها للحديث عن المسألة، بكل تفاصيلها المهمة، كما المُملّة. كما تخصّص الصحف، الجادّة والصفراء، صفحاتٍ للحديث عن الموضوع وانعكاساته على مختلف المستويات. ومن جهة الحياة السياسية، تم تشكيل لجنتي تحقيق، ترتبط الأولى بمجلس النواب، والثانية بمجلس الشيوخ، حيث تم استدعاء عدد من عناصر القضية، كوزير الداخلية ورئيس الشرطة وأمين عام القصر الجمهوري، لتحقيق دامت جلساته ساعاتٍ، تم بثها المباشر على التلفزيون.
من الطبيعي أن هذا الحادث/ الحدث قد حظي بأشكال متنوعة من التعامل مع حيثياته، والتفاعل مع نتائجه، فبعضٌ ممن تعوّد الاستكانة للسلطة وممثليها، بعيداً عن دولة القانون، يمكن أن
من الطبيعي في الأنظمة الديمقراطية أن تتصدّى الصحافة لفضح التجاوزات ذات الدلالة العميقة، وأن لا تحصر "نقدها" بأساليب تعبيد الطرق أو أعطال محطات الصرف الصحي، مثلاً كما يحلو لصحافة المستبدّين أن تعتبره نقداً شديداً، ففي هذا الملف تتضافر عناصر عدّة يمكن أن تُشير إلى انحرافاتٍ عميقةٍ في الممارسة السياسية لبلد ديمقراطي، تسود فيه دولة القانون، فالمرافق الذي ليست له صفة عسكرية أو شِرَطية قام بانتهاك واضح وجلي لحرية التعبير، في الاعتداء على متظاهر سلمي، حتى يثبت العكس المُشار إليه في دفاعات المتهم، والذي ادّعى أن الذي تعرّض للتعنيف منه كان يرمي رجال الشرطة بمقذوفاتٍ زجاجية. كما أن العقوبة على هذا المرافق في اليوم الذي تلا قيامه بهذا الاعتداء، الإيقاف عن العمل أسبوعين، لا تتناسب ألبتة مع رمزية وظيفته وحمولة فعلته. إضافة إلى أن الكشف عن القصة أزاح بعض الغموض عن طريقة إدارة شؤون الموظفين في القصر الرئاسي، والتي يُطالب الناس، عبر ممثليهم البرلمانيين، بأن تكون واضحة للعموم، وأن لا يشوبها أي غموض مرتبط بالميّزات التي يحصل عليها بعض العاملين من سكن أو وسائل تنقل.. إلخ.
في جلسات الاستماع والتحقيق، والمستمرة، ذخيرة غنية من الدروس بشأن الدور الفعلي الذي يجب أن يلعبه ممثلو الناخبين على مختلف الأصعدة، كما أن المتابعة الإعلامية التي بدت كأنها كرة ثلج تتدحرج كشفت تفاصيل إضافية، مفيدة، وتُشير إلى صحةٍ مجتمعية مُطَمْئِنة.
وحتى لو أشار مراقبون، وعن حق ربما، بأنه جرى تضخيم المسألة من أحزاب المعارضة لغايات سياسوية، فهذا الجانب أيضاً يُعتبر جزءاً من اللعبة السياسية الديمقراطية، والتي على كل من يتبوأ منصباً مهماً أن يعيها، ويستعدّ لها، وأن يتجنب الهفوات من طرفه، أو من "حاشيته"، مهما كانت بريئةً وغير بنيوية.
أحيل المرافق الشاب الأهوج إلى المحكمة، وخضع لاستجوابات مطوّلة، كما ستسقط رؤوس عدة لمن سهّل دوره، أو تسامح مع خطيئته. وسيتاح للمتظاهر الضحية أن يكون جهة مدّعية إنْ أحب، وسيستمع إليه القضاء العادي شاهدا وضحية. وسيأخذ القانون مجراه مهما تسابقت الأحزاب والجماعات السياسية على استغلال الموقف، أو في التعتيم عليه. وهذا مؤشر صحيح وصحّي، للحفاظ على دولة المؤسسات وحماية حقوق الناس، بعيداً عن أية معايير أخرى.