لا يريد الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن تضييع مزيد من الوقت، في انتظار توقّف الرئيس الخاسر دونالد ترامب عن العناد ومساعيه لإحباط نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في 3 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي. فبعد 20 يوماً على انتهاء العملية الانتخابية، بدأ بايدن توزيع فريق عمله داخل إدارته العتيدة. وإذا كان من عنوان أساسي للتعيينات في الإدارة الجديدة، فهو "منح السياسات الأوبامية فرصة جديدة". في الواقع، لا يشكّل الأمر مفاجأة لأحد، فبايدن أحاط نفسه طوال الحملة الانتخابية بفريق الرئيس الأسبق باراك أوباما، خصوصاً الصقور الذين مُنحت مساحات واسعة لهم في ولايتيه (2009 ـ 2017) في مختلف الملفات الخارجية والداخلية، من الشرق الأوسط إلى الرعاية الصحية. ولا يُمكن في هذا الإطار، نسيان الجولات الأخيرة لأوباما دعماً لبايدن في الحملة الانتخابية لرئاسيات 3 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، خصوصاً في الأسابيع الفاصلة والولايات الحاسمة، تحديداً في بنسلفانيا، حيث رجّحت أكبر مدنها، فيلادلفيا، الكفة للرئيس المنتخب، على حساب الرئيس الخاسر، دونالد ترامب. ويكفي النظر إلى لائحة التعيينات، التي حسمت أمس، لإدراك حجم سيطرة أوباما على العهد الأميركي الجديد، خصوصاً مع بروز الثلاثي أنطوني بلينكن، وجايك ساليفان، وليندا توماس - غرينفيلد. وتُثير التعيينات الجديدة التساؤلات حول مدى نفوذ أوباما في الإدارة المقبلة من جهة، وحول الحديث العابر لبايدن في الصيف الماضي عن كونه "رئيساً انتقالياً" من جهة ثانية. وهو ما يعزز الفرضية القائلة بتعبيد الطريق لنائبة بايدن، كامالا هاريس، لرئاسيات 2024، وقطع الطريق على احتمال عودة ترامب.
ساليفان كان من الفريق الأميركي المفاوض مع الإيرانيين
في السياق، يبدو بايدن عازماً على تغيير مسار السياسات الأميركية، خصوصاً في الخارج، بعد 4 سنوات من عهد ترامب الذي رفع شعار "أميركا أولاً". من وجهة نظر بايدن، إن هذا الشعار دفع الولايات المتحدة إلى الانعزال عن العالم، خصوصاً بفعل انسحاب ترامب من اتفاقيات عالمية عدة، واعتماده استراتيجية متعنّتة في ملفات عدة. عليه، ينوي بايدن إعادة العمل باتفاق باريس للمناخ، الذي انسحب منه ترامب أخيراً، بعد 5 سنوات من إقراره، معللاً ذلك بأنه "لم يكن مصمّماً لإنقاذ البيئة، بل لقتل الاقتصاد الأميركي". يرغب بايدن أيضاً في العودة إلى منظمة "الصحة العالمية"، التي انسحب منها ترامب في العام الحالي لأنها "تأخرت في التحرك للتصدي لفيروس كورونا". كما يسعى الرئيس المنتخب إلى إنعاش الاتفاق النووي مع إيران، الذي انسحب منه ترامب عام 2018، واصفاً إياه بأنه "كارثي". مع العلم أن الاتفاق الموقّع عام 2015، يُعتبر من أهم "إنجازات أوباما الخارجية". في هذه الملفات يحتاج بايدن إلى وزير خارجية متمرّس، لا يشبه ريكس تيلرسون، الذي فشل في صياغة أسلوب يمزج بين الترويج لمنطق ترامب في الخارج والواقعية المفترض أن تتحلّى بها الدبلوماسية الأميركية، ولا يكون نسخة عن مايك بومبيو، الساعي بدأب لترجمة أفكار ترامب خارجياً بأسلوب دبلوماسي. هنا، عاد اسم أنطوني بلينكن إلى الواجهة واختير لمنصب وزير الخارجية. لا يُعدّ بلينكن شخصية جدلية، بل يُصنّف بأنه "ليس أيديولوجياً"، بالمعنى التقليدي لتصنيفات الأيديولوجيات. ويرى أن تجربته كحفيد لجدّ بولنديّ يهودي ناجِ من معتقل أوشفيتز النازي، أيام الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، هي من أبرز المحفزات لتكوين مسار سياسي، ينتهج "التعددية" في إدارة مختلف الملفات. يشبه بلينكن أوباما بعض الشيء في منطق "التعددية"، لأن الرئيس الأسبق، المولود من أب كيني وأم أميركية من أصول إنكليزية، شرح مراراً تأثير انتماء والديه إلى عرقين مختلفين، وانعكاسها على شخصيته، ونموّه الحقوقي والسياسي. بلينكن ليس جديداً في البيت الأبيض، بل بدأ عمله هناك كاتباً لخطابات الرئيس الأسبق بيل كلينتون بين عامي 1994 و1998، ثم تحوّل إلى مجلس الأمن القومي، ثم كبير موظفي لجنة الشؤون الخارجية الأميركية، حيث تعرّف على بايدن، وانضمّ إلى فريقه لرئاسيات 2008. عمل مستشاراً لأوباما وبايدن في الشؤون الخارجية، تحديداً في شأن إيران وأفغانستان وباكستان. بعدها شغل منصب نائب وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري، بين عامي 2015 و2017، وكان نائباً لمستشارة الأمن القومي (سوزان رايس) بين عامي 2013 و2015 في عهد أوباما. وقيل إنه الوحيد الذي حضر كل الاجتماعات في البيت الأبيض برئاسة أوباما في الولايتين الرئاسيتين. حتى أنه وصف قرار أوباما باغتيال زعيم "القاعدة"، أسامة بن لادن، في 2 مايو/أيار 2011 بأنه "أشجع قرار لقائد عرفته في حياتي". براغماتية بلينكن تُنبئ بالكثير، فعلى الرغم من إصراره على تصنيف نفسه "يسارياً" وبأنه هاوي كرة قدم وعازف غيتار ماهر يعشق فرقة "البيتلز" البريطانية، التي ألّفت عشرات الأغاني الرافضة للحروب، إلا أنه أيّد فكرة التدخل الأميركي العسكري في ليبيا، وأيضاً في سورية. كما دعم الغارات الأميركية التي أمر بها ترامب في سورية. وبلينكن يتحدث الفرنسية بطلاقة، وهو محاور لبق ومن مؤيدي أوروبا، وسبق أن ارتاد مدرسة في باريس، حيث كان زوج والدته يمارس مهنة المحاماة. وتعيين بلينكن الذي سيتطلب موافقة مجلس الشيوخ، قد يساهم في طمأنة حلفاء الولايات المتحدة الذين تعرضوا للتهميش أو حتى للإهانة في ظل حكم ترامب. وكتب رئيس مجلس العلاقات الخارجية (مركز أبحاث)، ريتشارد هاس، على "تويتر"، أن "بلينكن سيكون وزير خارجية قوياً للولايات المتحدة، فإلى جانب خبرته الواسعة في السياسة الخارجية، فهو "على علاقة جيدة بالرئيس، ما سيتيح له إيصال الحقيقة للسلطة".
وصف بلينكن قرار أوباما باغتيال زعيم "القاعدة"، أسامة بن لادن، بأنه "أشجع قرار لقائد عرفته في حياتي"
وليس بعيداً عن بلينكن، يبرز اسم صديقه جايك ساليفان، الذي اختاره بايدن لمنصب مستشار الأمن القومي، بعد سنوات من عمله مساعداً لبايدن، ولوزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون. ساليفان لم يأتِ من عدمٍ، فقد ارتبط اسمه بالمفاوضات الأميركية مع إيران في مرحلة الاتفاق النووي. ففي نوفمبر 2013، ذكرت وكالة "أسوشييتد برس"، أن أعضاء في إدارة أوباما تواصلوا مع مسؤولين إيرانيين، للبحث حول إمكانية التوصل إلى اتفاق نووي. وذكرت الوكالة أن نائب وزير الخارجية (في حينه) ويليام بيرنز، ومستشار البيت الأبيض للملف الإيراني (في حينه)، بانيت تالوار، وساليفان عقدوا مباحثات سرية مع نظرائهم الإيرانيين، 5 مرات على الأقلّ، في سلطنة عُمان. وهي اللقاءات التي أفضت إلى التمهيد للاتفاق النووي، الموقع عام 2015. مع العلم أن ساليفان حضر اللقاءات الثنائية الأميركية ـ الإيرانية، في جنيف السويسرية، كعضوٍ في الوفد الأميركي. لكن ساليفان بدا حذراً في الفترة الأخيرة، حيال العودة الأميركية للاتفاق النووي، مشدّداً في حديثٍ صحافي على أن "بايدن سيقدم لحلفاء الولايات المتحدة، الدعم اللازم للتفاوض على تفاهم إقليمي واسع مع إيران". وتتماشى هذه الفكرة مع مقال كتبه بايدن في سبتمبر/أيلول الماضي ونشرته صحيفة "سي أن أن"، ومفاده أنه "لا يُشكّك في حقيقة التحديّات التي يفرضها النظام في إيران على المصالح الأمنية للولايات المتحدة، وأصدقائها وشركائها وشعب إيران نفسه". وأكد التزامه "بمنع إيران من امتلاك سلاحٍ نووي، والعمل مع حلفاء الولايات المتحدة على تعزيز وتوسيع بنود الاتفاق النووي، مع معالجة القضايا الأخرى ذات الأهمية". ويشمل ذلك، وفقاً لمقال بايدن "العمل الجادّ للإفراج عن الأميركيين المعتقلين ظلماً واستدعاء النظام لانتهاكاته المستمرة لحقوق الإنسان"، مع مواصلة "التصدّي لأنشطة إيران المزعزعة للاستقرار ودعمها للإرهاب وبرنامج الصواريخ الباليستية". وختم "ستعود الولايات المتحدة للمسار الدبلوماسي والاتفاق النووي إذا عادت إيران إلى الامتثال الصارم للاتفاق". وتُظهر شخصية ساليفان حرصه على "التفاصيل"، فقد عمل على تجهيز باراك أوباما وهيلاري كلينتون للمناظرات الرئاسية، وكان أول من نصح كلينتون بتخصيص وقت أطول في ولايات الغرب الأوسط الأميركي المتأرجحة، في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، وهي الولايات التي كسبها ترامب. كما برز اسمه في تسريبات "ويكيليكس" للبريد الإلكتروني العائد لكلينتون، خصوصاً انتقاده خطة الطاقة النظيفة للمرشح في تمهيديات الحزب الديمقراطي للانتخابات عينها، مارتن أومالي. وبعد هزيمة كلينتون أمام ترامب، أكد ساليفان أنه "شعر بمسؤوليته عن هزيمتها". ولخلق التناغم المطلوب في السياسة الخارجية الأميركية، اختار بايدن مساعدة وزير الخارجية لشؤون أفريقيا بين عامي 2013 و2017، ليندا توماس - غرينفيلد، مندوبة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، خلفاً لكيلي كرافت. ووفقاً لموقع "أكسيوس"، فإن بايدن يرى أن ترقية "امرأة من أصول أفريقية ودبلوماسية محترمة إلى هذا المنصب، ستساعد في استعادة الروح المعنوية". ويُنظر إلى الدبلوماسية الأميركية المرشحة للمنصب بكونها من أكثر الشخصيات خبرة في العمل الدبلوماسي، فشغلت منصب مساعدة وزيري الخارجية لشؤون السكان واللاجئين والهجرة، آرثور ديوي وإيلين سوربري بين عامي 2004 و2006، وسفيرة أميركا في ليبيريا، ومساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية بين عامي 2013 و2017، ثم أُقيلت في بداية عهد ترامب، في سياق حملة "تطهير البيت الأبيض من موظفي أوباما".
وبعد أن وصف الرئيس الخاسر دولاً أفريقية يأتي منها المهاجرون إلى الولايات المتحدة، بـ"الحثالة"، وجّهت توماس - غرينفيلد مع 77 سفيراً أميركياً سابقاً، رسالة إلى ترامب جاء فيها أن "الولايات المتحدة أكثر أمناً وصحة ورخاءً، وأكثر استعداداً لحل المشاكل التي تواجه الإنسانية، عندما تعمل مع الشركاء الأفارقة وتستمع إليهم وتتعلم منهم". وعلى الرغم من أن باكورة التعيينات تشي بمسار جديد لبايدن، إلا أنه حدّد أيضاً أولويات الإدارة المقبلة. مع بلينكن سيكون هناك مسار يُحيي فكرة "تعددية القرار العالمي"، ولكن تحت قيادة أميركية، وفقاً لقول بايدن بالذات إنه سيعقد قمة لدعم الديمقراطيات في العالم في واشنطن، بمجرد بدء عهده في 20 يناير/كانون الثاني المقبل. وسيسمح وجود بلينكن في إعادة رسم خريطة طريقة جديدة مع الاتحاد الأوروبي ومع حلف شمال الأطلسي، بعد سنوات صدامية مع ترامب، تحديداً في ملفي التجارة مع الأوروبيين، والنفقات الدافعية مع الشركاء الأطلسيين. أما مع ساليفان، فإن تعيينه في أرفع منصبٍ أمني أميركي، يجعل من بايدن أكثر قبولاً لمنطق "الضغط الناعم" على الإيرانيين في الملف النووي، وانعكاسه على العراق، الذي أيّد الرئيس المنتخب في وقتٍ سابق تقسيمه إلى ثلاثة أقاليم: كردية، سنية، شيعية. وبالنسبة إلى توماس ـ غرينفيلد، فيُمكن تنصيف تعيينها بـ"محاولة أميركا التصالح مع العالم إنسانياً"، تحديداً لجهة اعتماد مقاربات مغايرة في العلاقة مع اتفاق باريس للمناخ، والعودة لمنظمة "الصحة العالمية"، وتغيير المسار السلبي لإدارة ترامب تجاه المهاجرين واللاجئين.
توماس ـ غرينفيلد من أنصار التعامل مع الشركاء الأفارقة
لكن، على الرغم من كل ذلك، يبقى أمام فريق بايدن ملفات عدة، أبرزها مصير "صفقة القرن" (خطة الإملاءات الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية)، واتفاقات التطبيع بين دول عربية وإسرائيل. مع العلم أن بايدن نفسه من أبرز المؤيدين لإسرائيل، لكنه قد يعود إلى اعتماد حل الدولتين، وفق ما ذكر العديد من المراقبين. وفي وقتٍ تبدو العلاقة مع روسيا مرجّحة لمزيد من التوتر، إلا أن علاقة إدارة بايدن مع الصين قد تكون مشابهة لإدارة ترامب، لجهة الحدّ من الاعتماد الأميركي على استيراد السلع الصينية، والتنافس مع الصين في القطاعات الإستراتيجية مثل الذكاء الاصطناعي والجيل الخامس من شبكات الاتصالات. ومن المرجح أيضاً أن يبقى بايدن جزءاً أساسياً من الحرب التجارية التي بدأها ترامب، وهي التعريفات التي تشمل ما يقرب من ثلاثة أرباع كل ما تبيعه الصين للولايات المتحدة.