حصل ما كان يتوقعه محللون وسياسيون في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية، التي أُجريت أول من أمس الأحد، مع تحقيق الائتلاف اليساري "الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد" (نوبيس)، بقيادة جان لوك ميلانشون، نتائج كبيرة، زاحم فيها تحالف "معاً" بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون، وبات يهدد احتفاظ الأخير بالأغلبية البرلمانية المطلقة.
جولة ثانية صعبة
وتشي تحولات الناخبين الفرنسيين بجولة ثانية صعبة يوم الأحد المقبل، سيرمي فيها ماكرون بكل ثقله، مع تكثيفه جولاته الانتخابية، من أجل نيل الأغلبية المطلقة في "الجمعية الوطنية" (البرلمان)، أي 289 مقعداً من أصل 577، وأيضاً لمنع ميلانشون من فرض أجندته السياسية، وتحويل البرلمان إلى الملاذ الأخير الذي يُمكن فيه معارضة الرئيس في سياساته الاقتصادية خصوصاً.
ومع أن المعركة عملياً تدور بين هذين المعسكرين، إلا أن تقدم اليمين المتطرف بقيادة زعيمة "التجمع الوطني" مارين لوبان، بدا ظاهراً أيضاً في اليوم الانتخابي الطويل، خصوصاً أن لوبان استعادت "مشروعية قيادة اليمين المتطرف"، بعد سقوط المرشح الرئاسي إريك زيمور في دائرة إقليم فار التابع لمنطقة بروفنس ألب كوت دازور.
ونال زيمور 23.19 في المائة من الأصوات في دائرته، وحلّ ثالثاً خلف سيرين موبورن من "معاً" التي نالت 28.51 في المائة، وفيليب لوتيو من "التجمع الوطني" الذي حصل على 24.74 في المائة.
حقق اليمين المتطرف تقدماً كبيراً مقارنة بعام 2017
وحصل تحالف "معاً" المكون من أحزاب الوسط على 25.75 في المائة من الأصوات، وفقاً للنتيجة النهائية التي أعلنتها وزارة الداخلية مساء الأحد، بينما جاء تحالف "نوبيس" ثانياً، ونال 25.66 في المائة.
ويضمّ تحالف "نوبيس" بقيادة ميلانشون أحزاب: الحزب الشيوعي الفرنسي، فرنسا الأبية، الخضر، الاشتراكي. أما تحالف "معاً" فيضمّ: الجمهورية إلى الأمام، الحركة الديمقراطية، آفاق، أجير (اليمين البنّاء)، أقاليم التقدّم، الحزب الراديكالي، المشترك، الاتحاد التقدمي.
وفي المجمل، حصل "معاً" على 5.857.561 صوتاً، بينما نال "نوبيس" 5.836.202 صوتاً، أي أن الفارق بينهما لم يتعدّ 21.359 صوتا، وهو أقل من 1 في المائة من الأصوات.
في المقابل، حصل "التجمّع الوطني" على 18.68 في المائة من الأصوات، ونال 4.248.626 صوتاً. مع العلم أن 23.257.498 شخصا شاركوا في الانتخاب من أصل 48.953.984 يحقّ لهم التصويت. وامتنع 25.696.476 عن الاقتراع. وبالتالي، بلغت نسبة الاقتراع 47.51 في المائة، مع مقاطعة 52.49 في المائة من الناخبين الانتخابات.
مع العلم أن الدورة الأولى في عام 2017، شهدت مشاركة 48.7 في المائة من الناخبين، مقابل مقاطعة 51.3 في المائة. وتُظهر المقارنة، أن ماكرون تراجع بنسبة 8 نقاط عن الدورة الأولى في انتخابات 2017، حين نال تحالفه 32.33 في المائة. أما ميلانشون فخاض حزبه "فرنسا الأبية" الانتخابات في حينه منفرداً ونال 11.03 في المائة. من جهتها، حصلت لوبان على 13.2 في المائة من الأصوات.
وقد يحمل التصويت في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، يوم الأحد المقبل، نتائج متغيرة. وعلى الرغم من وجود تحالف ماكرون في وضع جيد للحصول على أكبر عدد من المقاعد، إلا أن معاهد الاستطلاع الرئيسية قالت إن الرئيس قد يفقد قبضته على البرلمان في الجولة الأخيرة من التصويت.
ووفقاً لاستطلاعات، فإن تحالف "معاً" سيحصل على ما بين 275 و310 مقاعد، وفق تقديرات "إيفوب فيدوسيال"، وبين 255 إلى 295 مقعداً، وفق توقعات معهد "إيبسوس".
ومن المتوقع أن يظفر تحالف "نوبيس" بمقاعد يتراوح عددها بين 175 و205. من جهتها، ستحاول لوبان الفوز بكتلة يبلغ عددها بين 20 و48 نائباً، ما يتيح لليمين المتطرف دخول البرلمان بكتلة هي الأكبر منذ عام 1986 (يجب أن يشمل كل حزب 15 نائباً للسماح بتشكيل كتلة برلمانية).
وتعني هذه الاستطلاعات، التي يُمكن أن تتغير حتى يوم الجمعة المقبل، تاريخ الصمت الانتخابي، الذي يسبق الجولة الثانية من الاقتراع بـ48 ساعة، أن هيمنة الإليزيه مهددة في البرلمان.
مع العلم أن تحالف ماكرون فاز بـ350 مقعداً في الجولة الثانية للتشريعيات في عام 2017، في مقابل 17 لميلانشون و8 للوبان. ولعدد المقاعد أهمية قصوى في البرلمان، فالفوز مثلاً بـ 185 مقعداً يسمح لحزب ما أن يطلب تنظيم استفتاء شعبي، شرط الحصول على 4 ملايين توقيع من قبل الناخبين.
أما في ما يخص عملية الرجوع إلى المجلس الدستوري للبت في شرعية قانون ما أو حكم ما، فهذا يتطلب من الحزب أن يضم 60 نائباً في الجمعية الوطنية.
وفي حال وقّع 58 نائباً على اقتراح يقضي بسحب الثقة من الحكومة، يتم قبل كل شيء تنظيم نقاش عام ينتهي بالتصويت على هذا الاقتراح.
وينص قانون الانتخابات التشريعية على: تنظم الانتخابات التشريعية على مستوى كل دائرة انتخابية خلال دورتين، إلا إذا حصل مرشح ما على غالبية الأصوات في الدورة الأولى (أي أكثر من 50 في المائة)، بالإضافة إلى حصوله على 25 في المائة من أصوات الناخبين المسجلين على القوائم الانتخابية في الدائرة المعنية، وهو ما لم يحصل في مرات كثيرة، بسبب نِسَب الامتناع الكبيرة عن التصويت.
ومن أجل خوض غمار الدورة الثانية، يجب على كل مرشح أن يحصل على الأقل على 12.5 في المائة من أصوات الناخبين المسجلين في الدائرة المعنية.
وفي حال لم يحصل على هذه النسبة من الأصوات سوى مرشح واحد، يمكن للمرشح الذي يليه، ولو نال أقل من 12.5 في المائة، المشاركة في الدورة الثانية من الانتخابات.
وإذا لم ينل أي مرشح النسبة المذكورة (أي 12.5 في المائة) فالمرشحان اللذان تصدرا الجولة الأولى، يتأهلان إلى الدورة الثانية، على أن يُنتخب الفائز نائباً في البرلمان.
ووفقاً لهذه القواعد، فقد فاز 5 نواب فقط من أصل 577 في الجولة الأولى، الأحد. ونجح المرشح عن حزب "آفاق" ضمن تحالف "معاً" يانيك فافينيك، في تثبيت قوته في الدائرة الثالثة من إقليم مايين، فحافظ على مقعده الذي كسبه في عام 2017.
كما حقق 3 مرشحين عن تحالف "نوبيس"، انتصارات عدة في دوائر بالعاصمة باريس: صوفيا شيكيرو عن الدائرة السادسة (خلفاً لبيار بيرسون، أحد أنصار ماكرون)، وسارة لوغرين عن الدائرة 16 (خلفاً لمنير محجوبي، أحد أنصار ماكرون) ودانييل أوبونو (حافظت على موقعها) عن الدائرة 17. وفاز أيضاً أليكسيس كوربيير (حافظ على موقعه) عن "نوبيس" في الدائرة السابعة لإقليم سين ـ سان دوني.
ويبدو تراجع ماكرون أمام ميلانشون في دائرتين باريسيتين، مؤشراً على ضراوة المعركة الانتخابية من جهة، وعلى عجز ماكرون في مواصلة قبضته على العاصمة من جهة أخرى. وبشكل عام، فإن اليمين المتطرف حقق نجاحات في شمال شرقي البلاد وفي جنوب شرقها.
في المقابل، بدت المعارك الانتخابية شديدة الحدّة، بين "معاً" و"نوبيس" في وسط فرنسا وغربها وجنوب غربها. وفي حال فشل تحالف الرئيس الفرنسي من الفوز بأغلبية مطلقة، فإنه سيعاني من فرض ميلانشون تعايشاً غير مسبوق على رئيس أعيد انتخابه للتو سيُحرم عملياً من جميع سلطاته في السياسة الداخلية.
كما سيؤدي فقدان ماكرون للأغلبية البرلمانية، إلى سقوط حكومته المعيّنة في 16 مايو/أيار الماضي، بقيادة إليزابيث بورن، بموجب عرفٍ أرساه هو بالذات في عام 2017.
ويدرك ماكرون أن الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي بدأ في 24 فبراير/شباط الماضي، وتداعياته على أسعار الطاقة والأمن الغذائي، في الداخل الفرنسي، هو أساس معركته الانتخابية.
من المتوقع أن يظفر تحالف "نوبيس" بمقاعد يتراوح عددها بين 175 و205
وقد يكون زعيم "فرنسا الأبية"، جان لوك ميلانشون، أبرز الخاسرين في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في إبريل/نيسان الماضي، غير أن ما ناله في حينها، وما حصل عليه الائتلاف اليساري "الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد" (نوبيس)، في الانتخابات التشريعية، يسمحان بتشكيل كتلة سياسية صلبة، ستغيّر الكثير من المعادلات في فرنسا.
وعلى عتبة انطلاق ولايته الرئاسية الثانية، يبدو الرئيس إيمانويل ماكرون، تحت مقصلة المعسكر اليساري، الذي نجح في استيلاد قوة سياسية، نابعة من نجاح ميلانشون في توحيد صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي، فرنسا الأبية، الخضر، الاشتراكي، في ائتلاف موحّد، يهدف إلى وضع حدّ للسياسات الاقتصادية غير الشعبية للرئيس الفرنسي. ولم يكن ذلك ممكناً لولا التفاهمات والتنازلات التي قادت إلى إرساء الائتلاف.
وشملت بنود الاتفاق بين أطراف ائتلاف "نوبيس" زيادة الحد الأدنى للأجور إلى 1500 يورو، وخفض سن التقاعد إلى 60 عاماً، وتجميد أسعار السلع الأساسية وعدم خضوعها لسوق العرض والطلب، والتخطيط البيئي، وتأسيس الجمهورية السادسة، ودعم الشباب.
كما تنازل ميلانشون أكثر في اتجاه دعم السياسة البيئية واعتماد خط متوازن في السياسة الخارجية، مع موافقة كل أركان الائتلاف على الاتحاد مع أوروبا.
"الجولة الثالثة" لميلانشون
ومنذ خسارته الرئاسيات، التي تُجرى على دورتين، وصف ميلانشون الانتخابات التشريعية بـ"الدورة الثالثة"، لمواصلة اندفاع الناخبين الغاضبين من ماكرون، والرافضين للبديل المتمثل بـ"التجمّع الوطني" اليميني المتطرف، بقيادة مارين لوبان.
وبعد صدور النتائج الرسمية من وزارة الداخلية الفرنسية، مساء الأحد، قال ميلانشون: "للمرة الأولى منذ بداية الجمهورية الخامسة، يفشل رئيس منتخب حديثاً في حشد الأغلبية في الانتخابات التشريعية التالية".
كما شكك مانويل بومبارد، أحد أكبر حلفاء ميلانشون، والذي يترشح لشغل مقعد في مرسيليا، في مصداقية النتائج التي أعلنتها الداخلية. وذكر بومبارد في تغريدة على "تويتر"، في ساعة مبكرة من صباح أمس الاثنين: "تنبيه لتلاعب جديد من دارمانان"، في إشارة إلى وزير الداخلية جيرالد دارمانان.
وأضاف بومبارد أن تحالف "نوبيس" فاز بحوالي 200 ألف صوت إضافي لم يتم احتسابها في النتائج النهائية، من دون تقديم أي دليل على تأكيده.
لوبان استعادت "مشروعية قيادة اليمين المتطرف"، بعد سقوط إريك زيمور
وتُظهر تغريدته أن تقدم اليسار في المدينة الجنوبية، يخرق جدار أحزاب الوسط واليمين المتطرف، اللذين اعتادا على الحصول على أصوات عالية هناك. وبدا ميلانشون واضحاً في تطلعه إلى رئاسة الحكومة، إذ ذكر في مرسيليا بالذات، مساء الجمعة الماضي: "إذا شكلنا الأغلبية، فالمرشح سيكون اسمه جان لوك ميلانشون".
ويقترح تحالف "نوبيس" برنامجاً اقتصادياً يقضي بضخ 250 مليار يورو في الاقتصاد (في مقابل 267 ملياراً من العائدات)، من بينها 125 ملياراً من المساعدات والدعم وإعادة توزيع الثروة. وقرر حتى أن يبدأ عمله فور انتهاء الانتخابات، وفور "تعيينه في رئاسة الحكومة"، في دليل على ثقته بالفوز المنتظر في الدورة الثانية من التشريعيات، الأحد المقبل.
من جهته، يعيش اليمين المتطرف أفضل أيامه السياسية، بتقدمه في الرئاسيات والتشريعيات في غضون 3 أشهر، ما يهدد عملياً أي سياسة جديدة للهجرة قد يعتمدها ماكرون، أو أي إنفاقٍ للمهاجرين واللاجئين في فرنسا. ومن المقرر أن يباشر البرلمان الجديد عمله، في 22 يونيو/حزيران الحالي، وينتخب رئيساً له بالتصويت السري في 28 يونيو.
(العربي الجديد، الأناضول، فرانس برس، رويترز)