09 يناير 2023
الاشتراكوفوبيا والنخبة الأميركية الحاكمة
وائل السواح
باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.
جاء السيناتور الأميركي، بيرني ساندرز، من خارج المؤسّسة الديمقراطية، كما جاء الرئيس دونالد ترامب من خارج المؤسّسة الجمهورية، ولكن الفرق بين الرجلين هائل. انحرف ترامب بالولايات المتحدة إلى أقصى اليمين، دافعاً الاحتكارات الكبرى إلى ذروةٍ لم يسبق أن وصلت إليها قط، وفي الوقت نفسه، شجّع العنصرية البغيضة والفاشية ونظرية التفوّق العنصري الأبيض. وأحيا تقاليد الكو كلوكس كلان (منظمات عنصرية) التي لم ينسها الأميركيون بعد. وانحطّ ترامب بلغة السياسة إلى الحضيض، باستخدام تعابير سوقية، وشرعن الكذب، وأعطاه بعضاً من الجمالية والعفوية المصطنعة. ولكن الأسوأ بالتأكيد أنه خفّض الضرائب على الشركات العملاقة، وزاد فيها على الطبقة الوسطى والفئات العاملة، ومعروفٌ مثلاً أن شركة أمازون العملاقة لم تدفع عامي 2017 و2018 فلساً واحداً ضريبة للسلطات الأميركية، حسب تقريرٍ لمعهد سياسات الضرائب والاقتصاد الأميركي، بسبب فيضٍ من الثغرات الضريبية التي تسمح لشركاتٍ تحقق أرباحاً بأن تتهرّب من دفع ضرائب الدخل الفيدرالية، وتلك الخاصة بالولاية، على أكثر من نصف أرباحهم.
الأمر الثاني الذي يحاول ترامب تحقيقه لخدمة الشركات العملاقة إلغاء التأمين الصحي الذي سنّه الرئيس السابق أوباما، والمعروف باسم أوباما كير، ما يعني تعزيز ثروات شركات التأمين العملاقة وشركات صنع الأدوية، بينما يجد ملايين الأميركيين أنفسهم خارج مجال الرعاية الطبية.
جاء بيرني ساندرز أيضاً من خارج المؤسّسة، ولكن هدفه معاكس تماماً لهدف ترامب، فهو
يريد أخذ الولايات المتحدّة يساراً، فيرفع الضرائب على الشركات والاحتكارات العملاقة، ويرفع في المقابل الحدّ الأدنى من الأجور، ويتيح التعليم لشرائح أوسع من الأميركيين، ويجعل التأمين الصحي متاحاً لجميع الأميركيين، كما هو الحال في كندا ومعظم الدول الأوروبية. وتثير أفكار بيرني ساندرز الرعب في أوساط النخب الأميركية الحاكمة، ليس فقط بين الجمهوريين المحافظين، ولكن أيضاً داخل المؤسّسة الديمقراطية. وعلى الرغم من الفرق الكبير بين الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، تشعر النخب الحاكمة في الحزبين بالجزع من طروح ساندرز "الاشتراكية الديمقراطية" كما يصفها هو نفسه. وعلى الرغم من أن برنامج الرجل لا يكاد يكون اشتراكياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، فهو أقلّ مما هو مطبّق اليوم في السويد والنرويج وكندا وفرنسا، إلا أن مجرّد طرح إمكانية فرض ضرائب أكبر على الشركات العملاقة وأصحاب المليارات يجعل النخبة الحاكمة الأميركية تشعر بالجزع. ولذلك سارعت المؤسّسة الديمقراطية الأميركية إلى رصّ صفوفها وشحن طاقاتها في مواجهة ساندرز، وخصوصاً بعد فوزه الساحق في نيفادا. وحين جاء يوم الثلاثاء العظيم الذي تجرى فيه الانتخابات الأولوية في 14 ولاية أميركية، نجحت ماكينة المؤسسة الحزبية في تقدّم نائب الرئيس الأميركي السابق، جون بايدن، في عشر ولايات، بينما تقدّم ساندرز في أربع ولايات فقط. ولكن بين هذه الولايات الأربع ولاية كاليفورنيا التي تعتبر أكبر ولاية أميركية بنحو 40 مليون نسمة، ما جعله قادراً على الاستمرار في المنافسة. وفي المقابل، أعلن ثلاثة مرشّحين ديمقراطيين انسحابهم من السباق لصالح بايدن،
الأمر الذي سيعزّز حظوظه بشكل كبير، بيت بوتيجيج وإيمي كلوباشار ومايكل بلومبيرغ، وقد أقدموا على هذه الخطوة لسببين: خوفهم من ألا يحصلوا على أصوات كافية من جانب، وتحسّباً من تقدّم كاسح لبيرني ساندرز يهزّ المؤسّسة الديمقراطية وحكم الاحتكارات.
يتمتّع بايدن بخبرة سياسية عالية، ولكنه تمثيل خالص للمؤسّسة الحاكمة الأميركية، وهو مدعوم من "وول ستريت" والشركات العملاقة، بينما لا يقبل بيرني ساندرز تبرّعات من الشركات الكبيرة ولا من مؤسّسات اللوبي الكبرى التي تمثّل مصالح هذه الشركات. وبينما يهدف بايدن إلى تأبيد سيطرة الاحتكارات على السوق والسياسة والمجتمع، يطالب ساندرز بصوت أعلى للأسر العاملة والطبقات الوسطى. ومع مثل هذا البرنامج التقدّمي لساندرز، فالمنطقي أن يقف الأميركيون من أصل أفريقي في صفّه ويدعموا برنامجه الانتخابي، ولكن جميع الاستطلاعات تؤكّد أن الأميركيين السود سيصوّتون بأغلبية ساحقة لجون بايدن، والسبب ببساطة أنه كان نائب أول رئيس أميركي أسود في تاريخ الولايات المتحدّة.
بيد أن بايدن نفسه لا يخلو من نقاط ضعف، فإضافة إلى عمره المتقدّم (77 سنة)، هنالك أيضاً
مشكلة ابنه هنتر في أوكرانيا، حيث انضم، وصديقه ديفون آرتشر، إلى مجلس إدارة شركة الغاز الطبيعي، بوريسما هولدنغز، في إبريل/ نيسان 2014 براتب كبير جداً بالنسبة لخبرته المعدومة في مجال الغاز الطبيعي، وهو لا يتحدّث اللغة الأوكرانية. وستكون هذه القضية كعب أخيل بالنسبة لبايدن، وسوف يلعبها ترامب ببراعة وخسّة، كما هو معروف عنه.
للولايات المتحدّة تاريخ طويل من الصراع مع الاشتراكية السوفييتية. وبينما استطاعت الديمقراطيات الغربية في أوروبا تجاوز مرحلة الحرب الباردة باقتباس أفضل ما في الاشتراكية من جوانب، مع المحافظة على اقتصاد السوق الحر ونمط الإنتاج الرأسمالي، فإن الأميركيين لا يزالون يَفْرَقون من مجرّد كلمة "اشتراكية"، يساهم في ذلك الإعلام الأميركي وجماعات الضغط والشركات العملاقة والمؤسّسة الدينية. معروفٌ أن قطاعاً واسعاً من الأميركيين يعانون من الإسلاموفوبيا، بيد أنهم أضافوا خُوافاً جديداً لأمراضهم النفسية: الاشتراكوفوبيا. هذا الخُواف لا يزال يتحكّم بالأميركيين في المناطق الريفية والمدن الصغيرة، وبين الفئات العمرية الأكبر، ولكنه يخفّ ويكاد يتلاشى في أوساط الشباب الأميركي الذي يؤيّد في غالبيتيه بيرني ساندرز وبرنامجه.
لا يزال من المبكّر الحكم بفشل ساندرز في ترشيح الحزب الديمقراطي له، فلا يزال أمامه نحو ثلاثين ولاية لتصوّت في الانتخابات التمهيدية في الأسابيع المقبلة، ولكن الأمل يتضاءل بسبب تعاضد النخبة الديمقراطية ضدّه. وبالتالي، قد يفشل ساندرز هذه المرّة، ولكن فورة الثورة السياسية التي يطالب بها ستستمرّ في النمو، وستكون لها جولات في الانتخابات المقبلة، ولكن قد لا يكون ساندرز وقتها موجوداً بيننا.
جاء بيرني ساندرز أيضاً من خارج المؤسّسة، ولكن هدفه معاكس تماماً لهدف ترامب، فهو
يتمتّع بايدن بخبرة سياسية عالية، ولكنه تمثيل خالص للمؤسّسة الحاكمة الأميركية، وهو مدعوم من "وول ستريت" والشركات العملاقة، بينما لا يقبل بيرني ساندرز تبرّعات من الشركات الكبيرة ولا من مؤسّسات اللوبي الكبرى التي تمثّل مصالح هذه الشركات. وبينما يهدف بايدن إلى تأبيد سيطرة الاحتكارات على السوق والسياسة والمجتمع، يطالب ساندرز بصوت أعلى للأسر العاملة والطبقات الوسطى. ومع مثل هذا البرنامج التقدّمي لساندرز، فالمنطقي أن يقف الأميركيون من أصل أفريقي في صفّه ويدعموا برنامجه الانتخابي، ولكن جميع الاستطلاعات تؤكّد أن الأميركيين السود سيصوّتون بأغلبية ساحقة لجون بايدن، والسبب ببساطة أنه كان نائب أول رئيس أميركي أسود في تاريخ الولايات المتحدّة.
بيد أن بايدن نفسه لا يخلو من نقاط ضعف، فإضافة إلى عمره المتقدّم (77 سنة)، هنالك أيضاً
للولايات المتحدّة تاريخ طويل من الصراع مع الاشتراكية السوفييتية. وبينما استطاعت الديمقراطيات الغربية في أوروبا تجاوز مرحلة الحرب الباردة باقتباس أفضل ما في الاشتراكية من جوانب، مع المحافظة على اقتصاد السوق الحر ونمط الإنتاج الرأسمالي، فإن الأميركيين لا يزالون يَفْرَقون من مجرّد كلمة "اشتراكية"، يساهم في ذلك الإعلام الأميركي وجماعات الضغط والشركات العملاقة والمؤسّسة الدينية. معروفٌ أن قطاعاً واسعاً من الأميركيين يعانون من الإسلاموفوبيا، بيد أنهم أضافوا خُوافاً جديداً لأمراضهم النفسية: الاشتراكوفوبيا. هذا الخُواف لا يزال يتحكّم بالأميركيين في المناطق الريفية والمدن الصغيرة، وبين الفئات العمرية الأكبر، ولكنه يخفّ ويكاد يتلاشى في أوساط الشباب الأميركي الذي يؤيّد في غالبيتيه بيرني ساندرز وبرنامجه.
لا يزال من المبكّر الحكم بفشل ساندرز في ترشيح الحزب الديمقراطي له، فلا يزال أمامه نحو ثلاثين ولاية لتصوّت في الانتخابات التمهيدية في الأسابيع المقبلة، ولكن الأمل يتضاءل بسبب تعاضد النخبة الديمقراطية ضدّه. وبالتالي، قد يفشل ساندرز هذه المرّة، ولكن فورة الثورة السياسية التي يطالب بها ستستمرّ في النمو، وستكون لها جولات في الانتخابات المقبلة، ولكن قد لا يكون ساندرز وقتها موجوداً بيننا.
وائل السواح
باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.
وائل السواح
مقالات أخرى
04 ديسمبر 2022
06 نوفمبر 2022
23 أكتوبر 2022