صُدم السودانيون، فجر الأربعاء، برحيل الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة القومي، أبرز سياسي سوداني على الإطلاق، عن عمر يناهز 85 عاماً، قضى منها 8 أعوام داخل المعتقلات والسجون نتيجة دفاعه الذي لم ينقطع عن الديمقراطية والحرية والسلام في بلاده، وذلك بعد إصابته بفيرس كورونا.
ولد المهدي، المتحدر من أسرة الإمام محمد أحمد المهدي، محرر السودان من قبضة الاستعمار التركي المصري 1821-1885، في ديسمبر/ كانون الأول 1935 بمدينة أم درمان، لينخرط في عمر مبكر في غمار السياسة، وذلك بعد تخرجه مباشرة من جامعة أكسفورد قسم الاقتصاد الزراعي.
وبعد وفاة والده، اختير رئيساً لحزب الأمة القومي سنة 1964، ثم انتخب رئيسا للوزراء في العام 1966 كأصغر شخصية سياسية تتولى هذا المنصب.
لكن بقاءه في الموقع لم يدم طويلاً نتيجة للصراعات الداخلية في حزب الأمة نفسه، حيث تم تغييره بمحمد أحمد المحجوب، أبرز سياسي في تلك المرحلة، غير أن انقلاباً عسكرياً أطاح النظام الديمقراطي في السودان بنهاية الستينيات قاده ضباط في الجيش السوداني بقيادة الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، وذلك في مايو/ أيار 1969.
وجد الصادق المهدي نفسه بعد الانقلاب في صف قيادة معارضة النظام العسكري الجديد، الذي اعتقله لأكثر من مرة، وأصدر في حقه حكماً بالإعدام، قبل أن يغادر البلاد إلى ليبيا لقيادة معارضة عسكرية، تحت مسمى الجبهة الوطنية المتحدة 1972-1977، والتي نفذت في العام 1976 ضربة عسكرية ضد نظام نميري داخل العاصمة الخرطوم، لكنها لم تنجح في مبتغاها الرئيس إطاحة النظام.
في عام 1977 دخل المهدي وحزبه في مصالحة تاريخية مع نميري، لكنها أيضاً لم تستمر طويلاً، حيث عاد الحزب لمقاعد المعارضة الداخلية، ليطلق حراكه الداخلي ضد نظام نميري حتى سقوطه في العام 1985 على وقع ثورة شعبية أنتجت من جديد نظاما ديمقراطيا في البلاد، جرت بعدها في العام 1986 انتخابات عامة حقق فيها حزب الأمة القومي الأغلبية، ليتم انتخاب الصادق المهدي من جديد رئيساً ويقود ائتلافا حكوميا مضطربا، وبعد 3 سنوات من الحكم وقع انقلاب عسكري جديد قاده الرئيس عمر البشير المدعوم بواسطة حزب الجبهة الإسلامية، التي كان يقودها صهره الراحل حسن الترابي.
وبعد سلسلة من الملاحقات بواسطة النظام الجديد، خرج المهدي في عام 1996 إلى العاصمة الإريترية أسمرا، وانضم للتجمع الوطني الديمقراطي، وهو تحالف يقود العمل السياسي والعسكري ضد نظام البشير، لكن سرعان ما بدأ غزل بين النظام والمهدي، فجرى أول لقاء بين المهدي والبشير في جيبوتي 1999 انتهى بعودة المهدي للبلاد في العام ذاته، وتفكيك قواته التي كانت تقاتل ضمن صفوف المعارضة، غير أنه رفض في نفس الوقت المشاركة في النظام واختار ما سماه "الجهاد المدني" داخل السودان.
بعد وفاة والده، اختير رئيساً لحزب الأمة القومي سنة 1964، ثم انتخب رئيسا للوزراء في العام 1966 كأصغر شخصية سياسية تتولى هذا المنصب.
وفي 2003، وحسماً لنزاع داخل "طائفة الأنصار" الدينية، نُظم مؤتمر عام تم فيه انتخاب المهدي إماماً لـ"الأنصار"، ولأول مرة يتم ذلك الانتخاب، حيث كان يتم تعيين إمام للطائفة عبر البيعة المباشرة، كما تمت إعادة انتخابه رئيساً لحزب الأمة.
في 2010، وبعد توقيع نظام البشير لاتفاق سلام مع جنوب السودان، الذي أتاح انفتاحاً ديمقراطياً محدودا، ترشح المهدي لرئاسة الجمهورية في انتخابات عامة جرت في ذلك العام، لكنه انسحب في اللحظات الأخيرة.
وفي 2014، عاد الصادق المهدي إلى سيرة الاعتقالات والسجون، حينما هاجم في إحدى خطبه قوات الدعم السريع واتهمها بارتكاب جرائم فظيعة ضد المدنيين في دارفور، فأودع سجن كوبر القومي لأكثر من شهر، وجرى استجوابه في نيابة أمن الدولة، وكاد أن يقدم إلى محاكمة بتهمة عقوبتها الإعدام، لكن جرت تسوية القضية بين نظام البشير وهيئة الدفاع الخاصة به.
وبعد بدء الحراك الثوري ضد نظام البشير في العام 2018، بدا الصادق المهدي للكثيرين متردداً للمشاركة فيه، لكنه في نهاية المطاف انضم إلى الثورة ودعمها حتى مرحلة سقوط النظام، لكنه احتفظ طوال تلك المدة بمواقف خاصة بشأن كيفية إدارة الفترة الانتقالية وملفاتها المعقدة، ودخل في خلافات عميقة مع "تحالف الحرية والتغيير" الحاكم، وصلت إلى مرحلة تجميد حزب الأمة القومي لنشاطه داخل التحالف، كما وقف ضد توجهات فصل الدين عن الدولة التي تبناها عدد من الأحزاب والتيارات، وناهض المهدي كذلك بقوة خطوات الحكومة الانتقالية نحو التطبيع مع إسرائيل.
عرف المهدي طوال مسيرته السياسية بالحكمة وسعة الصدر، وتقبل الرأي الآخر، وتمسكه بالخيار الديمقراطي، ورفضه المشاركة في أي منصب سياسي دون انتخابات.
لم تشغله دهاليز السياسة وصراعاتها عن الإنتاج الفكري، حيث ألف عددا من الكتب، أبرزها "الديمقراطية في السودان: عائدة وراجحة"، و"مسألة جنوب السودان"، و"جهاد من أجل الاستقلال"، و"يسألونك عن المهدية"، و"العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الإسلامي"، و"تحديات التسعينات"، ثم شارك في المئات من المؤتمرات الفكرية.
لدى الصادق المهدي اهتمامات كبيرة بالرياضة، التي لم ينقطع عن ممارستها وهو في العقد التاسع من عمره، خاصة رياضة التنس وركوب الخيل، كما كانت له اهتمامات كبيرة بالفنون والأدب، خاصة الأدب الشعبي والتراث، الذي ظل يستخدم كل حكمه وأمثاله في خطبه السياسية.