01 نوفمبر 2024
تونس: حمّى انتخابية من أجل رئاسة شرفية
ظمأ سياسي ونهم للسلطة والحكم لم يعرف لهما تاريخ تونس المعاصر مثيلا، أفصحت عنهما الترشحات للانتخابات الرئاسية والتشريعية المزمع تنظيمها في تونس في 15 سبتمبر/ أيلول و6 أكتوبر/ تشرين الأول المقبلين، فقد تجاوزت الترشحات للتشريعية 15 ألف ترشح، ينتسبون إلى 1500 قائمة، للتنافس على 217 مقعدا، وناهزت نظيرتها الرئاسية عن المائة ترشح، أغلبها لا يستجيب للشروط القانونية المتمثلة في تزكيات عشرة نواب أو عشرة آلاف مواطن أو 40 من رؤساء مجالس الجماعات المحلية المنتخبين، وضمان مالي يقدر بعشرة آلاف دينار لفائدة خزينة الدولة، كما ضبطها القانون الانتخابي والدستور التونسي، إلا أن هذه الترشحات لا تخلو من رغبات دفينة تسكن لاوعي الأفراد السياسي في ممارسة السلطة من موقع هرم الدولة ومؤسساتها القيادية، أو النزوع نحو البروز وإشهار الذات في أقل الأحوال والتقديرات.
تمسح الترشحات الرئاسية مختلف الشرائح والأعمار، وتتوزع على أغلب جهات البلاد وولاياتها، من دون دراسة سابقة للسوق الانتخابي، أو معرفة أولية بأمزجة التصويت، كما تعكسها بالنسبة لبعضهم، منتديات الناس الشعبية في فضاءاتهم الافتراضية وشبكاتها المؤثرة، أو في معيشهم اليومي الذي تترجمه لقاءاتهم القرابية، وارتباطاتهم الثقافية، وأطرهم المهنية ومجالسهم اليومية. أما الآخرون من المنتمين للأحزاب التقليدية في الحكم والمعارضة، فيستمدون مشروعية ترشّحهم من انتمائهم الحزبي الذي اختير بموجبه لتمثيل حزبه، الذي لا
يحقّ له تفويت فرصة سياسية ثمينة، انتظرها، مثل غيره من الأحزاب، خمس سنوات. قد تعود هذه الرغبة الجامحة في الرئاسة إلى ما تستبطنه الشخصية التونسية من ثقافة سلطانية تقوم على إكراهات طاعة أولي الأمر، الضاربة في الثقافة والتاريخ العربيين ككل، ومن قمعٍ استوطن أعماقها بسبب احتكار السلطة طوال فترة الاستبداد التي مرّت بها تونس قبل سنة 2011، وما صاحبها من قهر للأفراد الذين يرغبون في ممارسة السياسة، من أي موقعٍ كان، خارج مركب حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، الحاكم، ومؤسسات دولة الهيمنة المتماهية معه، ومن منع للقادة والساسة الذين نشأوا وتربوا في تنظيمات المعارضة السرية القومية العربية والإسلامية واليسارية. إلا أن اللافت في التجربة، الموصومة بإلاسهال في الترشحات التي صاحبتها موجة من التندر والاستهزاء بمترشحين كثيرين، لطرافة شخصياتهم، وسوء هندامهم، ولكونهم مجهولي الهوية، لعدم اشتغالهم بالسياسة والحياة العامة، اللافت هو ترشح شخصيات ذات منشأ دستوري تجمعي، احتل بعضها مناصب وزارية، زمن حكم زين العابدين بن علي، ولكن آخرين كانوا في الصفوف الخلفية للنظام القديم، ما يعني أن الثورة التونسية التي أنهت ذلك النظام قد وفرت لهم فرصة حقيقية للتعبير عن ذات سياسية مقموعة، مستعبدة تابعة ومأمورة، ولكنها، في الآن نفسه، طموحة توّاقة إلى أعلى المناصب، وجدت نفسها تستفيد من كرامات النظام الديمقراطي الذي كانت تعارضه لصالح دولة الاستبداد ورئيسها وحزبها الواحد.
انخراط عديد الشخصيات الحزبية والائتلافية وحتى المستقلة، لا يبدو أنه يمثل غايةً في حدّ ذاته، فهم أعرف الناس بحظوظهم الانتخابية، وبقدراتهم المحدودة، على تولي منصب رمزي حسّاس وخطير، على الرغم من محدوديته، هو محل تجاذب وصراع حاد، بين قوى داخلية وأخرى خارجية دولية وإقليمية، ولوبيات مالية وأجهزة استعلاماتية، وأصحاب مصالح ونفوذ ومراكز قوى عديدة، وإمبراطوريات إعلامية واتصالية قادرة على صناعة الرأي العام وتطويعه. الغاية الحقيقية لهؤلاء المترشحين استعمال الانتخابات الرئاسية مطية ووسيلة لخوض الانتخابات التشريعية، والحصول على مقاعد برلمانية، ذلك أن حملة الانتخابات الرئاسية ستمكّن من التعريف بأحزاب وبائتلافات حزبية، وحتى بمستقلين أودعوا ترشحاتهم إلى التشريعية، بالتوازي مع ترشحهم للرئاسية. أما ما ينسب للرئيس من صلاحيات، ودور إصلاحي، أو ثوري، وقدرة على إنقاذ تونس مما تردّت فيه من أزمات اقتصادية واجتماعية هيكلية عميقة، مظاهرها شتى، من قبيل انهيار الدينار أمام اليورو والدولار، وارتفاع حجم المديونية التي بلغت 93 مليار دينار (أكثر من 75% من الناتج الوطني الخام)، وتقلص احتياطي العملة الصعبة إلى 70 يوماً، وارتفاع حجم التضخم، واختلال الميزان التجاري، وتفشّي البطالة، وتنامي هجرة الكوادر، وظاهرة الهجرة السرية المعروفة بالحرقة، إلى أوروبا، وانتشار الفقر الذي بلغ 25% من السكان، وانتشار الأمية التي ناهزت 30%، وتلاشي الطبقة الوسطى لصالح الفئات الفقيرة، وانتشار الجريمة والمخدرات في أوساط الشباب، وسلب الشركات العابرة القومية الثروات الوطنية، وفقدان السيادة الوطنية نتيجة التدخل الأجنبي الفظ والمعلن. كل هذا يعد تزييفا لإرادة الناخب التونسي ووعيه، كما ستبرزه المناظرات التلفزيونية بين المتنافسين لاحقا، لأن أدوار الرئيس جدّ محدودة ومحدّدة، وهي أقرب إلى أن تكون مهام شرفية، كما حددها دستور 2014، الذي أعطى صلاحيات تنفيذية محددة للرئيس في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني، كما فصّل القول فيه الفصل عدد 77، ومكّنه من تعيين مفتي الجمهورية ومن التعيينات والإعفاءات في رئاسة الجمهورية وفي الوظائف العليا العسكرية والدبلوماسية، وكذلك تعيين محافظ البنك المركزي، باقتراح من رئيس الحكومة، حسب مقتضيات الفصل 78.
يستبطن بعض المرشّحين مهام الرئيس كما جاءت في دستور تونس لسنة 1959 حيث إن
النظام رئاسي، والحال أن دستور 2014 قد أقرّ نظاما برلمانيا معدّلا، يعطي أغلب مهام السلطة التنفيذية للحكومة ورئيسها، المنبثقة عن مجلس نواب الشعب. ولكن الرئيس الراحل، الباجي قائد السبسي، استجمع كل قواه، واستنجد بتجربته التاريخية، بوصفه سياسيا مخضرما، بدأ معايشته الدولة وهو شاب يافع في ظل حكم الأمين باي، وخاض معاركه الكبرى وزيرا، متقلدا مناصب عدة في حكومات الحبيب بورقيبة، وتولى رئاسة مجلس النواب مع بن علي، وانتهى به المطاف رئيس حكومة ثم رئيسا للجمهورية زمن الثورة الديمقراطية بعد 2011، ليلتفّ على النظام البرلماني المعدّل، ويستولي على صلاحيات أوسع للرئاسة، سرعان ما وضعته في موضع الخلافات والصراعات الحادّة وتنازع للسلطة مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ما أدى إلى تعطيل مؤسسات الدولة القيادية، وعجزها عن القيام بدورها في أكثر من مرحلة.
ولن يكون الرئيس القادم قادرا بأي حال على إعادة تجربة السبسي، استرجاع مجد النظام الرئاسي الذي استحال نظاما رئاسويا في مراحل كثيرة من تاريخ تونس السياسي المعاصر، عبر محاولات الهيمنة على البرلمان والحكومة. ولكن سيكون في وسعه مراجعة سياسة تونس الخارجية، وإخراج دبلوماسيتها من العطالة وثقافة الغنيمة التي يعيشها دبلوماسيوها، بسبب تبعية سياستها الخارجية لأوروبا والولايات المتحدة الأميركية وتوجهاتهما الاستراتيجية لما بعد الحرب العالمية الثانية، وصناعة مصالح تونسية في العالم، تتمحور حولها السياسة الخارجية، وتساعد على مراجعة بعض الاتفاقيات المجحفة، على غرار اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي الذي هدم أركان الاقتصاد الوطني التونسي، سيما الصناعي منه، ومذكرة التفاهم الأميركية – التونسية التي وقعها مستشار رئيس الجمهورية، محسن مرزوق، سنة 2015، وجعلت من تونس عضوا حليفا لمجموعة حلف شمال الأطلسي (الناتو) من خارجه، وصنعت من الدولة التونسية موطئ قدم لأكبر قوة عسكرية في العالم، وأفقدتها حياديتها التي كثيرا ما تغنّت بها الخارجية والدبلوماسية التونسية، سيكون له ذلك، فقط، إذا كان الرئيس القادم يمتلك شروط الرجولة السياسية، والروح الوطنية العالية، والقدرة على لعب الدور التاريخي المنوط بعهدته.
تمسح الترشحات الرئاسية مختلف الشرائح والأعمار، وتتوزع على أغلب جهات البلاد وولاياتها، من دون دراسة سابقة للسوق الانتخابي، أو معرفة أولية بأمزجة التصويت، كما تعكسها بالنسبة لبعضهم، منتديات الناس الشعبية في فضاءاتهم الافتراضية وشبكاتها المؤثرة، أو في معيشهم اليومي الذي تترجمه لقاءاتهم القرابية، وارتباطاتهم الثقافية، وأطرهم المهنية ومجالسهم اليومية. أما الآخرون من المنتمين للأحزاب التقليدية في الحكم والمعارضة، فيستمدون مشروعية ترشّحهم من انتمائهم الحزبي الذي اختير بموجبه لتمثيل حزبه، الذي لا
انخراط عديد الشخصيات الحزبية والائتلافية وحتى المستقلة، لا يبدو أنه يمثل غايةً في حدّ ذاته، فهم أعرف الناس بحظوظهم الانتخابية، وبقدراتهم المحدودة، على تولي منصب رمزي حسّاس وخطير، على الرغم من محدوديته، هو محل تجاذب وصراع حاد، بين قوى داخلية وأخرى خارجية دولية وإقليمية، ولوبيات مالية وأجهزة استعلاماتية، وأصحاب مصالح ونفوذ ومراكز قوى عديدة، وإمبراطوريات إعلامية واتصالية قادرة على صناعة الرأي العام وتطويعه. الغاية الحقيقية لهؤلاء المترشحين استعمال الانتخابات الرئاسية مطية ووسيلة لخوض الانتخابات التشريعية، والحصول على مقاعد برلمانية، ذلك أن حملة الانتخابات الرئاسية ستمكّن من التعريف بأحزاب وبائتلافات حزبية، وحتى بمستقلين أودعوا ترشحاتهم إلى التشريعية، بالتوازي مع ترشحهم للرئاسية. أما ما ينسب للرئيس من صلاحيات، ودور إصلاحي، أو ثوري، وقدرة على إنقاذ تونس مما تردّت فيه من أزمات اقتصادية واجتماعية هيكلية عميقة، مظاهرها شتى، من قبيل انهيار الدينار أمام اليورو والدولار، وارتفاع حجم المديونية التي بلغت 93 مليار دينار (أكثر من 75% من الناتج الوطني الخام)، وتقلص احتياطي العملة الصعبة إلى 70 يوماً، وارتفاع حجم التضخم، واختلال الميزان التجاري، وتفشّي البطالة، وتنامي هجرة الكوادر، وظاهرة الهجرة السرية المعروفة بالحرقة، إلى أوروبا، وانتشار الفقر الذي بلغ 25% من السكان، وانتشار الأمية التي ناهزت 30%، وتلاشي الطبقة الوسطى لصالح الفئات الفقيرة، وانتشار الجريمة والمخدرات في أوساط الشباب، وسلب الشركات العابرة القومية الثروات الوطنية، وفقدان السيادة الوطنية نتيجة التدخل الأجنبي الفظ والمعلن. كل هذا يعد تزييفا لإرادة الناخب التونسي ووعيه، كما ستبرزه المناظرات التلفزيونية بين المتنافسين لاحقا، لأن أدوار الرئيس جدّ محدودة ومحدّدة، وهي أقرب إلى أن تكون مهام شرفية، كما حددها دستور 2014، الذي أعطى صلاحيات تنفيذية محددة للرئيس في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني، كما فصّل القول فيه الفصل عدد 77، ومكّنه من تعيين مفتي الجمهورية ومن التعيينات والإعفاءات في رئاسة الجمهورية وفي الوظائف العليا العسكرية والدبلوماسية، وكذلك تعيين محافظ البنك المركزي، باقتراح من رئيس الحكومة، حسب مقتضيات الفصل 78.
يستبطن بعض المرشّحين مهام الرئيس كما جاءت في دستور تونس لسنة 1959 حيث إن
ولن يكون الرئيس القادم قادرا بأي حال على إعادة تجربة السبسي، استرجاع مجد النظام الرئاسي الذي استحال نظاما رئاسويا في مراحل كثيرة من تاريخ تونس السياسي المعاصر، عبر محاولات الهيمنة على البرلمان والحكومة. ولكن سيكون في وسعه مراجعة سياسة تونس الخارجية، وإخراج دبلوماسيتها من العطالة وثقافة الغنيمة التي يعيشها دبلوماسيوها، بسبب تبعية سياستها الخارجية لأوروبا والولايات المتحدة الأميركية وتوجهاتهما الاستراتيجية لما بعد الحرب العالمية الثانية، وصناعة مصالح تونسية في العالم، تتمحور حولها السياسة الخارجية، وتساعد على مراجعة بعض الاتفاقيات المجحفة، على غرار اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي الذي هدم أركان الاقتصاد الوطني التونسي، سيما الصناعي منه، ومذكرة التفاهم الأميركية – التونسية التي وقعها مستشار رئيس الجمهورية، محسن مرزوق، سنة 2015، وجعلت من تونس عضوا حليفا لمجموعة حلف شمال الأطلسي (الناتو) من خارجه، وصنعت من الدولة التونسية موطئ قدم لأكبر قوة عسكرية في العالم، وأفقدتها حياديتها التي كثيرا ما تغنّت بها الخارجية والدبلوماسية التونسية، سيكون له ذلك، فقط، إذا كان الرئيس القادم يمتلك شروط الرجولة السياسية، والروح الوطنية العالية، والقدرة على لعب الدور التاريخي المنوط بعهدته.