فرصة أخرى أضاعها العراق من أجل إصلاح النظام السياسي الذي أنتجه الاحتلال الأميركي عام 2003، والنفوذ الإيراني الذي واكبه. وعوضاً عن أن تشكل الانتخابات التشريعية التي أجريت في العاشر من الشهر الحالي انعطافة مهمة، فإنها جاءت أسوأ من سابقتها التي أجريت في عام 2018، والتي رافقتها تهمة التزوير، وشكّلت مخرجاتها أحد أسباب قيام انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 2019 الشبابية، التي رفعت شعارات ضد فساد الطبقة السياسية الحاكمة. ويكمن الخلل الأساسي هذه المرة في مقاطعة تيار الانتفاضة للانتخابات، في حين كان في وسعه أن يقوم بتنظيم نفسه، ويشارك فيها بقوة، كونها جاءت مبكرة كنتيجة للتضحيات التي قدمتها الانتفاضة، وبلغت حوالي 700 قتيل ومئات الجرحى. وترك هذا العزوف عن خوض التجربة المجال مفتوحاً أمام القوى الأخرى، التي صعدت على خشبة المسرح من جديد.
الملاحظ أن المقاطعة شملت المدن الكبرى الثلاث، بغداد، الموصل، البصرة
كانت التقديرات تخمن بأن نسبة المشاركة في الدورة الحالية سوف تكون أعلى، والإقبال على التصويت مختلفاً كلياً عنه في الدورات السابقة، لأنها انتخابات مبكرة، وتمت بناء على مطالبات انتفاضة تشرين الشبابية، كما أنها جرت على أساس قانون انتخابي جديد يقسم العراق إلى دوائر أصغر، وهو أحد مطالب النشطاء الذين شاركوا في الاحتجاجات، والذي يسمح بتواجد المزيد من المرشحين المستقلين. إلا أن نسبة المشاركة كانت مخيبة للآمال، 41 في المائة، أدنى منها عن انتخابات 2018 التي بلغت 44.5 في المائة. وحتى لو كانت نسبة 41 في المائة جيدة بالنسبة للبعض في هذه الظروف، فإن عزوف نسبة 59 في المائة لا يستهان به وهو مؤشر خطير، والملاحظ أن هذه المقاطعة شملت المدن الكبرى الثلاث، بغداد، الموصل، البصرة. وجاءت أدنى مستوياتها على الإطلاق وأقل نسبة مشاركة في بغداد، حيث تراوحت بين 31 في المائة و34 في المائة. ولكل من المدن الثلاث حكاية خاصة مع الحكومات المتعاقبة، ولكنها تلتقي عند حالة الإحباط التي يعيشها الشارع العراقي عموماً، تجاه العملية السياسية التي تدور في حلقة مفرغة، طالما أنها لم تحل قسطاً من المشاكل الأساسية. في بغداد ينتظر الناس معالجات للأوضاع الاقتصادية والسياسية التي تسير من سيئ إلى أسوأ، ويُعد ما واجهته انتفاضة أكتوبر مثالاً على ما يعيشه العراق، من فساد وبطالة ونهب للمال العام، وتدهور سياسي، بسبب تحكّم فئة معينة بمقدرات البلد السياسية والاقتصادية. أما في الموصل، فلا يزال الدمار في كل مكان، ولم يتم حتى الآن رفع أنقاض الحرب على "داعش"، التي دمرت القسم الأكبر من المدينة، في حين أن الوضع في البصرة لا يقل سوءاً، ويشكل تدمير الزراعة العنوان الأبرز، بسبب اجتياح المنتوجات الإيرانية، وغياب المياه من أجل الري وتدهور البنى التحتية وسطوة المليشيات الموالية لإيران، التي تعد الخاسر الأكبر في هذه الدورة.
العراق هو ثاني بلد مصدّر للنفط في منظمة أوبك، بعد السعودية، بمعدل يتجاوز 3 ملايين برميل يومياً، وعائدات تتجاوز 6.5 مليارات دولار شهرياً حسب الأسعار القديمة، قبل أن تشهد الأسعار ارتفاعاً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة، ويعتمد بنسبة 92 في المائة على عائدات النفط لتغطية نفقات الدولة، إلا أن العراقيين لم يلمسوا أي تحسن في مستوى حياتهم المعيشية، ومنذ سقوط النظام السابق يزداد الوضع سوءاً، على صعيد الخدمات، الغلاء، الوظائف، غياب الدولة وسطوة المليشيات. والملاحظ أن هناك فئة صغيرة هي المستفيدة، وباقي الشعب العراقي في الجنوب والوسط والغرب يعاني الفقر وغياب الخدمات الأساسية من صحة وبنى تحتية. وحسب تقارير الأمم المتحدة، فقد تم التصرف بـ650 مليار دولار من المال العام خلال 17 عاماً، وتقول تقارير لجنة الشفافية البرلمانية العراقية إنه تم تهريب ما يفوق 350 مليار دولار إلى خارج العراق، أي ما يعادل 32 في المائة من إيرادات العراق خلال 17 عاماً. وارتفعت نسبة الفقر من 11 في المائة عام 2003 إلى 44 في المائة في عام 2020. وبات البرلمان مؤسسة من أجل تشريع هذا الوضع، وتحوّل إلى منصة للجماعات المهيمنة على اقتصاد البلد والجيش والأمن.
بدا أن الناخب العراقي بات يعي أهمية صوته، ولذلك تمرد على التركيبة الحالية في كل المناطق
وتأتي نسبة المشاركة المتدنية لتوجّه صفعة لكل الأطراف التي رمت بثقلها، ومنها الأحزاب الدينية المحسوبة على إيران، والمرجعية الشيعية التي تحمست للانتخابات ووجهت دعوات للمواطنين للمشاركة بكثافة. إلا أن صوت المقاطعة كان أقوى، وسار الجمهور العام وراء دعوات المقاطعة التي نادى بها حراك تشرين الشعبي، مشككاً بحدوث التغيير في ظل وجود وجوه المنظومة ذاتها، وخلفها المليشيات المسلحة. وفي يوم الانتخابات، تصدّر وسم "مقاطعون" صفحات "تويتر" العراقية، وسط تقارير محبطة تؤكد تدني نسبة المشاركة، وعزوف الملايين عن الإدلاء بأصواتهم، ما دعا الباحث الدكتور علي الجابري إلى المجاهرة بالقول "بكل فخر، تشرين هي الكتلة الأكبر ولا عزاء للقتلة الفاسدين". وبدا أن الناخب العراقي بات يعي أهمية صوته، ولذلك تمرد على التركيبة الحالية في كل المناطق. ولكن الخسارة الفادحة هي التي لحقت بأنصار إيران من فصائل "الحشد الشعبي"، التي لن يكون لها دور في تشكيل الحكومة المقبلة. وهناك من يحاول أن يوحي بأن الإحباط يقتصر على الشارع العربي، وأن حال الوسط الكردي أفضل لأن أعلى نسبة مشاركة جاءت في محافظة دهوك وقاربت 50 في المائة، بل هو لا يقل سوءاً، وهناك تذمر شديد موجّه ضد عائلة البارزاني التي تتولى رئاسة الإقليم عبر نجيرفان البارزاني (ابن شقيق مسعود البارزاني) ورئاسة وزراء الإقليم عبر مسرور البارزاني (نجل مسعود البارزاني). وفي السليمانية لا تزال عائلة جلال طالباني الحليفة لإيران تتحكّم بالمحافظة، وبالتالي تراجع مشروع وحدة الإقليم إلى حد كبير، عما كان عليه قبل عقد من الآن.
هناك عيوب كثيرة اعترت هذه الدورة الانتخابية، ومن أبرزها مشاركة 186 برلمانياً سابقاً من أصل 329 مقعداً نيابياً، تكرروا في الدورات البرلمانية السابقة، ونجح العديد منهم في السابق بالتزوير والرشاوى وشراء الأصوات. والعيب الثاني هو حرمان نحو 5 ملايين مغترب عراقي من التصويت باعتبار أنهم خارج البلد. واتُخذ هذا القرار على أساس أن هؤلاء معارضون للنظام الحالي وللعملية السياسية برمّتها، وهذا يشكل نقطة ضعف كبيرة في الديمقراطية العراقية المفصلة على مقاس الأطراف التي حكمت العراق بعد الاحتلال. ويكمن العيب الثالث في مشاركة رموز فاسدة وقمعية في التصويت والظهور أمام الكاميرات، مثل رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي الذي قامت انتفاضة أكتوبر ضد أسلوبه في الحكم، وأثارت صورته وهو يرفع أصبعه بالحبر الأزرق بعد التصويت، ردود فعل من قبل شباب الانتفاضة.
يضاف إلى ذلك عدم ثقة الغالبية العظمى من العراقيين بالتركيبة الموجودة اليوم التي حكمت العراق لمدة 18 عاماً، وبالتالي هناك رفض واسع للأحزاب الدينية، وسلطة المليشيات والأحزاب المحسوبة على إيران، وهذا ما عكسته انتفاضة أكتوبر التي بدأت من الجنوب وكانت صريحة في شعاراتها، وردود فعلها وتحركها ضد النفوذ الإيراني في العراق. إلا أن ما يستحق الوقوف أمامه هو الفوز الكاسح الذي حققه التيار الصدري صاحب الشعبية الواسعة في الأوساط الشيعية الفقيرة، وهذه رسالة صريحة ومباشرة موجهة إلى التنظيمات والفصائل الموالية لإيران، والتي تراجعت بشكل كبير في صناديق الاقتراع، خصوصاً "تحالف الفتح" التابع لفصائل "الحشد الشعبي"، والذي كان القوة الثانية في البرلمان المنتهية ولايته. وعلى أثر ذلك، أعلن الإطار التنسيقي للقوى الشيعية، الذي يضم تحالف "فتح" وفصائل مسلحة وكتلة نوري المالكي، عدم قبوله بنتائج الانتخابات، مؤكداً طعنه. ومن شأن تصدّر الصدريين البرلمان أن يضعهم مقابل أنصار إيران، ويمنحهم النفوذ الأكبر في تسمية رئيس الحكومة المقبلة من بين صفوفهم والتحالف مع كتل أخرى من أجل ذلك، وسيقود ذلك إلى تراجع نفوذ الفئة المحسوبة على إيران أربعة أعوام، وفي مقدمهم ما يعرف بـ"الولائيين" من الساسة الشيعة الذين نالوا مقاعد لافتة في الانتخابات الماضية.
عشرة ملايين شاركوا في الانتخابات من حوالي 25 مليون عراقي، لتجديد نوابهم البالغ عددهم 329 نائباً، وهذا عدد قليل، فلطالما شكّلت نسبة التصويت، على الدوام، دليلاً على الديمقراطية الراسخة، وكلما ارتفعت زادت الثقة بالعملية الديمقراطية، ومثال ذلك الانتخابات الألمانية الأخيرة، التي بلغت نسبة المشاركة فيها 62 في المائة. وفي الانتخابات العراقية لا تعد نسبة التصويت والنتائج التي أسفرت عنها، موجهة إلى رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، الذي لم يمض في الحكم أكثر من سنة وبضعة أشهر، وفي جميع الأحوال لا تعد المقاطعة مجدية في ظل الوضع السائد في العراق. ومن أكبر الأخطاء أن القوى الشبابية التي قامت بالانتفاضة انسحبت في اللحظة الحاسمة لتقديم مرشحيها، ولو فعلت ذلك كان يمكن أن تحقق أمرين: إثبات أن الصوت قادر على التغيير، وعدم إضفاء شرعية على النخب الحاكمة، التي تتصارع على الدولة العراقية بوصفها غنيمة.