زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السعودية والإمارات، الأربعاء الماضي، في أول رحلة له إلى الخليج منذ العام 2019. واستغل بذلك وضعاً إقليمياً ودولياً متوتراً، كي يسجل عدة أهداف سياسية، من بينها تحدي مذكرة المحكمة الجنائية الدولية باعتقاله.
توقيت الزيارة مهم من الناحية السياسية، لأنه جاء خلال الحرب الإسرائيلية على غزة. ورغم أن دور روسيا، لا يرقى، حتى الآن، إلى ما تمثله من وزن وتاريخ في الصراع العربي الإسرائيلي، فإن الجولة الخاطفة، ذات معنى، أمام الانخراط الأميركي غير المشروط، في الحرب إلى جانب إسرائيل.
استغلال بوتين نقاط الخلاف العربي الأميركي
درج بوتين على استغلال نقاط الخلاف العربية مع الولايات المتحدة، من أجل توظيفها في ملفات النزاع بين موسكو وواشنطن. وهناك مراقبون يعدون اتفاق "أوبك بلس" ثمرة لهذا المنهج، والذي نجح من خلاله بأن يخلق شرخاً كبيراً بين الرياض وواشنطن.
وصمد الاتفاق سبعة أعوام، وهو يضم 23 دولة منتجة للنفط. وتشكل السعودية وروسيا رأس القاطرة التي تقود هذا التجمع، وتلعبان الدور الرئيسي في رسم السياسات النفطية التي تتحكم بالسوق العالمي.
تتصرف موسكو على أساس أن علاقتها مع الرياض، تشكل ضمانة لاستقرار منظمة أوبك وأسواق النفط العالمية
حاولت الولايات المتحدة عدة مرات أن تفك التحالف الروسي السعودي في عالم الطاقة، وخاصة بعد حرب روسيا على أوكرانيا، لكنها لم تنجح في ذلك. وزار الرئيس الأميركي جو بايدن الرياض في يوليو/تموز 2022، من أجل الحصول على تعهد من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لكنه لم يفلح في ذلك.
وحسب تقديرات خبراء في سوق الطاقة، نجحت موسكو من خلال اتفاق "أوبك بلس"، أن تواجه العقوبات الغربية ضد النفط الروسي، التي تم فرضها بعد الحرب على أوكرانيا، بل استفادت من بقاء أسعار النفط عند مستوى مرتفع.
بوتين يدفع باتجاه خفض إنتاج النفط
وتحدث خبراء خليجيون عن أن الملفات الرئيسية التي جرى بحثها خلال القمتين في الرياض وأبوظبي، تناولت تقديم مزيد من الدعم لاتفاق "أوبك بلس"، والدفع باتجاه خفض إنتاج النفط، ما يعزز السياسة الروسية الساعية لتجنب تأثير العقوبات الغربية المفروضة عليها.
وقال بوتين، في تصريحات تلفزيونية، في الرياض الأربعاء الماضي، إن العلاقات مع السعودية وصلت إلى "مستوى غير مسبوق"، وهو نفس ما وصف به العلاقات مع الإمارات خلال اجتماع في اليوم نفسه مع رئيس الإمارات محمد بن زايد آل نهيان.
وتتصرف موسكو على أساس أن علاقتها مع الرياض، تشكل ضمانة لاستقرار منظمة أوبك وأسواق النفط العالمية. وترى مصادر سعودية أن التفاهمات السعودية الروسية، فيما يخص أمن الطاقة، هي حجر الأساس في هذا الميدان، نظراً لما يشكله إنتاج البلدين من النفط من وزن في السوق العالمي.
وفي الوقت ذاته، تعتبر أبوظبي شريكاً اقتصادياً رئيسياً لموسكو في منطقة الخليج، كون مقدار التبادل التجاري بين البلدين، يزيد عن نصف حجم إجمالي التبادل التجاري مع دول مجلس التعاون الخليجي. وتستحوذ الإمارات على 55 في المائة من تجارة روسيا مع الخليج. وقد قفز التبادل والاستثمار في الأعوام الأخيرة إلى 95 في المائة. وتعتبر الإمارات أكبر مستثمر عربي في روسيا، وهناك أكثر من 4500 شركة روسية تعمل فيها، وشكلت متنفساً رئيسياً لرأس المال الروسي، الذي يواجه العقوبات في أوروبا بعد حرب أوكرانيا.
ولم تفرض الإمارات عقوبات على روسيا، كما لم تنتقد غزوها لأوكرانيا، فضلاً عن تقديمها تأشيرات دخول للروس ممن لم تصدر بحقهم عقوبات، بخلاف دول غربية عديدة، قيدت تحركاتهم. كما أن جزءا من تجارة النفط الروسي تمر عبر الإمارات.
تبادل مصالح بين موسكو والرياض
هناك تبادل مصالح سياسية بين موسكو والرياض. وقد وجد ولي العهد السعودي الرئيس الروسي يقف إلى جانبه حين حاولت إدارة بايدن أن تمارس عليه ضغوطاً في بداية تسلمها للحكم عام 2021، ومنذ ذلك الوقت اتجهت الرياض بقوة نحو موسكو وبكين.
وتأتي هذه الزيارة ضمن هذا التوجه والرؤية، وهناك من يراهن على أنها سوف تثمر تحركاً مشتركاً في المرحلة المقبلة، في وجه إدارة بايدن، بخصوص عدة ملفات سياسية واقتصادية، بعضها يتعلق بالشرق الأوسط، والبعض الآخر يتركز على تطوير محاور تخص دول الجنوب.
هدف بوتين من زيارته السعودية والإمارات تحدي قرار المحكمة الجنائية الدولية
اختار بوتين السعودية والإمارات، في محاولة للدخول إلى الموقف العربي في ما يخص غزة، من خلال العمل على وقف إطلاق النار، وهو يرى أن روسيا قادرة على لعب دور الوسيط بين الفلسطينيين وإسرائيل، كونها تحتفظ بعلاقات جيدة مع الطرفين. وهذا يفسر تموضع موسكو في منطقة وسط من هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وكان مساعد الرئيس الروسي يوري أوشاكوف أعلن، قبل الزيارة، أن بوتين يعتزم بحث تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي خلال زيارته البلدين. ومع دخول الحرب بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة شهرها الثالث، تبدو روسيا مهتمة بشكل متزايد بمآلات هذه الحرب، ويظهر أنها تنوي تقديم خطتها الخاصة لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
صحيح أن بوتين لم يصرح بأنه ينوي التحرك في هذا الاتجاه، غير أن التصريحات المشتركة، ركزت على مسألة تبادل وجهات النظر بشأن غزة. ويبدو أن موسكو والرياض تعملان على بلورة موقف مشترك، ولديهما تقدير بأن اللحظة لم تحن بعد لطرحه على العلن، وربما ينتظران جلاء الموقف العسكري.
وهناك توجه روسي لتشكيل موقف وازن من عدة دول من ضمنها السعودية والصين وإيران. واللافت أن وكالات الأنباء الإيرانية استبقت زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى موسكو الخميس الماضي بالإشارة إلى أن الحرب على غزة سوف تكون على جدول أعمال القمة بين الرئيسين.
بوتين يتحدى قرار المحكمة الجنائية الدولية
الأمر الثاني الذي أراد بوتين أن يحققه من خلال زيارة الرياض وأبوظبي، هو تحدي قرار المحكمة الجنائية الدولية، التي أصدرت مذكرة اعتقال بحقه في 17 مارس/آذار الماضي بسبب "جرائم حرب" في أوكرانيا.
ولهذا سلطت الزيارة الخاطفة لكل من العاصمتين، الضوء على رحلات بوتين الخارجية، التي تأثرت بشدة بمذكرة الاعتقال. وتسببت في حذر الرئيس الروسي خلال رحلاته الخارجية، وحدت بشكل كبير من جولاته ولقاءاته مع قادة الدول الأخرى، وبالتحديد المنضوية في المحكمة الجنائية الدولية.
ومع أن موسكو أبدت عدم اكتراث بقرارات المحكمة، ووصفتها بأنها "عديمة الأهمية" و"باطلة قانونياً"، فإن بوتين لم يغادر روسيا إلا إلى دول ليست طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية، مثل الصين وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزستان، إلى جانب الإمارات والسعودية.
وتختلف التصريحات عن الأفعال، وتبين أن روسيا تأخذ الأمر على محمل الجد، وهذا ما يفسر غياب بوتين عن قمة "بريكس" التي عقدت منتصف أغسطس/آب الماضي بجنوب أفريقيا، العضو في المحكمة الجنائية الدولية. وأعلنت الرئاسة في جنوب أفريقيا، وقتها، أن بوتين قرر عدم الحضور بالاتفاق مع الرئيس سيريل رامافوزا، فيما مثل روسيا في القمة وزير الخارجية سيرغي لافروف.
وتبقى المسألة رمزية كون احتمالات محاكمة بوتين وكبار مساعديه لاتهامهم بجرائم حرب ليست كبيرة، إلا في حال تم تغيير النظام في موسكو. كما أن المحكمة الجنائية الدولية لا تجري محاكمات غيابية، ومن غير المرجح أن تتمكن من اعتقال بوتين أو مساعديه، وهي تعتمد بالأساس على الدول الأعضاء في تنفيذ عمليات الاعتقال.
خلفية تحركات بوتين ومواقفه
هناك مسألة مهمة تتعلق بخلفية تحركات بوتين ومواقفه، وهي أنها تنطلق من أرضية التصرف بارتياح تجاه الحرب على أوكرانيا، فهو يعتبر أنه حقق ما يريده منها، وقد جاءت الحرب الإسرائيلية على غزة كي تسرق الأضواء والاهتمام الدولي، وتخفف من الضغوط السياسية والإعلامية على موسكو.
وذكرت مجلة "إيكونوميست" البريطانية، أخيراً، أنه ولأول مرة منذ هجوم روسيا على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، يبدو الرئيس الروسي وكأنه قادر على الانتصار، وأن أكبر أصوله لهذا الانتصار هو افتقار أوروبا للرؤية الاستراتيجية.
وأوضحت المجلة أن بوتين كان قد حضر بلاده للحرب مع أوكرانيا، معززاً قبضته على السلطة، ويستمر في مساعدة جنوب العالم للتحول ضد أميركا، والأهم من ذلك، أنه يقوّض الاقتناع السائد في الغرب بأن أوكرانيا قادرة -بل يجب عليها- أن تخرج من الحرب كديمقراطية أوروبية مزدهرة.
التحرك الروسي المرتقب على الصعيد الدولي هو في ما يخص رئاسة موسكو لمجموعة "بريكس" في العام المقبل، وهي خطوة يعول عليها بوتين لنقل المواجهة مع الولايات المتحدة إلى مستوى جديد.