01 نوفمبر 2024
عن كاريزما يوسف الشاهد ومستقبله السياسي
الكاريزما مصطلح قديم له أصول إغريقية، يقصد به الجاذبية، وهناك من يعتبرها هبةً إلهية تجعل المرء مقبولا لدى الآخرين. أعطى عالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر، المصطلح شحنةً سوسيو- سياسية مميزة، وحوله إلى مفهوم استخدمه للإشارة إلى القدرة التي يتمتع بها شخصٌ معينٌ للتأثير على الآخرين، بوصفه مركز قوة، فيمنحه الواقعون تحت تأثيره حقوقا تسلطيةً عليهم نتيجة قدراته القيادية. في السياق السياسي التونسي الحالي، نختبر المصطلح أو المفهوم الفيبري في تجربة رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي يستعدّ لإعلان حزبه الجديد، المتوقع أن يحمل من الأسماء "أمل تونس" في مدينة المنستير. وفي اختيار هذه المدينة استحضار للأرواح، وخاصة الروح البورقيبية التي تعوّد الاستنجاد بها غيرُه من الأحزاب المنحدرة دستوريا وتجمعيا ويساريا ممن يعتقدون في عبقرية الرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة وحداثة اتجاهه السياسي، معتقدين أنها تمنح كرامة الفوز في الانتخابات، وعساها أن تساعد الشاهد على تحمُلّ عسر الولادة وعوائق الانطلاق، بعد أن مهد الطريق ببعث كتلة برلمانية تشكلت من شتات كُتلٍ أخرى، اندثر بعضها، وأصاب الهُزال بعضها الآخر، مثل "آفاق تونس" و"الوطني الحر" و"نداء تونس" و"مشروع تونس"، أُطلق عليها اسم كتلة الائتلاف الوطني، وأُسندت إلى رئيسها مصطفى بن أحمد، صحبة مدير الديوان الرئاسي السابق سليم العزابي، مهام الاتصال المباشر وتنظيم الاجتماعات التمهيدية والتشاورية قبل ظهور التنظيم الجديد.
لا يتمتّع يوسف الشاهد بتاريخ سياسي مدون في حزب الحكم الواحد، وفي أيام الرئيس الزعيم الأوحد، أو بتجربةٍ نضاليةٍ في تنظيمات المعارضة السرية والعلنية قبل 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2011، ولم ينخرط في الحركة الطلابية التونسية وفصائلها اليسارية والقومية
العربية والإسلامو- سياسية، أو في غيرها من الحركات الشبابية، ولم يشارك في النشاط النقابي في الاتحاد العام التونسي للشغل، منبت العمل النقابي الوطني التونسي وملجأ القوى السياسية الممنوعة من النشاط السياسي القانوني، زمن حكم زين العابدين بن علي، ولم يباشر أي عمل حقوقي في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. كما لم يُعرف عن الرجل أنه صاحب قلم وكتابات في السياسة والرأي وقضايا الشأن العام، إلا إذا اعتبرنا الأطروحة التي تقدم بها إلى إحدى الجامعات الفرنسية في العلوم الفلاحية سنة 2003 " قياس أثر تحرير السوق الزراعية على التجارة والرفاهية"، أو عمله خبيرا زراعيا في سفارة الولايات المتحدة الأميركية في تونس يمثل اهتماما بالسياسة والقضايا العامة. بدأ الشاهد تجربته السياسية سنة 2012 في الحزب الجمهوري الذي كان يترأسه أحمد نجيب الشابي، وهو ثمرة اتحاد حزبه، الحزب الديمقراطي التقدمي، المعروف بإرثه النضالي ومقاومته الدولة الاستبدادية ذات الحزب الواحد زمني بورقيبة وبن علي، مع حزب آفاق تونس الذي يقوده ياسين إبراهيم، حديث العهد بالسياسة والشأن العام، لكن الشاهد سرعان ما التحق بحزب نداء تونس، الكبير الصاعد الذي أسسه الباجي قائد السبسي في السنة نفسها، ليقارع به حركة النهضة الفائزة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011، والذي تمكّن من مغالبتها في الانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2014. اجتباه قائد السبسي رئيسا للحكومة التونسية سنة 2016، بديلا عن الحبيب الصيد وحكومته، لأسبابٍ تتعلق بالقرابة العائلية، والانتماء إلى الأرستقراطية التقليدية المعروفة، لتأمين مصالحها السياسية والاقتصادية والمالية المهدّدة بصراع اللوبيات الجهوية والمالية وتوازناتها السياسية، بعد أن وضعه في مرتبةٍ حزبيةٍ قيادية، ومكّنه من اكتساب مهارات الحكم، ومعرفة نواميس الدولة في رتبة كاتب دولة لدى وزير الفلاحة في حكومة الصيد الأولى، ثم وزيرا للجماعات المحلية في حكومته الثانية، وبعد أن أمّن له أغلبيةً برلمانيةً مريحةً مكونةً من حزب نداء تونس وشتاته وحوارييه، مثل حزب مشروع تونس وحركة النهضة.
انتهز الشاب الأربعيني الفرصة لقتل الأب، والتمرّد على رئيس الدولة الذي جاء به إلى الحكم، معتمدا على شرعيةٍ دستوريةٍ تمنح رئيس الحكومة صلاحيات حكمٍ واسعةٍ مقارنة بمجال تدخل الرئيس الذي يقتصر على مجالي الدفاع والخارجية، ليدخل معه في سلسلةٍ من الاختلافات والصراعات التي استحالت مواقف حادّة وحملات تشويه، وأخرى مضادّة، وعنفا قوليا ومعنويا، ومراكز قوى وتوظيفا لكتل برلمانية، واستعمال منصّات افتراضية، وصحف ورقية، وبرامج إذاعية، وأخرى تلفزيونية، في احتراب ناعم واضح ومعلن، بلغ درجة كسر العظم السياسي بين رئيس الجمهورية ورئيس حكومته، حتى أدّى الأمر إلى انسحاب الحزب، الحاكم الأغلبي من الحكومة التي باتت تستند بصفة رئيسية إلى كتلة حركة النهضة الإسلامية. وكان الشاهد يعلم أنه ارتكب جريمة قتل الأب، وهي خطيئةٌ كبرى، لا يمكن للشيخ التسعيني الذي باشر مؤسسة الدولة التونسية، وتقلب في مناصبها، واكتسب خبراتها، وتجول في دهاليز علاقاتها الدولية أكثر من ستين سنة، ما جعله يستنجد بكل إرثه السياسي، لتوظيفه في معركةٍ تهدف إلى إطاحة عائلته ونجله الذي لم يخف رغبته في وراثة أبيه، خصوصا أنه يتربّع على قيادة حزب نداء تونس، منذ تولي والده رئاسة الجمهورية نهاية سنة 2014.
والواقع أن هذه المعركة التي حقق فيها يوسف الشاهد نقاطا محدودة، على حساب خصمه وولي نعمته السياسية رئيس الجمهورية، تعتبر ثانوية، فالمعركة التي خسرها بامتياز، وأراد من
خلالها إثبات ذاته الطموحة، وإرساء كاريزما سياسية تقوده إلى المستقبل، أي إلى القصبة (حيث مقر رئاسة الحكومة) مرة أخرى، أو إلى قصر قرطاج رئيسا للدولة بعد سنة 2019، هي المعركة الاقتصادية والاجتماعية، فقد بان جليا أن الدينار التونسي بلغ أقصى درجات انهياره مقابل اليورو والدولار في فترة حكم الشاهد فاقدا 40% من قيمته، وفقد الميزان التجاري توازنه، حتى بات مختلا اختلالا مطلقا، لصالح التوريد على حساب الإنتاج المحلي والتصدير، وانحدر احتياطي العملة الصعبة في البنك المركزي إلى 69 يوم توريد، وهو أدنى مستوى له منذ سنة 1986، وبلغ حجم المديونية أكثر من 76 ألف مليون دينار، منها 40 ألف مليون دينار منذ سنة 2014، ليتجاوز 72% من الناتج الإجمالي الخام، وناهزت نسبة التضخم 8%، وهي مؤشراتٌ وأرقامٌ تعكس سبب الارتفاع الجنوني للأسعار، وتفاقم ظاهرة الفقر التي اكتسحت شرائح كثيرة من الطبقة الوسطى، واسعة الانتشار في تونس، والتي تتهدد أبناءها سنة دراسية بيضاء، نتيجة الصراع بين المدرسين ونقاباتهم ووزارة التربية. وأدّى هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمالي المتأزم هيكليا، والذي يعكس فشلا ذريعا لسياسات الشاهد الاقتصادية والإصلاحية، إلى أزمةٍ اجتماعيةٍ مزمنة نتج عنها إضرابان عامان، نفذهما الاتحاد العام التونسي للشغل في قطاعي الوظيفة العمومية والقطاع العام. وفقدت الشرائح العمالية وقطاعات الموظفين في الحكومة، وطالبوا باستقالتها، منضمين إلى فسطاطٍ واسع يتبنّى المطلب نفسه، ويتكون من المحامين ورجال الأعمال والفلاحين والمتقاعدين والفئات الهشة المشتغلين بالآليات والشباب الذي تنخره البطالة، وتستشري في صفوفه الجريمة والمخدرات. وأمام يوسف الشاهد الذي أغوته السلطة، وأغرته لعبتها في ظل هذه المؤشرات الحارقة، وتوسع قاعدة المعادين لحكومته الذين يملأون الساحات العامة احتجاجا وتمرّدا ورفضا، لا يبدو ممكنا الانبعاث من رماد ذلك الاحتراق كطائر الفينيق، زعيما كاريزماتيا منقذا للبلاد والعباد، مهما زُين له المشهد والصورة من رفقة السياسة وأصحاب المصالح الكبرى الداخليين، وكذلك الخارجيين المختفين وراء ستار.
لا يتمتّع يوسف الشاهد بتاريخ سياسي مدون في حزب الحكم الواحد، وفي أيام الرئيس الزعيم الأوحد، أو بتجربةٍ نضاليةٍ في تنظيمات المعارضة السرية والعلنية قبل 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2011، ولم ينخرط في الحركة الطلابية التونسية وفصائلها اليسارية والقومية
انتهز الشاب الأربعيني الفرصة لقتل الأب، والتمرّد على رئيس الدولة الذي جاء به إلى الحكم، معتمدا على شرعيةٍ دستوريةٍ تمنح رئيس الحكومة صلاحيات حكمٍ واسعةٍ مقارنة بمجال تدخل الرئيس الذي يقتصر على مجالي الدفاع والخارجية، ليدخل معه في سلسلةٍ من الاختلافات والصراعات التي استحالت مواقف حادّة وحملات تشويه، وأخرى مضادّة، وعنفا قوليا ومعنويا، ومراكز قوى وتوظيفا لكتل برلمانية، واستعمال منصّات افتراضية، وصحف ورقية، وبرامج إذاعية، وأخرى تلفزيونية، في احتراب ناعم واضح ومعلن، بلغ درجة كسر العظم السياسي بين رئيس الجمهورية ورئيس حكومته، حتى أدّى الأمر إلى انسحاب الحزب، الحاكم الأغلبي من الحكومة التي باتت تستند بصفة رئيسية إلى كتلة حركة النهضة الإسلامية. وكان الشاهد يعلم أنه ارتكب جريمة قتل الأب، وهي خطيئةٌ كبرى، لا يمكن للشيخ التسعيني الذي باشر مؤسسة الدولة التونسية، وتقلب في مناصبها، واكتسب خبراتها، وتجول في دهاليز علاقاتها الدولية أكثر من ستين سنة، ما جعله يستنجد بكل إرثه السياسي، لتوظيفه في معركةٍ تهدف إلى إطاحة عائلته ونجله الذي لم يخف رغبته في وراثة أبيه، خصوصا أنه يتربّع على قيادة حزب نداء تونس، منذ تولي والده رئاسة الجمهورية نهاية سنة 2014.
والواقع أن هذه المعركة التي حقق فيها يوسف الشاهد نقاطا محدودة، على حساب خصمه وولي نعمته السياسية رئيس الجمهورية، تعتبر ثانوية، فالمعركة التي خسرها بامتياز، وأراد من