تعاملت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مع انقلاب النيجر منذ البداية وكأن الحدث له أبعاد أكبر من البلد، وتبدّى ذلك في التحركات والمشاورات المميزة والمتوالية مع الأوروبيين والأفارقة مع إصرار واشنطن على فرض التراجع عنه.
وترفض واشنطن حتى الآن تصنيف ما حدث في النيجر في خانة الانقلاب بل وضعته في خانة المحاولة "للاستيلاء على السلطة" والتي لا بد من العودة عنها.
وفي مطلع الأسبوع الجاري قامت القائمة بأعمال نائب وزير الخارجية الأميركية، فيكتوريا نولاند، بزيارة خاطفة إلى النيجر وتأكد لها، بدون شك، أن ما حصل كان إطاحة تامة بالرئيس محمد بازوم، الذي لم يتيسر لها مقابلته في مكان اقامته الجبرية، ومع ذلك قال المتحدث في وزارة الخارجية الأميركية، أمس الأربعاء، "نحن نتحرك مع شركائنا لاعادته (بازوم) قطعاً إلى الحكم".
وجرى ربط كلام المتحدث بهذه الصورة الجازمة بما تردد حول مساع جارية لحمل دول أفريقية على القيام بحصارعسكري لإجبار الانقلابيين على التراجع.
الصحوة الثانية
ويعكس احتمال وصول التصعيد إلى انقلاب على الانقلاب، أهمية الموضوع بالنسبة لواشنطن، التي لم تحتمل، على ما يبدو، انفجار أزمتين في بلدين أفريقيين، السودان والنيجر، وتشتبه بوجود أصابع خارجية، وذلك بعد أقل من سنة على القمة الأميركية الأفريقية بواشنطن، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، كمدخل لعودتها الجديدة إلى القارة لمنافسة الصين وروسيا فيها.
تلك القمة، التي جاءت متأخرة وبتمويل متواضع، كانت بمثابة الصحوة الثانية على القارة بعد الحرب الباردة حين لم يكن لواشنطن مصلحة أمنية - عسكرية كبيرة في القارة الأفريقية. ولكن طرأت، بعد ذلك، مستجدات وضعت أفريقيا على خريطة الاهتمامات الأمنية الأميركية، وانعكس ذلك في أكثر من محطة.
ففي عام 1990 حصل التدخل الأميركي في الصومال وبدأت المواجهات مع الإرهاب في المنطقة، ثم جاء استهداف سفارتي أميركا في تنزانيا وكينيا في 1998 ليشكل نقطة تحوّل في توسيع التواجد العسكري الأميركي في القارة، فكان بناء القاعدة العسكرية الأميركية في جيبوتي عام 2001 والتي تؤوي أربعة آلاف جندي. ومنذ ذلك الحين صار التمدد العسكري في القارة "حاجة لحماية المصالح الأمنية الأميركية" والذي تنوعت أشكاله، حيث شمل عمليات الاستطلاع واستخدام المسيرات والقيام بغارات عابرة للحدود. وجرى تغليف هذا النشاط بخدمات صحية ومساعدات إنسانية وتأمين التدريب للقوى الأمنية المحلية، وتوفير غير ذلك من الاحتياجات للدول التي استضافت قوات أميركية، لكن هذه الخدمات انحسرت نتيجة طغيان نزعة الهيمنة لدى هذه القوات، مما أدى إلى تنامي الرفض والاحتجاج على هذا السلوك الفوقي في عدة بلدان أفريقية ما عدا قلة مثل ليبيريا والكاميرون، بقيت تحظى بالدعم الأميركي.
حضور أميركي غير فعّال
عند هذا المفصل كانت الصين بدأت في شق طريقها في القارة عبر ورقتها الاقتصادية القوية، والتي تدفقت على شكل مشاريع زراعية ومواصلات واتصالات وعلاقات تجارية، من غير تواجد عسكري صيني على الأرض.
وبنتيجة هذا التغلغل الاستثماري تنامى النفوذ الصيني في بلدان أفريقية عديدة، وبدت أبواب القارة مفتوحة أمام الصين وللنموذج الذي قدمته. وكان ذلك معطوفاً على بداية أفول النفوذ الفرنسي في أفريقيا، هو ما حفز إدارة بايدن على ترتيب قمة ديسمبر الماضي لتحقيق غرضين؛ تصحيح الحضور العسكري الأميركي المنفور منه في القارة، ثم تقديم أميركا بوجه تنموي جديد ومرغوب للبلدان الأفريقية ولو بتمويل ضعيف (55 مليون دولار)، وكانت الإدارة تعرف أنها تأخرت وأن الصين قطعت أشواطاً مهمة في علاقاتها الأفريقية.
وحتى موسكو كانت دفعت هي الأخرى بحضورها، سواء عبر قوات فاغنر في بعض البلدان الأفريقية، مثل السودان، أو عن طريق بعض المساعدات والمشاريع. وثمة تقارير تشير إلى دور روسي في أحداث النيجر الحالية، ولكن الخارجية الأميركية تقول إنه ليس لديها ما يؤشر إلى مثل هذا الدور "لكننا لا نستبعد صحة هذه التقارير" حسب المتحدث ماثيو ميلر.
انقلاب النيجر كشف، بعد السودان، عن حضور أميركي غير فعّال. وتعمل إدارة بايدن لتغيير الصورة عبر الإصرار على عودة الرئيس بازوم إلى سدة الحكم، وتعوّل في ذلك على قوى المجتمع المدني في النيجر كما على مجموعة التعاون الاقتصادي لدول غرب أفريقيا، بالإضافة إلى ضغوطات وتلويح بعقوبات أوروبية، ولكن هل يكفي ذلك؟ من المرجح، في ظل المعطيات القائمة، استمرار الوضع الجديد على ما هو عليه الآن وإلى حين.