التوتر بين بيلاروسيا وأوكرانيا: محددات وكوابح انجرار مينسك للحرب

02 سبتمبر 2024
من تدريب للجيش البيلاروسي في برست، 13 فبراير 2023 (ناتاليا كوليسنيكوفا/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **التوتر بين بيلاروسيا وأوكرانيا**: بدأ التوتر مع الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، حيث سمح لوكاشينكو باستخدام الأراضي البيلاروسية للتقدم نحو كييف. رغم قطع العلاقات الدبلوماسية، سعت الدولتان لتجنب حرب مباشرة وسط اتهامات متبادلة بحشد القوات.

- **موقف لوكاشينكو**: نفى لوكاشينكو نية إرسال جيشه للقتال، مؤكدًا أن بيلاروسيا ستقاتل فقط إذا تعرضت لهجوم. دعا لاستئناف مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا.

- **قدرات الجيش البيلاروسي**: يعتمد الجيش على معدات سوفييتية قديمة، ورغم حصوله على أسلحة حديثة من روسيا، فإن قدراته القتالية مشكوك فيها. يبلغ عدد الجيش 75 ألف فرد، مع احتمال دخول بيلاروسيا الحرب.

على خلفية التوتر بين بيلاروسيا وأوكرانيا وتقارير إعلامية وتقديرات لخبراء بأن مينسك قد تدخل الحرب مع روسيا ضد أوكرانيا، نفى الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، الخميس الماضي، وجود أي نيّة لإرسال جيشه للقتال في الخارج. وقال الرئيس البيلاروسي: "لم تصدر أي أوامر بالذهاب للقتال خارج بيلاروسيا، ولن تصدر. لن نقاتل إلا عندما يأتي إلينا شخص بنوايا سيئة. هذا كل شيء".

أسباب التوتر بين بيلاروسيا وأوكرانيا

ويعود التوتر بين بيلاروسيا وأوكرانيا إلى بداية الغزو الروسي، وسماح لوكاشينكو للقوات الروسية في فبراير/شباط 2022 باستخدام أراضي بلاده للتقدم نحو المقاطعات الشمالية والشمالية الشرقية في أوكرانيا بهدف التقدم نحو كييف، ولاحقاً تأمين خطوط لانسحاب هذه القوات بعد فشل احتلال العاصمة الأوكرانية والكشف عن مجازر بوتشا (تُتهم القوّات الروسية بارتكاب سلسلة من عمليات القتل الجماعي أثناء احتلالها لبوتشا، والذي استمر بين 4 و31 مارس 2022، بينما تصر موسكو على نفي وقوفها وراء مجزرة بوتشا، مشككة في وقوعها من أساسه). ورغم ارتفاع منسوب التوتر بين بيلاروسيا وأوكرانيا وقطع العلاقات الدبلوماسية بينهما، فإن كييف ومينسك سعتا إلى المحافظة على علاقات تمنع في حدّها الأدنى الانجرار إلى حرب مباشرة.

كييف تواصل الترويج لاحتمال انضمام بيلاروسيا إلى الحرب، في مسعى ربما للحصول على دعم غربي إضافي

ومنذ نهاية يونيو/حزيران الماضي، خيّمت أجواء التوتر بين بيلاروسيا وأوكرانيا على الصعيد العسكري، نتيجة تبادل الاتهامات بين الطرفين بحشد قوات على الحدود، والإعلان عن نشر صواريخ روسية على أراض بيلاروسية. وزادت احتمالات دخول بيلاروسيا المباشر في الحرب بعد الهجوم الأوكراني على مقاطعة كورسك خلال الأسابيع الماضية، وتعرّض جزء من "دولة الاتحاد" مع روسيا لاحتلال قوة أجنبية. وفي 18 أغسطس/آب الماضي، قال لوكاشينكو إن بيلاروسيا نقلت ما يقرب من ثلث جيشها إلى الحدود مع أوكرانيا. ووفقاً للوكاشينكو، كان لا بد من اتخاذ مثل هذه الخطوة نظراً لحقيقة أن أوكرانيا "لا تحتفظ بأكثر من 120 ألف عسكري بالقرب من الحدود مع بيلاروسيا فحسب، بل بدأت أيضاً في نقل وحدات إضافية". وبعدها بيومين، ذكر الرئيس البيلاروسي، في مقابلة مع قناة "روسيا 1" الحكومية الروسية، أن المسيّرات الأوكرانية انتهكت المجال الجوي لبلاده مرات عدة، وأكد أن الجيش البيلاروسي اتخذ الاحتياطات اللازمة ضد التهديدات من جهة أوكرانيا، بزرع ألغام ونشر جنود على الحدود.

ونفت أوكرانيا حشد قواتها على الحدود مع بيلاروسيا، ودعتها، في 25 أغسطس/آب الماضي، إلى سحب ما وصفته بمستويات كبيرة من القوات والمعدات المنتشرة على حدودهما المشتركة. ويوم الخميس الماضي، أوضحت خدمة حرس الحدود الحكومية الأوكرانية، أنها لم تلاحظ أي زيادة أخرى في النشاط العسكري البيلاروسي بالقرب من الحدود، لكنها تعهدت بـ"البقاء يقظة".

لوكاشينكو بين نارين

منذ بداية الحرب على أوكرانيا، وجد لوكاشينكو نفسه في موقف صعب. ومعلوم أن قدرته على المناورة كثيراً بين روسيا والغرب تراجعت بعد عدم اعتراف بروكسل وواشنطن بفوزه في انتخابات أغسطس 2020، وفرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عقوبات قاسية أنهت سنوات اتسمت بمحاولة مينسك إيجاد توازنات دقيقة تجمع بين علاقات التحالف مع موسكو في إطار دولة الاتحاد ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وعلاقات جيدة مع بروكسل وواشنطن. واضطر لوكاشينكو إلى تقديم تنازلات لنظيره الروسي فلاديمير بوتين في ما يخص تسريع عمليات الدمج ضمن دولة الاتحاد، رداً على الدعم الروسي غير المحدود له سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لمنع انهيار نظامه.

وفي الوقت ذاته، طرحت بيلاروسيا نفسها كساحة للحوار والتفاوض بين جارتيها السلافيتين روسيا وأوكرانيا منذ الأيام الأولى، وما زالت تصرّ على ضرورة وقف الحرب واستئناف مفاوضات السلام. وفي مقابلته الأخيرة مع "روسيا 1"، حذّر لوكاشينكو من تبعات الهجوم على كورسك، وقال إن "أوكرانيا تزيد الوضع توتراً. وإذا استمر الأمر على هذا النحو، فإن هذا التوتر قد يؤدي إلى تدمير أوكرانيا". وشدّد على ضرورة استئناف روسيا وأوكرانيا محادثات السلام، مشيراً إلى أن "المفاوضات يمكن أن تستند إلى الاتفاق الذي تمّ إعداده في إسطنبول في مارس/آذار 2022".

زادت احتمالات دخول بيلاروسيا المباشر في الحرب بعد الهجوم الأوكراني على كورسك 

ولا يمكن التشكيك في رغبة لوكاشينكو في وقف الحرب، رغم أن دعوته إلى مفاوضات السلام تنطلق، كما هو واضح، من رؤية روسيا لأوكرانيا المستقبلية من دون شبه جزيرة القرم، ومناطق خيرسون وزابوريجيا ودونيتسك ولوغانسك، وأوكرانيا منزوعة السلاح، وليست ضمن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، إضافة إلى نزع مظاهر "النازية الجديدة"، بحسب الوصف الروسي لنظام كييف. ومن المؤكد أنه لا توجد رغبة وقدرة لدى لوكاشينكو ومعظم جنرالاته للدخول في الحرب مباشرة.

أوضاع الجيش البيلاروسي

تروّج الدعاية البيلاروسية لصورة "القوات المسلحة البيلاروسية القوية"، المستعدة لمحاربة الجناح الشرقي لحلف ناتو بأكمله وشقّ طريقها عبر ممر سووالكي الاستراتيجي. وفي السنتين الأخيرتين، حصلت بيلاروسيا على منظومات "إس 400" الروسية للدفاع الجوي، وصواريخ إسكندر، ناهيك عن الأسلحة النووية التكتيكية. ولكن السؤال حول قدرات الجيش البيلاروسي ما زالت قائمة، في بلد ليست لديه خبرات قتالية منذ أكثر من ثلاثة عقود، في دولة مغلقة يصعب تقويم الحالة القتالية الحقيقية لجيشها.

وتشكّل الجيش البيلاروسي على أساس المنطقة العسكرية البيلاروسية في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية. وكانت هذه المنطقة من أقوى التشكيلات في الجيش، نظراً لموقعها المتقدم غرب البلاد في حقبة الحرب الباردة. وفي نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، بلغ عديد قوات هذه المنطقة قرابة 200 ألف جندي. وانضمت وحدات مقاتلة جديدة بعد الانسحاب من ألمانيا الشرقية، مثل فرقة دبّابات الحرس السادس.

وكما هو الحال في أوكرانيا، حصل الجيش البيلاروسي المشكّل حديثاً عقب انهيار الاتحاد السوفييتي على تركة كبيرة من المعدات والأسلحة السوفييتية، ولكن معظمها صُدّر إلى الخارج في تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الحالية. وشكّل الباقي من الأسلحة أساساً لعتاد الجيش البيلاروسي.

ومقارنة مع المنطقة العسكرية البيلاروسية الضخمة في الحقبة السوفييتية، فإن الحجم الحالي للجيش البيلاروسي قليل. وفي مؤتمر صحافي عام 2023، قال لوكاشينكو إن عدد الجيش البيلاروسي في وقت السلم يبلغ 75 ألف فرد. وفي عام 2022، قدّر المعهد الدولي البريطاني للدراسات الاستراتيجية، عدد العسكريين البيلاروس في الوحدات القتالية بـ48 ألف مقاتل.

ويتشكل أساس الجيش البيلاروسي الحالي من أربعة ألوية ميكانيكية، ولواءين مظليين، بالإضافة إلى قوات العمليات الخاصة. كما يضم الجيش لواءين مدفعيين، وأربعة ألوية صواريخ مضادة للطائرات، وثلاثة أفواج صواريخ مضادة للطائرات، ولواء مدفعيا صاروخيا واحدا.

معظم المركبات المدرعة البيلاروسية هي إرث من الجيش السوفييتي، وهذا ينطبق على الدبابات. ورسمياً، تمتلك البلاد 1276 دبابة في الخدمة، لكن الغالبية العظمى منها في الاحتياط. لا يوجد سوى 446 دبابة تي-72 بي وتي-72 بي3 والتي دخلت الخدمة في منتصف الثمانينيات، وتعد الدعامة الأساسية لسلاح المدرعات، إضافة إلى مئات من ناقلات الجنود المدرعة. وتملك بيلاروسيا أنظمة دفاع جوي سوفيتيية قديمة للتعامل مع مختلف الأهداف، ولديها منظومات "إس 300"، وأخيراً حصلت على منظومات "إس 400" بعد الحرب على أوكرانيا. كما طورت بيلاروسيا أنظمة دفاع جوي بالتعاون مع الصين.

ولدى القوات الجوية البيلاروسية مقاتلات سوفييتية من طراز ميغ 29 وطائرات هجومية من طراز سو 25، والعديد من المقاتلات الروسية الأحدث من طراز سو 30 إس إم متعددة المهام، ومروحيات هجومية من طراز مي 24 ومي 35 الجديدة، بالإضافة إلى طائرات النقل (إيل 76، أن 26 مي-8).

لا يمكن التشكيك في رغبة لوكاشينكو في وقف الحرب، رغم أن دعوته إلى مفاوضات السلام تنطلق من رؤية روسيا لأوكرانيا المستقبلية

وفي ربيع 2023، أعلن بوتين نقل الأسلحة النووية التكتيكية إلى بيلاروسيا. ومنذ صيف 2023، ذكرت تقارير أن الرؤوس الحربية النووية موجودة بالفعل هناك، وتستطيع صواريخ "إسكندر إم" الموجودة في بيلاروسيا حملها إلى مسافة 500 كيلومتر، ويمكن استخدام طائرات سو 25 في هجمات نووية تكتيكية. ورغم تلويح لوكاشينكو بالأسلحة النووية للدفاع عن بلاده أكثر من مرة، فإن قرار الضغط على الزر النووي تملكه موسكو، لكن واقع الحال يشير إلى أن الصواريخ المنتشرة في بيلاروسيا تهدد معظم مناطق شمال وغرب أوكرانيا.

ووفقاً لوزير الدفاع البيلاروسي فيكتور خرينين في عام 2022، فإن 60% من الجيش هم جنود متعاقدون، أي أن نسبة المجندين تظل كبيرة جداً. وعلى مدار العامين الماضيين، لم تسجل مجموعات المراقبة المستقلة أي زيادة في القوات البيلاروسية، وتؤكد السلطات أنها لا تنوي إعلان التعبئة على خلفية التوتر بين بيلاروسيا وأوكرانيا. وفي العام الماضي، لوّح لوكاشينكو بأنه في ظروف الحرب، ستتمكن بيلاروسيا من زيادة حجم جيشها إلى نصف مليون. وحينها استبعد خبراء الوصول إلى هذا الرقم، نظراً للصعوبات الاقتصادية وعدم إمكانية تزويد القوات بالأسلحة والمعدات. وانطلاقاً من أن الجيش البيلاروسي لم يخض حرباً منذ تأسيسه، يشكك خبراء في قدراته القتالية، على عكس الجيش الأوكراني.

في المقابل، ونظراً لدين لوكاشينكو الثقيل للكرملين، لا يمكن لأوكرانيا استبعاد الدخول المباشر للقوات المسلحة البيلاروسية في الحرب إلى جانب الروس. وطوال العامين الماضيين، فإن احتمال شنّ هجوم برّي ثانٍ على كييف شكّل أحد السيناريوهات التي فكّر فيها الجيش الأوكراني باستمرار.

وإعلامياً، برز "التهديد البيلاروسي" تزامناً مع أحداث وقرارات معينة، مثل إنشاء تجمع إقليمي مشترك لقوات بيلاروسيا مع روسيا في خريف عام 2022، أو نقل الآلاف من عناصر مرتزقة فاغنر في صيف العام الماضي بعد التمرد الفاشل، أو التدريبات العسكرية المشتركة وتحركات القوات، ونشر صواريخ إسكندر إم على الأراضي البيلاروسية، وكذلك السماح بنشر الأسلحة النووية التكتيكية الروسية على أراضي بيلاروسيا.

وعلى خلفية التوتر بين بيلاروسيا وأوكرانيا الذي يزداد حدّة، حذّرت وزارة الخارجية الأوكرانية، في بيان الأسبوع الماضي، من أنه إذا استمر نظام لوكاشينكو في أعماله العدائية، فإن أوكرانيا تحتفظ بحقها في الدفاع عن نفسها، خصوصاً إذا عبرت القوات البيلاروسية الحدود الروسية الأوكرانية. ونصحت الوزارة لوكاشينكو بعدم الخضوع لضغوط موسكو.

وتنطلق كييف مع ارتفاع منسوب التوتر بين بيلاروسيا وأوكرانيا من أن الأولى قد تضطر بضغوط من روسيا إلى فتح جبهة جديدة ضد أوكرانيا بهدف تشتيت قواتها وسحب قسم منها من كورسك أو الجبهات الأخرى، بهدف تمكين الجيش الروسي من صدّ هجمات كورسك ومواصلة التقدم في دونيتسك. ورغم صعوبة توقّع تصرفات لوكاشينكو، والذي احتفل منذ أيام بعيد ميلاده السبعين، فمن المستبعد أن يقدم على شنّ هجوم على المناطق الشمالية الشرقية من أوكرانيا، لعدة أسباب. فإضافة إلى عدم وجود إمكانات كبيرة لدى الجيش البيلاروسي، فإن كثيراً من الجنرالات غير متحمسين لخوض حرب مع أوكرانيا، نظراً لأن روسيا التي لم تستطع الدفاع عن كورسك، لن تدعم بيلاروسيا حتى لو توفرت الرغبة، نظراً لعدم وجود فائض كبير لديها على مستوى الأفراد والمعدات. وهناك مخاوف من عدم وجود دعم شعبي كبير لدخول الحرب على أوكرانيا، ما قد يفتح مرة أخرى على تنظيم تظاهرات ضد لوكاشينكو. وأخيراً، فإن دخول لوكاشينكو الحرب يعني عملياً تعليق الحوار مع الولايات المتحدة لسنوات، أياً كان الفائز في الانتخابات المقبلة، ويزيد من ضغوط الاتحاد الأوروبي عليه.

ورغم إدراك الجانب الأوكراني صعوبة الصدام المباشر بينهما، فإن كييف تواصل الترويج لاحتمال انضمام مينسك إلى الحرب، في مسعى ربما للحصول على دعم غربي إضافي وتعجيل الدعم، ومواصلة الضغط على بيلاروسيا. في المقابل، فإن لوكاشينكو يحاول الظهور كحليف وفيّ لروسيا عبر زيادة حدة تصريحاته التي تؤجج التوتر بين بيلاروسيا وأوكرانيا أكثر، ولكن العوامل الموضوعية ومخططاته لانتخابات فبراير/شباط 2025 لا تسمح له بالإقدام على مغامرة الدخول في الحرب.

تقارير دولية
التحديثات الحية