ما بين الاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية وتصحيح مسار الثورة وإسقاط الحكومة السودانية، تتباين الأهداف، بشكل لافت، بين أحزاب وتيارات سودانية دعت إلى الخروج في مليونية اليوم الأربعاء، في ذكرى ثورة 21 أكتوبر/تشرين الأول 1964 ضد نظام الرئيس الراحل إبراهيم عبود.
ولا يُستبعد أن يؤثر إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب رغبته بإزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، على موكب 21 أكتوبر، إذ قد يخفف هذا الاختراق من حدته أو من أعداد المشاركين فيه. وتحسب الخطوة في رصيد الحكومة التي تراهن عليها في سبيل إنهاء العزلة الدولية، وفتح الطريق أمام الحصول على دعم من مؤسسات التمويل الدولية على الرغم من الثمن السياسي الباهظ الذي يخشى كثر أن تدفعه تحديداً في ما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل بفعل الضغوط متعددة الأطراف التي تتعرض لها للانضمام إلى قطار التطبيع.
وسارعت "لجان المقاومة" في عدد من أحياء ولاية الخرطوم إلى كسب حق السبق للتظاهر، بدعوة السودانيين للخروج في موكب تحت اسم "مليونية21 أكتوبر"، احتجاجاً على تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد، والتي تلقي بظلال سلبية على الحياة اليومية للمواطن السوداني الذي يقف في صفوف طويلة للحصول على الخبز والوقود. وحدد الداعون للمليونية يوم 21 أكتوبر لما فيه من رمزية، إذ يصادف ذكرى مرور 56 سنة على أول ثورة شعبية أطاحت في 1964 أول نظام عسكري في البلاد.
اعتبرت "لجان المقاومة" في الأحياء والمدن أن الحكومة لا تملك حلولاً وذهبت في نفس سياسات النظام السابق
وطبقاً لبيانات صادرة من عدد من "لجان المقاومة" في الأحياء والمدن، فإنها ترى أن الوضع الاقتصادي تأزم وتفاقمت الأزمات المعيشية للمواطن، وأن الحكومة لا تملك حلولاً وذهبت في نفس سياسات النظام السابق. وطالبت اللجان بإسقاط الحكومة وتكوين حكومة كفاءات، ومحاسبة ومحاكمة رموز النظام السابق، وحل لجنة التحقيق الوطنية حول مجزرة فض الاعتصام في الخرطوم، في يونيو/حزيران 2019 وإبدالها بلجنة دولية.
الحزب الشيوعي السوداني، ورغم وجوده ضمن تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير" الحاكم، إلا أنه لم يتوان في إعلان تأييده لمليونية اليوم الأربعاء، لكن بمسوقات مختلفة عن "لجان المقاومة". وأشار "الشيوعي" إلى أهمية إلغاء القوانين المُقيدة للحريات، والخروج من نهج النظام البائد في السلام القائم على المحاصصة والحلول الجزئية الذي يعيد إنتاج الحرب. ورفض الحزب، في بيان، السير في طريق رفع الدعم عن السلع الاستراتيجية، تنفيذاً لتوصيات صندوق النقد الدولي في خفض قيمة الجنيه السوداني، وتحرير الأسعار، والخصخصة التي دمرت الاقتصاد، وأدت إلى تدهور الأوضاع المعيشية كما هو الحال الآن.
ودعا "الشيوعي" إلى "إلغاء قانون النقابات الصادر في 2010، وإصدار قانون للنقابات يؤكد ديمقراطية واستقلالية الحركة النقابية، والمحاسبة، والإسراع في التقصي في مجزرة فض الاعتصام والقصاص للشهداء، وتحسين الأوضاع المعيشية وتركيز الأسعار". وشدد على ضرورة "استعادة أموال وممتلكات الشعب المنهوبة، وعودة شركات الذهب والبترول والمحاصيل النقدية والماشية والاتصالات التابعة للجيش والأمن والدعم السريع لولاية المالية". وأكد الحزب "أهمية قيام علاقات خارجية متوازنة لمصلحة الشعب السوداني، وإصدار قرار سياسي بعودة كل المفصولين العسكريين والمدنيين، وحلّ كل المليشيات، وقيام جيش قومي مهني موحد، وجمع السلاح، والإسراع في انتخاب المجلس التشريعي".
رفض الحزب الشيوعي السير في طريق رفع الدعم عن السلع الإستراتيجية
حزب آخر منضوٍ في "الحرية والتغيير" أعلن أيضاً دعمه للمليونية. وأكد حزب المؤتمر السوداني، في بيان، على المطالب المتمثلة في استكمال هياكل السلطة الانتقالية بعد المجلس التشريعي، وهي المحكمة الدستورية، والمفوضيات، وإصلاح المنظومة العدلية وإنفاذ العدالة دون تسويف. وطالب باستكمال عملية السلام الشامل، وتنفيذ ما اتفق عليه في اتفاق السلام في عاصمة جنوب السودان جوبا، بالإضافة إلى الإسراع بالإصلاحات والمعالجات الاقتصادية التي تنعكس على قوت المواطنين. ودعا الشرطة والأجهزة الأمنية إلى الاضطلاع بدورها في تأمين المواكب وضمان سلامتها، وحمايتها من الاختراق من "أذيال النظام البائد وفلوله".
أما تجمع المهنيين السودانيين، وهو الجسم النقابي الذي قاد الحراك الثوري الذي أطاح النظام السابق، فقد رسم، في بيان، صورة سوداء لما آلت إليه الأوضاع عقب استلام الحكومة الحالية لمقاليد السلطة. واعتبر التجمع أن الأزمات تتناسل كل يوم، والأداء الحكومي مضطرب وضعيف ولا يرتقي لمستحقات ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018. وذكر أن "الضائقة المعيشية لم تعد تُحتمل، وأن أطراف البلاد ما زالت تنهشها التفلتات الأمنية، وقتل للمحتجين السلميين، فيما تأخرت محاكمة قتلة شهداء الثورة ومرتكبي جرائم التعذيب واغتيال المعارضين". وأشار إلى سمة التمديد لعمل لجنة التحقيق في فض اعتصام القيادة العامة وبقية المدن، متهماً الحكومة باتباع منهج الإلهاء والحلول الجزئية.
واعتبر تجمع المهنيين السودانيين أن "مجمل تصرفات السلطة الانتقالية وحاضنتها لا تبشّر بجدية أو عزيمة على المراجعة أو الإصلاح، بل هي سائرة في غيّها، تتعامل مع مواقع المسؤولية كغنائم، ضاربة عرض الحائط بالكفاءة والمعايير، فامتلأت الوزارات واللجان وحكومات الولايات بمحاسيب، مستبدلة تمكيناً بتمكين، وولاء بولاء. وبدل الإقرار بالأخطاء والتصحيح، تطمع في مزيد من المحاصصات، متجاهلة معاناة من أتوا بها وصبرهم الآخذ في النفاد، متناسين أن عزيمة ثائرات وثوار ديسمبر لا تخبو جذوتها تحت الرماد". وتعهد تجمّع المهنيين السودانيين ألا يكون ستراً على عملية التلاعب بالمسار الانتقالي، و"سيدعم غضبة الشعب المشروعة على حصيلة أداء السلطة الانتقالية حتى الآن، وحقه في الخروج والتعبير عن ضيقه بهذا الحصاد".
تعهد تجمّع المهنيين السودانيين بدعم غضبة الشعب المشروعة على حصيلة أداء السلطة الانتقالية حتى الآن
أنصار النظام السابق ليسوا بعيدين عن الدعوة لموكب 21 أكتوبر. لكن وبسبب حظر حزبهم، "المؤتمر الوطني"، فإنهم يستعدون للمشاركة في الاحتجاجات تحت واجهات مختلفة. ويهدف أنصار النظام المخلوع لإحراج الحكومة وتجريدها من أرضيتها الشعبية التي تستند إليها. كما يغازل عناصر النظام السابق المكون العسكري ليتحرك ويمسك بزمام السلطة، بما يخفف عنهم الضغط الذي يتبناه "تحالف الحرية والتغيير".
لكن الخلاف حول جدوى الخروج على الحكومة سيطر تماماً على الصف الثوري وحتى داخل "لجان المقاومة" ومكونات "قوى الحرية والتغيير". ورأى القيادي في "لجان المقاومة" في منطقة شرق النيل بالخرطوم زهير الدالي أن الخروج في موكب اليوم فرض عين على الثوار الذين خرجوا ضد النظام السابق، ولم تتحقق مطالبهم بسبب فشل الحكومة. وبين، في حديث مع "العربي الجديد"، أن على رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إما تغيير سياسته جذرياً أو التنحي. وعزا التباين في المواقف من الموكب، حتى داخل "لجان المقاومة"، لما تبثّه الحكومة من أحاديث عن أن الذين سيخرجون في هذا اليوم هم عناصر النظام السابق. وأكد أن الدليل على فشل الحكومة هو أنها تغض الطرف عن كوادر النظام السابق حتى تجعلهم فزاعة جديدة ترفعها في وجه كل احتجاج.
ورأى الزين محمد الدين، وهو أحد الشباب الذين شاركوا في الثورة ضد نظام عمر البشير، لـ"العربي الجديد"، أن الحكومة الحالية تواجه ضغطاً من المكون العسكري والنظام السابق، ومن لوبي رجالات الأعمال، ومن كثيرين تضررت مصالحهم بذهاب نظام البشير، وبالتالي فإن من الواجب دعمها وليس إلقاء مزيد من الضغوط عليها، تحديداً من قبل من يفترض أنهم في الصف الأقرب إليها.
وأيد هذا الرأي حزب الأمة القومي، بقيادة رئيس الوزراء الأسبق الصادق المهدي، والذي يعتبر أن الخروج في موكب 21 أكتوبر سيخدم قوى ليس لديها مصلحة في نجاح التحول الديمقراطي. وأوضح الأمين العام للحزب الواثق البرير، لـ"العربي الجديد"، أن حزبه يدعم كل المطالب التي حددتها "لجان المقاومة" وبقية الأجسام السياسية، ويشعر بحجم الإشكالات، المعيشية والسياسية، لكنه يختلف حول وسيلة تحقيق تلك المطالب، ويقترح الحوار المباشر بدلاً من الضغط على الحكومة.
وتوقع الصحافي ياسر العطار أن يدفع الفشل السياسي والاقتصادي للحكومة وحاضنتها السياسية السودانيين للخروج اليوم الأربعاء في موكب كبير، مشيراً إلى أن الحكومة فقدت كل شعبيتها ولم يعد أمامها غير التنحي وفتح المجال أمام حلول سياسية جديدة. ولم يستبعد العطار، في حديث مع "العربي الجديد"، انحياز القوات المسلحة للرغبات الشعبية واستلام زمام الأمور، بعيداً عن أي حاضنة سياسية، يمينية أو يسارية. واعتبر أن هذا الأمر سيُمكّن البلاد من الخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية، ويهيئ المناخ تماماً للوصول لمرحلة انتقالية، تعقبها انتخابات عامة يكون فيها الحكم لصندوق الانتخابات.
ومع اشتداد رقعة التأييد لموكب 21 أكتوبر، اضطر المجلس المركزي لتحالف "قوى الحرية والتغيير"، إلى عقد مؤتمر صحافي مساء الإثنين الماضي. وقال القيادي في التحالف إبراهيم الشيخ إن الثورة حققت الكثير من الإنجازات، ومنها الحريات العامة والتوقيع على اتفاق السلام في جوبا، الذي ذكر أنه يستحق الاحتفاء به لأنه يوقف الحرب ويوفر موارد مالية، ويفتح الطريق للتحول الديمقراطي في البلاد، حتى ولو جاء ناقصاً بعدم توقيع حركات مسلحة عليه. وأقرّ الشيخ بإخفاقات اقتصادية وأزمة معيشية خانقة، ما يحتاج إلى تصحيح يعالج الأزمة الاقتصادية، ويُكمل العملية السلمية وتحقيق العدالة الاجتماعية. وتوقع أن تتعامل الحكومة مع المواكب بطريقة مهنية، تثبت حق التعبير لكل السودانيين، وأن التحالف الحاكم يعي تماماً الحاجة لتصحيح المسار وتحقيق رغبات الشعب السوداني.