"ما حصل كان مكتوباً على الجبين منذ وقت". بهذه العبارات، ينعى الكاتب الهندي الأميركي في صحيفة "واشنطن بوست"، إيشان تارور، 20 عاماً من الغزو الأميركي لأفغانستان، بعد اكتمال الانسحاب العسكري للولايات المتحدة تقريباً من هذا البلد، بالتزامن مع اقتراب ذكرى اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول 2001، التي كانت السبب المعلن للغزو، ولكن أيضاً بالتزامن مع عودة حكم حركة "طالبان" لهذا البلد، بعد 20 عاماً من طردها من كابول، على يد الجيش الأميركي وقوات حلف شمال الأطلسي، وجميع القوى المحلية المعارضة لها. هذا الاتحاد من "الجيوش"، يضاف إليه الجيش الأفغاني الذي اشتغل الأميركيون طويلاً على صناعته وتدريبه وتجهيزه، ومعه مليارات الدولارات التي صرفت من الميزانيات الأميركية السنوية، راحت جهودها هدراً، فيما تلملم أميركا رعاياها ومواطنيها من كابول، بطوافات عسكرية، ومعهم بضعة آلاف من الأفغان، منحتهم حمايتها وإمكانية البقاء على أرضها. وبالمعنى الحرفي للكلمة، تواجه الولايات المتحدة اليوم، أبشع هزيمة في تاريخها الحديث، بعد فيتنام، وهي مقارنة بين حربين ليست وليدة اللحظة، بل تعود إلى سنوات طويلة، حين بدأ الإخفاق يتبلور على شكل فضائح وتحقيقات سرية، حتى منذ عهد جورج دبليو بوش، مطلق الغزو، الذي ستبقى الكثير من أسراره الأميركية مطوية.
طالب ترامب بايدن بالاستقالة لفشل استراتيجيته للانسحاب
وفيما ينتهي الوجود الأميركي في أفغانستان، والذي كان حظي مع إعلانه بمباركة أميركية شعبية مرتفعة، نظراً لمبرر القضاء على تنظيم "القاعدة" وزعيمه أسامة بن لادن، كما بدأ، بعودة "طالبان" إلى السلطة، وبرضى شعبي عن قرار الرئيس الأميركي جو بايدن بالانسحاب، تعيش واشنطن منذ أيام على وقع تبادل غير مسبوق للاتهامات يشترك فيه الجميع، من مسؤولين سابقين وحاليين، وبينهم رئيسان للبلاد، حول الجهة التي تتحمل المسؤولية المباشرة عن هذا السقوط المدوي لكابول، واستسلام الجيش الأفغاني لمقاتلي "طالبان". وبالتزامن مع صدمتها، تبدو الولايات المتحدة في حالة إنكار لمسببات الواقع الذي استجد في بلد لطالما عملت على بناء سلطة فيه، تكون حليفة لها في آسيا الوسطى، وربما طمحت إلى أن يدير يوماً، نظراً لاستثمارها طويلاً فيه، عمليات لها بالوكالة في المنطقة، ضمن استراتيجيتها الطموحة لما يعرف بـ"آفباك"، أو أفغانستان وباكستان، إلى جانب الحليف الهندي. ويترافق الإنكار مع حملة تصريحات رسمية تحمل تبريرات ضعيفة، كمثل تأكيد وزير الخارجية أنتوني بلينكن، أن أعداء بلاده "كانوا سيفرحون كثيراً لرؤيتنا في أفغانستان 20 عاماً إضافية"، في إشارة إلى الصين وروسيا. ويوحي كلامه، بأن التفسير المنطقي للانسحاب السريع، هو رغبة واشنطن في ترك خصومها يغرقون وحدهم في الوحل الأفغاني. وإذا كان الأمر سيحتاج وقتاً لرسم معالم "طالبان" الجديدة، وعلاقاتها بدول الجوار، الذين لبعضهم مصلحة في الانسحاب الأميركي، من دون إغفال قلّة ثقتهم التاريخية بالحركة، إلا أنها لم تعد خافية كارثية الأداء الأميركي طوال سنوات الحرب، والتي تمخضت عن انسحاب مذل، علماً أن تداعياتها على صورة القوة الأميركية، ستكون طويلة الأمد، وستترك أثرها على علاقة الولايات المتحدة بحلفائها وخصومها على حدّ سواء.
ويتحمل 4 رؤساء أميركيين، اثنان جمهوريان واثنان ديمقراطيان، هم جورج دبليو بوش وباراك أوباما ودونالد ترامب وبايدن، مسؤولية فشل الاستراتيجية الأميركية في أفغانستان، وفشل تأمين انسحاب يحفظ ظهر القوات الأفغانية الباقية على الأرض. وفيما يتلقى بايدن أكبر نسبة من السهام، لا تقل عنه، نسبة المسؤولية التي يتحملها أسلافه منذ 2001، عن هذا الإخفاق. وبشكل مفاجئ، سحبت اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري، صفحة من حملتها لعام 2020، على الإنترنت، كانت تقول إن "لبايدن تاريخا طويلا من الدفع للحروب الأبدية، فيما واصل ترامب التفوق في محادثات السلام، عندما وقّع على اتفاقية تاريخية مع طالبان، ستنهي أطول حروب أميركا"، في إشارة إلى الاتفاق بين الطرفين الذي جرى توقيعه في الدوحة، في فبراير/شباط 2020. وطالب ترامب أخيراً، بايدن، بالاستقالة، لفشل الأخير في اتباع "الاستراتيجية" و"الشروط" التي وضعتها الإدارة الجمهورية السابقة للانسحاب، في وقت لم تخرج يوماً إلى العلن أي استراتيجية لذلك في عهد ترامب.
من جهته، يواصل الرئيس الديمقراطي الدفاع عن قراره بالانسحاب، مؤكداً التزامه بقرار سلفه، وأن أي بقاء لعام أو 5 أعوام إضافية، لم يكن ليغير المعادلة. ويأخذ معارضون لترامب، عليه، أنه أول رئيس نادى بعبثية البقاء في أفغانستان، في إطار سياسته "أميركا أولاً"، وأنه لولا لجم البنتاغون له، لكان أمر بانسحاب كامل في بداية عهده. كما أنهم يلومونه لتوقيعه الاتفاقية مع "طالبان"، من دون التأكد من التزام الحركة بالشروط الأميركية، ولاسيما لجهة الإفراج عن مقاتليها المسجونين (5 آلاف)، من دون مقابل.
أما بايدن، فإنه بدأ منذ 2008، ينادي بضرورة الانسحاب من أفغانستان، وبرفضه إطالة الحرب التي وافق على شنها في 2001، حين كان سيناتوراً في الكونغرس، فيما جاءت تصوراته، منذ ذلك العام، حول ما ستكون عليه نهاية الحرب، خاطئة. وحين انضم ابنه (المتوفي لاحقاً)، إلى حرب العراق، في 2008، قال بايدن، خلال مناظرة تلفزيونية في إطار التنافس على موقع نائب الرئيس، إن "الأمر صعب، لكن لكي نمنع أن يذهب أبناؤنا بعد 15 عاماً إلى الحرب ذاتها، علينا أن نرسل بعضهم اليوم لرسم معالم النهاية المشرفة". ومتوقعاً أيضاً "نهاية مشرفة" لحرب أفغانستان، أكد بايدن في إبريل/نيسان الماضي، أنه يضع كل ثقته بالجيش الأفغاني، وهي ثقة تبين أنها خائبة. ورأى ناتان سايلز، وهو منسق شؤون محاربة الإرهاب في وزارة الخارجية في عهد ترامب، في حديث لـ"واشنطن بوست"، أنه "ليس من المسلمات أن دعم ترامب للانسحاب، يعني منح الحصانة لبايدن. إن إدارة بايدن تتحمل المسؤولية، لأنها أخذت عن إدارة ترامب مقاربتها للانسحاب وفق ظروف معينة، لكنها استبدلتها بتصميم على المغادرة، مهما كانت الظروف الحالية على الأرض".
ويتساءل متابعون للوضع الأفغاني، عن كيفية أي انسحاب لو كان حصل في عهد ترامب، وهو سؤال ظلّ يدور في أذهان المتابعين، منذ عهد أوباما على الأقل، حين بدأت تتكثف الضربات الجوية الأميركية على هذا البلد، ما أزهق أرواح آلاف المدنيين منذ ذلك الوقت. وكان أوباما قد تعهد خلال حملته الأولى بإنهاء حرب أفغانستان بطريقة "مسؤولة"، لكنه عاد وأنصت لنصائح البنتاغون. في هذه الحرب، يؤخذ على الرئيس الـ44 للولايات المتحدة، 3 أمور أساسية: خداع الأميركيين حين أعلن زيادة عديد القوات الأميركية بشكل غير مسبوق منذ بداية الحرب، مع تعهده لهم بأنها غير قتالية، وثانياً وضعه آجالاً محددة لبقائها، ما جعل "طالبان" تتحضر، وثالثاً إخفاقه في توضيح استراتيجيته لتصحيح أخطاء الحرب. أما بوش الذي تؤكد وثائق الصحافي في "واشنطن بوست"، كريغ ويتلوك، في كتابه "أوراق أفغانستان: تاريخ سرّي للحرب"، أنه لم يكن يعرف اسم قائد جيش بلاده في أفغانستان، فيلام على مسارعته في الدخول بعد عامين من غزو أفغانستان، في غزو العراق، ما شتّت جهود البنتاغون، الذي أخفق في بناء جيش أفغاني قوي واتباع استراتيجية محددة وسريعة للغزو الأول.
يتحمل 4 رؤساء أميركيين، هم جورج دبليو بوش وباراك أوباما ودونالد ترامب وبايدن، مسؤولية فشل الاستراتيجية الأميركية في أفغانستان
واعتبر المحلل ماكس بوت، في "واشنطن بوست"، أن ما حصل في أفغانستان سيشكل لطخة سوداء لعهد بايدن، لالتزامه بقرار ترامب، على الرغم من عدم التزام "طالبان" ببنود الاتفاقية وتحذيرات الاستخبارات. ورأى بوت أن "أحداً لم يقترح زيادة عدد القوات الأميركية. لقد كان كافياً بقاء 2500 مستشار والقوة الجوية، لتحقيق التوازن مع تقدم طالبان في الأرياف، وإبقائها بعيدة عن المدن"، متسائلاً عن سبب بقاء قوات أميركية لأكثر من 70 عاماً في ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية.
وتكشف "أوراق أفغانستان" الكثير عن التضليل في واشنطن حول الحرب التي خسرت فيها الولايات المتحدة أكثر من ألفي جندي. وتؤكد الوثائق، التي جمعت من مقابلات مع أكثر من ألف مسؤول أميركي، أن الإدارات الأميركية المتعاقبة اعترفت بصعوبة هزيمة "طالبان"، وأن الدولة الأفغانية ضعيفة وغارقة في الفساد، لكن البقاء هناك دون استراتيجية متماسكة هو أفضل من الإقرار بالهزيمة. ويشرح الكاتب كيف أن هذه الإدارات "أخفت الحقيقة لعقدين". وفيما العالم يختلف في توصيف نهاية الوجود الأميركي في أفغانستان، بين التراجيديا والانتصار، يقول مسؤولون أميركيون إن دوافعنا للحرب تعددت، بين القضاء على الإرهاب، وخلق دولة حليفة أردناها على نسق ديمقراطيتنا، ثم التموضع في ساحة أمامية بمواجهة الصين وروسيا، ما جعلنا في الحقيقة "من دون أهداف".