في الرابع من يوليو/ تموز الماضي، خرج قائد الجيش السوداني رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ببيان مفاجئ بثه التلفزيون الحكومي، أعلن فيه انسحاب المؤسسة العسكرية من أي طاولات تفاوض سياسي بشأن السلطة. وعد البرهان أيضاً بترك الأمر للمدنيين للتوافق على حكومة مدنية مستقلة، مع تعهّد منه بخروج المؤسسة العسكرية كلياً من الحياة السياسية، باستثناء تشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة مهمته الشؤون الأمنية وشيئاً من السياسة الخارجية.
يومها، شككت قوى المعارضة في نوايا البرهان، معتبرة أن المجلس الأعلى، الذي ينوي قائد الجيش تشكيله، ما هو إلا مجرد تكتيك يرغب عبره بمصادرة كل السلطات لصالحه، بما في ذلك الإشراف على بنك السودان المركزي، عدا الجيش والأمن والشرطة ووزارة المالية.
كما ذهب البعض للقول إن ربط البرهان بين خروج المؤسسة العسكرية من الحياة السياسية وبين توافق المدنيين، جاء لإدراكه أن ذلك ضرب من المستحيلات، وليعمّق الخلافات بين المدنيين، خصوصاً بين المجموعات القريبة منه، مثل "تحالف الحرية والتغيير- جماعة التوافق الوطني"، المؤيدة لكل خطواته قبل انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وبعده، و"قوى إعلان الحرية والتغيير – المجلس المركزي" المناهضة لخطواته قبل الانقلاب وبعده.
مبادرات سودانية لصالح العسكر
وفي خضم ذلك الانسداد، برزت مجموعة من المبادرات الوطنية وأبرزها مبادرة "أهل السودان" التي يرعاها الطيب الجد، أحد رجال الطرق الصوفية، وهي مبادرة ليست بعيدة عن العسكر. فضلاً عن مبادرة "تحالف الحرية والتغيير- التوافق الوطني" المناصرة سلفاً للانقلاب، ومبادرة "الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل"، ومبادرة مدراء الجامعات السودانية وغيرها من المبادرات التي وصل عددها إلى 40.
تقترح معظم المبادرات الإبقاء على العسكر في السلطة بشكل أو بآخر
واللافت أن غالبية هذه المبادرات يصب مضمونها لصالح العسكر، إذ يقترح معظمها الإبقاء على العسكر في السلطة بشكل أو بآخر. كما تلتف جميعها على الفكرة الأولى للانقلاب، بتشكيل حكومة كفاءات مستقلة.
ويسود اعتقاد لدى سياسيين ومحللين في السودان بأن البرهان يسعى للاستفادة من سيل المبادرات السياسية لحل الأزمة الحالية لتشكيل حكومة مدنية يتحكّم فيها، واحتكار القرار وتصدر المشهد السياسي، بعد العثرات التي مر بها العسكر منذ انقلاب 25 أكتوبر.
توالي الأحداث في السودان منذ انقلاب البرهان
وكان البرهان، وفي بيانه الأول لانقلابه في 25 أكتوبر الماضي، وضع خريطة واضحة تعهّد بتنفيذها، تقوم على إعادة تشكيل مجلس سيادة انتقالي جديد، وتكوين حكومة كفاءات مستقلة، ومجلس تشريعي، وإكمال بقية هياكل السلطة الانتقالية، بتعيين المفوضيات المستقلة، ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية، ومجلس القضاء الأعلى ومجلس النيابة العليا، وكل ذلك خلال أسبوع واحد من الانقلاب.
لكن البرهان اصطدم مع خطته بمقاومة داخلية شرسة وعزلة خارجية ومقاطعات اقتصادية، ما دفعه إلى تقديم تنازل أول بإعادة رئيس الوزراء المقال وقتها عبد الله حمدوك، في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، لتخفيف الضغط الداخلي والخارجي على سلطته. إلا أن النتيجة كانت صفرية، على الرغم من وقوف بعض القوى الدولية والإقليمية مع الاتفاق الذي مهره مع حمدوك بعيداً عن تحالف "الحرية والتغيير".
ومع مرور الأيام، وجد حمدوك أنه يخسر كثيراً من رصيده السياسي باستمراره في سلطة البرهان، فاستقال في 2 يناير/كانون الثاني الماضي، تاركاً فراغاً حكومياً يستمر إلى الآن.
وباستقالة حمدوك، عاد البرهان إلى نقطة الصفر، ليقبل بوساطة دفع بها رئيس بعثة الأمم المتحدة فولكر بيرتيس، في الثامن من يناير الماضي، لتقريب المسافات بين فرقاء الأزمة.
لكن ذلك القبول أرفقه البرهان بمحاولة فرض إشراك الاتحاد الأفريقي ومنظمة التنمية الحكومية في شرق أفريقيا "إيغاد" في الوساطة الأممية، ونجح في ذلك وتشكلت آلية ثلاثية لإدارة الوساطة، لكنها ترافقت مع اتهامات من قبل بعض المدنيين للاتحاد الأفريقي بالانحياز للعسكر.
هناك اعتقاد بأن البرهان يسعى للاستفادة من سيل المبادرات السياسية، لتشكيل حكومة مدنية يتحكّم فيها
وفي الثامن من يونيو/حزيران الماضي، أعدت الآلية الثلاثية طاولة تفاوض حضر إليها المكون العسكري وجماعات سياسية موالية للانقلاب، وغاب عنها تحالف "الحرية والتغيير"، ما شكل موتاً إكلينيكياً للوساطة التي أوقفت إلى حد كبير بعد ذلك تواصلها مع مختلف الأطراف.
تدخلت بعد ذلك الولايات المتحدة والسعودية لإنقاذ الموقف، وأحدثتا في يونيو الماضي اختراقاً، تمثّل بجمع ممثلين عن المكون العسكري مع ممثلين عن تحالف "الحرية والتغيير"، في منزل السفير السعودي علي بن حسن بن جعفر، في ضاحية كافوري، شمال الخرطوم.
واستمر بعد ذلك التواصل بين الطرفين على شكل اجتماعات سرية، لكن لم تفض إلى شيء، قبل أن يخرج البرهان في يوليو الماضي معلناً انسحاب المؤسسة العسكرية من أي طاولات تفاوض سياسي بشأن السلطة، وترك الأمر للمدنيين للتوافق على حكومة، لتتوالى بعد ذلك المبادرات السياسية.
سعي البرهان لتحالف سلطة جديد
في السياق، يرى المحلل السياسي طاهر المعتصم، في حديث مع "العربي الجديد"، أن البرهان "يرسم على طاولته عدداً من السيناريوهات يسابق بها الوقت للخروج من حالة الانسداد الحالية؛ أبرزها القبول بالمبادرات الوطنية وتجميعها في مبادرة واحدة، بما يخلق إجماعاً ولو ظاهرياً يمكّنه من تنفيذ ما وعد به في اليوم الأول من الانقلاب، بشأن تشكيل حكومة كفاءات وطنية وإكمال بقية هياكل السلطة الانتقالية".
ويوضح المعتصم أن "الفكرة الأساسية الحالية عند البرهان هي تشكيل تحالف سلطة جديد مكوّن من قوى إعلان الحرية والتغيير - المجلس المركزي، وتحالف الحرية والتغيير - التوافق الوطني، والحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل بزعامة محمد عثمان الميرغني، وحزب المؤتمر الشعبي".
ويشير المتحدث نفسه إلى "قبول بعض فصائل قوى إعلان الحرية والتغيير بالمقترحات، مثل حزب الأمة القومي والتجمع الاتحادي، بينما تتحفظ عليها فصائل أخرى، مثل حزب البعث بقيادة علي السنهوري، وذلك لأنها تخشى من سيطرة المكوّن العسكري على أي حكومة تنشأ بموجب هذا التحالف عبر المجلس الأعلى للقوات المسلحة". لكن المعتصم يؤكد أن هذا التوجه "يحظى بدعم إقليمي ودولي، لا سيما من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية".
ويتوقع المعتصم أن "يحظى هذا السيناريو بقبول نسبي في الشارع السوداني نسبة لعدم وجود حلول بديلة، وسط تفاقم المشكلات الاقتصادية والمعيشية التي يعاني منها المواطن". كما يرجح أن "تتم معارضة هذه المبادرة من الحزب الشيوعي وعدد من لجان المقاومة الرافضة تماماً استمرار العسكر في المشهد السياسي".
"الحرية والتغيير" تنفي الموافقة على أي مبادرة تبقي العسكر في السلطة
"قوى الحرية والتغيير" مصرة على إبعاد العسكر
لكن المتحدث الرسمي باسم "قوى إعلان الحرية والتغيير" شهاب إبراهيم، ينفي، في حديث مع "العربي الجديد"، بشدة، موافقة تحالفهم "على أي مبادرة سياسية لا تنهي الانقلاب العسكري، وتبقي العسكر في السلطة، وتعيد بشكل أو بآخر النظام القديم (نظام الرئيس المعزول عمر البشير) إلى مفاصل السلطة على ظهر تلك المبادرات، المدعومة فعلاً من النظام القديم وأحزاب شاركته السلطة طوال سنواته الماضية".
ويؤكد إبراهيم أن "البرهان إذا نفّذ ذلك السيناريو، فلن يجديه شيئاً وستستمر الحركة الجماهيرية في نضالها اليومي إلى حين إسقاطه".
ويتوقع إبراهيم مضي البرهان بسيناريو آخر، يقوم على القبول بمبادرة مدراء الجامعات، التي من ضمن بنودها تشكيل حكومة مؤقتة في أسرع وقت لإدارة البلاد إلى حين توافق القوى المدنية على الحكومة الانتقالية، وذلك ليشتري مزيداً من الوقت لتوطيد أركان سلطته".
وبرأي المتحدث نفسه، فإن "كل المبادرات تريد الوصول إلى تعيين رئيس للوزراء، من دون اتفاق على إطار دستوري يحكم الفترة الانتقالية، وهي مترددة في التمسك بالوثيقة الدستورية أو التشريع لدستور جديد".
ويجدد إبراهيم التأكيد على أنهم في قوى الحرية والتغيير "سيرفضون أيا من السيناريوهين، لأنهما لا يؤديان في نهاية المطاف إلى إنهاء الانقلاب العسكري، ولا يعيدان العسكر إلى الثكنات، ولا يحققان دولة مدنية كاملة، كما ينادي الشعب السوداني عبر حراكه اليومي".
ويضيف إبراهيم: "هذا عدا عن أنّ المبادرات تجاوزت قيما أساسية، من بينها تحقيق العدالة الانتقالية والقصاص للشهداء"، مشدداً على أنهم "ليسوا على استعداد لتقديم أي تنازلات في هذا الجانب، أو تقديم ضمانات بعدم ملاحقة المتورطين، لأن ذلك في الأساس حق أصيل لذوي الضحايا".
عبدالله بشير: كل المبادرات والسيناريوهات بعيدة كل البعد عن مطالب الشارع السوداني ومطالب لجان المقاومة
سيناريو عسكرة السلطة في السودان
من جهته، يرجح رئيس تحرير صحيفة "اليوم التالي"، الطاهر ساتي، سيناريو ثالثا "يقوم على فكرة عسكرة السلطة تماماً، واحتكار كل القرارات لصالح قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان".
ويقول ساتي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "البرهان بعد نحو عام من قراراته في 25 أكتوبر الماضي، تتأكد يوماً بعد يوم رغبته في تمكين سلطة الفرد المطلقة، مخالفاً بذلك ما وعد به وما ردده في الأشهر الماضية".
وبرأيه، فإن "البرهان جاء إلى السلطة بحجة أن أربعة من أحزاب قوى إعلان الحرية والتغيير هي المتحكمة في السلطة، لكنه، وكفرد، صادر بعد ذلك كل السلطات لصالحه من اليوم الأول لبيان 25 أكتوبر وحتى تاريخه، ولكنه حتماً سيصطدم بالشعب السوداني الذي أسقط عمر البشير بكل سلطانه وجبروته، ومن السهل عليه إسقاط البرهان إن لم يفِ بما وعد به في بيان تصحيح المسار؛ وهو استكمال هياكل السلطة وتشكيل حكومة كفاءات مستقلة والمضي نحو الانتخابات".
لجان المقاومة تواصل تحريك الشارع
من جهته، يقول عضو لجان المقاومة السودانية عبد الله بشير، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "كل المبادرات والسيناريوهات بعيدة كل البعد عن مطالب الشارع السوداني ومطالب لجان المقاومة، بإبعاد المؤسسة العسكرية كلياً عن السلطة، وتشكيل حكومة مدنية كاملة لا شراكة فيها مع العسكر لا من قريب ولا من بعيد".
ويشير إلى أنه "لا يمكن إنجاز تسوية سياسية تشارك فيها أحزاب كانت، حتى آخر يوم، جزءاً من نظام الرئيس المعزول عمر البشير وتتحمل معه كل المسؤوليات".
ويلفت إلى أن "لجان المقاومة في السودان لن تتوقف عن تحريك الشارع يومياً لمجرد وجود تسوية فوقية، وستواصل مقاومة الانقلاب، ولن ترضى إلا بتحقيق كل شعارات الثورة في الحرية والعدالة والسلام، وستتعامل مع الموقف بمثل تعاملها بعد توقيع البرهان اتفاقه مع عبد الله حمدوك العام الماضي".