منذ أكثر من عام، سلّمت الحكومة اليمنية مقاليد المعركة لجماعة الحوثيين، لتتحكم فيها صعوداً وهبوطاً. وعندما قرّرت إشعال جبهة إضافية، لتخفيف الضغط عن مدينة مأرب النفطية التي تتوالى عليها هجمات الجماعة، استحدثت الحكومة بؤرة قتال جديدة في محافظة البيضاء، يُخشى أن تتحول إلى حرب استنزاف أخرى، على غرار ما يجري في مأرب، خصوصاً بعدما تمكنت جماعة الحوثيين من استرداد المواقع التي خسرتها سريعاً. وخلال فترة قياسية، استطاعت المقاومة الشعبية في البيضاء، مسنودة بكتائب من ألوية العمالقة السلفية، الوافدة من يافع، خطف الأنظار، بعد تحقيق مكاسب ميدانية واسعة في عدد من مديريات البيضاء، خصوصاً تلك المتاخمة لمحافظة لحج، جنوبي اليمن.
كان بمقدور معركة البيضاء أن تحقق مكاسب ثمينة للحكومة، لو أنها كانت مدروسة بالشكل المطلوب
ونظراً لعنصر المباغتة الذي اتّسمت به، كان بمقدور معركة البيضاء أن تحقق مكاسب عسكرية وسياسية ثمينة للحكومة، لو أنها كانت مدروسة بالشكل الذي يجب أن تكون عليه، لكن الارتجال الذي سيطر على مجريات القتال، وعدم وجود تكتيكات عسكرية احترافية، قاد إلى انتكاسة سريعة، بعد اندفاع جماعة الحوثيين لاستعادة ما خسرته من مواقع.
لا تمتلك البيضاء، الواقعة جنوبي شرق صنعاء، أي ثروات طبيعية كتلك المتواجدة في مأرب وشبوة المجاورتين، لكن الاستبسال الحوثي لاستعادة المواقع التي دُحرت مجاميعهم منها، يكشف الأهمية الجغرافية التي تتمتع بها المحافظة، التي يُنظر إليها على أنها مفتاح للتوغل نحو محافظات مختلفة، شمالا وجنوبا. وتمنح السيطرة على البيضاء، جماعة الحوثيين، القدرة على إدارة المعركة نحو محافظات يمنية مختلفة شمالاً وجنوباً. وعلى الرغم من الاكتفاء بالتمركز في مواقع محددة منذ عام 2015، إلا أن استمرار التواجد في تلك المناطق، خصوصاً مديرية مكيراس، منح حلفاء إيران، الحوثيين، ميزة تهديد محافظتي أبين وشبوة. وإذا ما استطاعت الجماعة السيطرة على كامل مديرية الزاهر، فسيكون بمقدورها تهديد محافظة لحج أيضاً. وخلال الفترة الماضية، استفادت جماعة الحوثيين من البيضاء في تضييق الخناق على مأرب. وعبر أراضيها، تمكنت بالفعل من إحكام قبضتها على مديريتي رحبة وماهلية، ومنطقة قانية، وتهديد جبال مراد، التي كانت من أهم الخطوط الدفاعية الجنوبية للمحافظة النفطية.
وخلافاً للأبعاد العسكرية الهامة التي تمنحها محافظة البيضاء للطرف المسيطر، كانت المخاوف الحوثية من الانعكاسات السياسية للتصعيد العسكري من جانب الحكومة الشرعية، حيث أعلنت الجماعة على لسان متحدثها الرسمي، محمد عبد السلام، أن التحالف السعودي يواجه في البيضاء وغيرها "واقعاً يستحيل تجاوزه مهما حاول"، في إشارة إلى محاولة إخضاعهم بالخيار العسكري.
ما الذي حدث؟
عقب اشتداد الهجمات الحوثية في الأطراف الغربية لمحافظة مأرب، منذ مطلع العام الحالي، تصاعدت الانتقادات من داخل منظومة الشرعية لطريقة إدارة المعركة ضد الأطماع الإيرانية، في إشارة إلى تسليم مفاتيح إدارة المعركة لجماعة الحوثيين، التي باتت تتحكم في مكان وزمان الهجوم.
وأقرّ رئيس مجلس الشورى الموالي للشرعية، أحمد عبيد بن دغر، مطلع يوليو/تموز الحالي، بأن استراتيجية المواجهة مع الحوثيين "لا تزال دون مستوى الاستجابة المطلوبة للحدث"، وطالب بإعادة النظر فيها وفتح جبهات قتال أخرى لإرباك المليشيات الحوثية. وانتقد بن دغر، الاعتماد الكلّي للشرعية على التحالف العسكري الذي تقوده السعودية، سواءً في طلب الإسناد الجوي أو الدعم اللوجستي. وفيما أشار إلى أن ما يقدمه التحالف يساهم في الصمود الحاصل بمأرب، إلا أنه أكد في المقابل أن ذلك "ليس الطريق الأكيد للنصر"، خصوصا أن ذلك حاصل منذ ست سنوات، والحصيلة واضحة.
كانت هذه هي المرة الأولى التي يخرج فيها مسؤول رفيع في الحكومة الشرعية لتوجيه انتقادات من هذا النوع، خصوصاً عندما قال إن ما يجري "دليل على اضطراب في الرؤى لحاضر ومستقبل اليمن"، ولا يوحي باستثمار الدعم السعودي والإقليمي والدولي لصالح المعركة. وأثمرت اللهجة الحادّة التي ظهر بها بن دغر على غير العادة، في ظهور عملية اُطلق عليها اسم "النجم الثاقب"، وتهدف إلى استعادة البيضاء من جماعة الحوثيين وإرباك هجومها الانتحاري على مأرب، في مقابل منح الشرعية ميزة مفقودة، وهي التحكم في زمام المعارك.
تزامن انطلاق المعركة مع إعلان الولايات المتحدة استئناف تقديم الدعم الفني واللوجستي للجيش اليمني
وفقاً لمصدر عسكري في وزارة الدفاع اليمنية، فقد بدأت قيادة الجيش الوطني بالإشراف على المعركة، بعدما جمعت بعض الوحدات والكتائب المرابطة في البيضاء، من أجل مناقشة احتياجاتهم، وذلك بناء على توجيهات من نائب الرئيس اليمني، الجنرال علي محسن الأحمر، المسؤول الأول عن إدارة المعركة في المحافظات الشمالية ضد الحوثيين. وقال المصدر لـ"العربي الجديد": "انخرطت المقاومة الشعبية مع ألوية العمالقة وكتيبة من اللواء 119 التابع لمحور البيضاء والمرابط حالياً في مأرب بالمعركة، وكان الهدف الرئيسي قطع طريق مكيراس، من أجل عزل الحوثيين وقطع خطوط إمدادهم عن ثلاث مديريات، لكن المعركة حُمّلت بُعداً أكبر".
تزامن انطلاق المعركة مع إعلان الولايات المتحدة استئناف تقديم الدعم الفني واللوجستي للجيش اليمني بعد توقفه منذ الانقلاب الحوثي واجتياح صنعاء أواخر 2014. ونظراً للضخ الإعلامي الهائل في مواقع التواصل للمكاسب التي تحققت في وقت قياسي، ونشر مقاطع مصورة لإمدادات قادمة من ألوية العمالقة، شعرت جماعة الحوثيين بأن واشنطن والتحالف يقفون خلف تلك المعركة، وبدأ الفزع يتعاظم من أهدافها. وللمرة الأولى، ظهرت قيادات الصف الأول الحوثية تتحدث عن انعكاسات التصعيد في البيضاء على عملية السلام، كما اتهمت واشنطن بتحشيد عناصر تنظيمات "القاعدة" و"داعش" و"النصرة" من كل بقاع الأرض إلى البيضاء، وفقا لتصريحات أطلقها نائب رئيس الأركان الحوثية، اللواء علي الموشكي.
تدرك جماعة الحوثيين جيداً الأهمية التي تحتلها محافظة البيضاء، ولذلك دفعت بكامل أوراقها لاستعادة المواقع التي كانت قد خسرتها أواخر الأسبوع الماضي، على الرغم من أن التقدم الكبير كان في مناطق ثانوية قليلة الأهمية، وليس في مناطق استراتيجية، مثل طريق مكيراس.
ونظراً أيضاً للضخ الإعلامي الذي رافق المعركة والمكاسب السهلة التي تحققت في وقت قياسي، شعرت الحكومة اليمنية بحالة من الزهو، عندما تحدثت عن "تطورات متسارعة على الأرض" كانت تعتقد أنها ستنجح في تغيير المعادلة العسكرية، خصوصاً لما تتمتع به البيضاء من موقع استراتيجي فريد، سواء في تأمين ظهر مأرب، أو قطع إمداد الحوثيين إلى مديرية مكيراس وتأمين محافظة البيضاء ولحج.
وخلافاً للنشوة الحكومية التي تذيع كافة التفاصيل الصغيرة عند تحقيق المكاسب أو وصول إمدادات بشرية لها، لم تعلن جماعة الحوثيين عن شنّ هجوم مضاد داخل محافظة البيضاء إلا بعد تنفيذ عمليتين عسكريتين في مديريتي الزاهر والصومعة. وفجر الخميس الماضي، كانت عناصرها تستعيد بالفعل مركز مديرية الزاهر، بعد حرب شوارع مع المقاومة الشعبية. وأرجعت مصادر عسكرية وقبلية لـ"العربي الجديد"، الانتكاسة التي حصلت إلى قصور في إدارة المعركة من قبل القائمين عليها، والذين تغلب عليهم القيادات السلفية، سواء من مقاومة آل حميقان أو ألوية العمالقة القادمة من يافع أو الساحل الغربي. وقالت المصادر إنه "كان من الواضح أنه لم يتم ترتيب أي نسق دفاعي في المعركة، بعد السيطرة على الزاهر. وفي حال عدم القدرة على تطوير الهجوم، كان من المفترض الشروع في بناء الأنساق الدفاعية التي تؤمّن المناطق المحررة بالمتاريس الدفاعية وغيرها". وطبقاً للمقاطع المصورة التي نشرتها وسائل إعلام حوثية للمكاسب التي تم تحقيقها في مديرية الزاهر، كان من الواضح الاندفاع الكبير للقوات الحكومية في جبهات القتال بأعداد كبيرة وظهر مكشوف جعلها عُرضة للقصف المدفعي الحوثي.
يستطيع الحوثيون حشد مقاتلين جدد إلى البيضاء فيما لا تستطيع قوات الحكومة في مأرب وشبوة الاستغناء عن مواقعها
وتحاول المقاومة المشتركة إعادة ترتيب صفوفها مجدداً من أجل استئناف عملياتها لاستعادة المواقع التي استردها الحوثيون أواخر الأسبوع الماضي، مستفيدة من تعزيزات بشرية سلفية قدمت من لحج وأسلحة من التحالف السعودي. لكن مصادر مطلعة على سير المعركة، قلّلت من احتمال حدوث تحول سريع في خريطة السيطرة على الأرض، مشيرة إلى أن التعزيز القادم ليس احترافياً بالصورة التي يمكن التعويل عليه في تنفيذ اشتباك فوري وقلب موازين المعركة كما تفعل الجيوش النظامية العالمية المزودة بالمروحيات وإحداثيات المعركة.
ووفقاً للمصادر، يحتاج المقاتلون القادمون من يافع إلى أيام عدة من أجل فهم طبيعة الأرض الجديدة عليهم، وخطوط الإمداد والتسليح والتغذية، ولن يكون في مقدورهم الصمود، سوى في حالة العودة إلى أرض صلبة، وبناء متاريس دفاعية في المناطق التي تحت أيديهم، وكذلك حقول ألغام تمنع الحوثيين من إحراز أي تقدم في مواقعهم.
وعلى الرغم من هذه النظرة التي يغلب عليها التشاؤم، وهي الأقرب للواقع، لم تفقد المقاومة الشعبية الأمل بعد في استعادة زخم المعركة الذي كان قد ظهر أواخر الأسبوع الماضي، خصوصاً بعد تجاوز ما وصفته بـ"الإرباك البسيط " في مركز مديرية الزاهر. وفيما أشار مصدر في مقاومة آل حميقان لـ"العربي الجديد"، إلى أن جبهات الحازمية ومديرية البيضاء وقرى العيوف لا تزال بالوتيرة الهجومية ذاتها منذ بدء المعركة، لفت إلى أن تحريك باقي جبهات البيضاء، خصوصاً ناطع والعبدية، بالتزامن مع مديرية البيضاء، سيُحدث فارقاً في مسار المعركة ضد الانقلاب الحوثي ويقلب الموازين.
مستقبل المعركة
لا يمكن التنبؤ بمستقبل معركة البيضاء المعقدة التي أنهت أسبوعها الأول، لكن الأبعاد السياسية والعسكرية التي تحملها، تشير إلى أنها قد تتحول إلى مسرح جديد للأعمال القتالية، يشابه ما يجري في مأرب منذ أكثر من عام.
وتتداخل التعقيدات التي تشوش على مصير المعركة. ففي حين تبدو المقاومة الشعبية غير متكافئة مع جماعة الحوثيين عدداً وعتاداً، تقف القوات الحكومية المرابطة في مأرب وشبوة، في موقف لا تحسد عليه، ولا يسمح لها بالاستغناء عن بعض مواقعها التي يتربص بها الحوثيون والانفصاليون، والانتقال إلى جبال البيضاء. ويرى خبراء عسكريون، أن الجيش اليمني لم يجن أي فوائد حتى الآن من معركة البيضاء، حيث لا تزال معارك مأرب جارية بذات الوتيرة، بعدما لجأت جماعة الحوثيين لتعزيز مواقعها في مديرية الزاهر خلال الأيام الماضية من مجاميعها المتواجدة في مديريتي رحبة والجوبة الخاملتين جنوبي مأرب، وليس من صرواح ومدغل ورغوان.
ونظراً لقدرة الحوثيين على حشد مقاتلين جدد إلى البيضاء، سواء من قبائل المحافظة نفسها أو محافظة ذمار المجاورة، بما يضمن لهم الاحتفاظ بموقفهم العسكري في مأرب، رجحت مصادر عسكرية أن تتحول جبهة البيضاء إلى بؤرة استنزاف جديدة للمليشيات الحوثية والمجاميع السلفية، سواء من قبائل شبوة أو تلك الوافدة من يافع في محافظة لحج. وبدأت المقاومة الشعبية بالفعل، مطلع الأسبوع الحالي، بالتموضع في موقع الدفاع لصد الهجمات الحوثية على مناطق الحبج في مديرية الزاهر، ومناطق مديرية البيضاء، التي تحمل أسم المحافظة ذاته، وتقول إنها تحافظ على مكاسبها المحققة في مديرية الصومعة.
وتمتاز مديريات البيضاء بتضاريس جبلية وعرة تجعلها أرضاً خصبة لاحتضان حرب عصابات ومعارك استنزاف طويلة الأمد. وعلى الرغم من الحديث الحوثي عن انتصارات على ما يصفونهم بـ"القاعدة" و"داعش" في جبهة الزاهر، إلا أن الجماعة تعي خطورة الفخ الذي يُرتب لها، ولا تريد المجازفة أكثر.
مساء الجمعة الماضية، وصف القيادي الحوثي المعين نائباً لوزير الخارجية، حسين العزّي، أبناء يافع الذين يقاتلون في البيضاء بـ"الإخوة الكرام"، ودعاهم إلى عدم التضحية بشبابهم من أجل من أسماهم بـ"القاعدة وفاسدين ومرتزقة أوغاد". حاول القيادي الحوثي في تغريدة على "تويتر"، مغازلة قبائل يافع التي تتحدر منها ألوية العمالقة السلفية، قائلاً "نحن قوم لا نعتدي على أحد ولا نريد الشر لأحد، ولكن من يؤذينا أو يعتدي علينا أو على أي مواطن في المساحات المحررة من أرض الوطن، فلا يلومنّ إلا نفسه"، في إشارة للمساحات الخاضعة أصلاً لسيطرة الجماعة.
وإذا ما توقف الدعم المقدم من قبائل يافع للبيضاء، فمن المؤكد أن جماعة الحوثيين ستبدأ بهجمات انتقامية أكثر قسوة على قبائل الزاهر وآل حميقان التي احتفت خلال الأيام الماضية بالانتصارات الميدانية ضد الحوثيين، ما سينعكس بالطبع على الطموحات السياسية للحكومة التي كان سقفها قد ارتفع هو الآخر، وشعرت أنها باتت تمتلك المفاتيح التي تجبر خصومها على تقديم تنازلات في الملف السياسي.