التحالفات بين الاستراتيجي والمرحلي.. النزعة الطائفية وقود الإبادة الجماعية في غزة

27 أكتوبر 2024
تظاهرة داعمة للفلسطينيين في سيدني تدين اغتيال رئيس حركة حماس (سعيد خان/فرانس برس)
+ الخط -

الضربة النوعية الموجعة حقاً، التي تمكنت دولة الاحتلال الصهيوني من تسديدها في صدر حركة المقاومة الوطنية الفلسطينية، وحملات التضامن معها على المستويين الإقليمي والدولي، لا تتمثّل في تصفية أبرز قادة حركة حماس، الشهيدين إسماعيل هنية ويحيى السنوار، وأهم قادة حزب الله اللبناني، وفي مقدمتهم الشهيد حسن نصر الله، بل تمثّلت الضربة الأكثر تأثيراً في ما حققه ذباب العدو الإلكتروني عبر وسائل التواصل الاجتماعي من تأجيج للعداوة الطائفية، التي هيمنت على كثير من أبناء الوطن العربي الممتد من بحر الظلمات إلى خليج المحروقات.

كثيرون، مع الأسف، عبروا صراحة عن فرحتهم باستشهاد حسن نصر الله على يد العدو الصهيوني، مبررين شماتتهم بما اقترفه زعيم حزب الله من أخطاء عند تدخله في سياق ثورة الشعب السوري ضد نظام الأسد الدموي. كما أن آخرين، ومنهم من يزعم أنه كان فاعلا خلال الثورة الشعبية السورية، عبروا عن شماتتهم باستشهاد الزعيم الحمساوي، يحيى السنوار أيضاً، بذريعة تحالفه مع "الفرس"، ما يخالف العقيدة "السنية"، وفقاً لتصوراتهم البدائية! هنا لا بدّ من تسليط الضوء على أبجديات السياسة، ولا سيّما الفرق بين التحالف المرحلي والتحالف الاستراتيجي.

صحيح أن إيران، على اعتبارها قوةً إقليميةً بالغة التأثير، تسعى إلى تحقيق مصالح طبقتها الحاكمة، لذا كان من الطبيعي أن تتحالف البرجوازية الإيرانية الحاكمة مع الإمبريالية الأميركية مرحلياً بعد غزو العراق عام 2003، لتتمكن من رسم ملامح الحكم في هذا البلد العربي بما يناسب مصالحها القومية. لكن، هذا التنسيق المرحلي مع الغرب لا يلغي عداوة طهران السياسية والعقائدية مع "إسرائيل"، فكلا القوتين تتناقضان تناحرياً في سياق فرض النفوذ على منطقة الشرق الأوسط.

مثّل "طوفان الأقصى" المنعطف الأكثر أهمّية في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني ضدّ الاحتلال الاستيطاني، وأعادت تداعياتها الاعتبار للقضية الفلسطينية على الساحة الدولية

من هنا، يمكن فهم أن التناقض مع طهران فيما يخص الشأن العراقي، وكذلك الشأن السوري، حيث أنقذ نظام الملالي الدكتاتور بشار الأسد من ثورة الشعب السوري، لا ينبغي له إلغاء التناقض الرئيسي مع وجود الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين. وبما أن إيران، التي تسعى قبل أي شيء آخر إلى تحقيق مصالحها، شأنها في ذلك شأن أي دولة في العالم، تدعم فصائل المقاومة الفلسطينية، فإن التحالف المرحلي مع إيران في سياق مواجهة "إسرائيل" ضرورة لا يمكن إنكارها، أو تجاهلها على الإطلاق.

أدركت حركة حماس هذا الواقع، رغم خلافها مع طهران، وكذلك حزب الله خلال أحداث الثورة السورية، لذا استمرت بالتنسيق مع هاتين القوتين لسبب بسيط للغاية: هو أن أبرز الدول العربية، التي اتخذت من نهج الطائفة السنية غطاء لشرعيتها، وعلى رأسها السعودية والإمارات، اصطفت ببساطة إلى جانب العدو الصهيوني، وأمعنت في المضي بمشاريع التطبيع معه. بالنسبة لحماس، تلك الحركة الوطنية الفلسطينية، لم يكن هناك مناص من التحالف مع إيران، وحليفها حزب الله، نظراً لأنهما وحدهما من يقارع الاحتلال، ويرفض وجوده المحض.

التحالف الفلسطيني مع إيران هو ببساطة تحالف مرحلي في مواجهة وجود الاحتلال الصهيوني، لكن بالطبع لا يمكن اعتباره تحالفاً استراتيجياً، لأن ثورة الشعب الفلسطيني، بكل بساطة، هي جزءٌ من حركات التحرر العربية، ضدّ الصهيونية والإمبريالية، وكذلك الرجعية المتمثلة في الأنظمة الحاكمة، وبما أن طهران لا تزال تسعى إلى فرض نفوذها القومي على المنطقة العربية، وخصوصاً في سورية ولبنان والعراق، فإن آفاق التحالف الاستراتيجي معها معدوم تماماً، لكن، مجدداً، هذا لا يلغي ضرورة التحالف المرحلي مع هذه القوّة الإقليمية المؤثرة في مواجهة "إسرائيل".

أما بالنسبة لحزب الله اللبناني، الذي يعتقد كثيرون أنه مجرد ذراع لإيران في المنطقة، فهو حزب لبناني أصيل، يعبر عن مصالح نحو ثلث الشعب اللبناني، من أبناء الطائفة الشيعية. في هذا الصدد يقول الناشط الأممي، عضو حزب العمال الاشتراكي الموحد في البرازيل، فابيو بوسكو: "حزب الله ليس منظمةً إرهابيةً كما تروج إسرائيل ودول الإمبريالية الغربية.. لكنه أيضا ليس حزباً ثورياً (بالمفهوم الماركسي)، إنه حزب سياسي برجوازي متجذر بعمق في النظام الطائفي اللبناني، وهو الممثل الرئيسي للطائفة الشيعية.. كما أنه ليس مجرد ذراع إيرانية في لبنان، فهو حزب سياسي لبناني مرتبط بمصالح البرجوازية الشيعية اللبنانية، لكنه أيضاً حليف مهم للنظام الإيراني".

ارتباط حزب الله اللبناني بالنظام الإيراني قائم على أساس تحالف عقائدي استراتيجي، لكن تحالف المقاومة الوطنية الفلسطينية مع هذه الكتلة المناهضة لدولة الاحتلال هو تحالف مرحلي ينحصر تحديدا في حدود تحشيد ما أمكن من قوى لهزيمة الاحتلال عسكريا ومن ثم وجوديا.

لكن الحليف الاستراتيجي لثورة الشعب الفلسطيني هو امتداده العربي الشعبي، الرازح مع الأسف تحت وطأة أنظمة رجعية، ضمان بقائها الوحيد هو تحالفها مع الإمبريالية والصهيونية. لذا، لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار بأن أيّة انتفاضة شعبية عربية في وجه أيّ نظام حاكم في المنطقة، هي في نهاية المطاف في صالح الثورة الفلسطينية المستمرة.

التحالف المرحلي مع إيران في سياق مواجهة "إسرائيل" ضرورة لا يمكن إنكارها، أو تجاهلها على الإطلاق

مثّل "طوفان الأقصى" المنعطف الأكثر أهمّية في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني ضدّ الاحتلال الاستيطاني، وأعادت تداعياتها الاعتبار للقضية الفلسطينية على الساحة الدولية، وأججت مشاعر التعاطف الأممي مع هذه القضية، الأكثر عدالة في تاريخ الإنسانية الحديث، ولا سيّما في الأوساط اليسارية، المختلفة عقائدياً مع فكر حركة حماس المكون على أسس دينية، بيد أن هذا التناقض الأيديولوجي لم يمنع تلك القوى اليسارية الأممية من الاصطفاف في خندق حماس، لمواجهة المشروع الصهيوني- الإمبريالي.

كتبت البروفيسورة بلانكا ميسي، أستاذة مشاركة في قسم اللغات والآداب الحديثة بجامعة ولاية سان فرانسيسكو بالولايات المتّحدة، في مقالة نشرتها على منصة شبكة صوت العمال: "يتعين على اليسار أن يدافع عن الاستراتيجية السياسية الفعالة الوحيدة: بناء مسار طبقي مستقل من أجل صياغة التضامن بين المستغلين والمضطهدين داخل وخارج كل بلد..إن مهمة الثوار في هذه الحقبة الإمبريالية تتلخص على وجه التحديد في فك رموز الصراعات التي لا حصر لها، وتحديد الديناميكيات الطبقية الداخلية لكل صراع، والدفع بمبادرات ومنصات النضال المشترك القادرة على تحدي وهزيمة التوليفات الإمبريالية.. فقط عبر هذا النهج الأممي المتسق يمكن بناء التضامن الطبقي على نطاق أممي عملياً، وتحقيق تحررنا الجماعي".

التحرر الجماعي للشعوب الرازحة تحت وطأة الاضطهاد الإمبريالي كلّها، المتمثل في الاحتلال الصهيوني في منطقتنا العربية، يستوجب بناء أوسع شبكة من التحالفات القائمة على التناحر مع وجود الاحتلال. هذه التحالفات لا يشترط أن تكون دائمة على البعد الاستراتيجي، لكن لا بدّ من إدراك أهمّيتها من أجل تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.

المساهمون