انطلقت الاستشارات النيابية الملزمة، صباح اليوم الخميس، في قصر بعبدا الجمهوري، التي من المرجّح أن تفضيَ إلى تكليفِ رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سعد الحريري تشكيل الحكومة، بأصواتٍ ضئيلة قد لا تتخطّى الستين نائباً من أصل 120 بعد استقالة 8 نواب عقب انفجار مرفأ بيروت، وبأقليّة مسيحية غير مسبوقة.
ويُشارك في الاستشارات، التي سبقها تحذير فرنسي جديد جاء على لسان وزير الخارجية جان إيف لودريان، من خطورة تأخير عملية تشكيل الحكومة، 10 كتل نيابية، ونواب مستقلّون، في ظلّ انقسام الآراء، بين طرف مؤيد لتكليف الحريري، وطرف رافض لعودته إلى رئاسة الحكومة فضَّلَ في الوقتِ نفسه عدم تسمية أي شخصيّة أخرى.
ويجعل ذلك الحريري، الذي يترأس "تيار المستقبل"، الفائز في استشارات لا منافسين فيها، لتظل المواجهة الأولى مع فريق رئيس الجمهورية، ميشال عون، وصهره رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل، ولو بأصوات أقلّ مما كان يتوقع.
وحسمت كتل نيابية موقفها من تبنّيها تسمية الحريري، على رأسها، "كتلة المستقبل"، و"كتلة التكتل الوطني" (تابعة لتيار المردة برئاسة سليمان فرنجية)، و"كتلة التنمية والتحرير" (يتزعمها رئيس البرلمان نبيه بري)، وكتلة "اللقاء الديمقراطي" (تمثل الحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة وليد جنبلاط في البرلمان)، و"كتلة الوسط المستقل" (يرأسها رئيس الوزراء السابق النائب نجيب ميقاتي)، فيما بقيت أخرى على موقفها الضبابي مثل "كتلة الحزب السوري القومي الاجتماعي" الذي تلقّى رئيسها النائب أسعد حردان، أمس الأربعاء، اتصالاً من الحريري. وبحثا في الاتصال الملف الحكومي، في خطوة لافتة قام بها الحريري، تجاه خصمٍ كبيرٍ له، فيما لم يتصل بباسيل ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول شكل اللقاءات التي ستتم خلال الاستشارات غير الملزمة التي سيجريها الحريري والتي يرجّح ألا يحضرها باسيل كما فعل مع وفد "تيار المستقبل"، الذي استقبله ممثلون عن "التيار الوطني الحر".
كما أعلن "تكتل الجمهورية القوية" (يمثل حزب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع برلمانياً)، موقفه في وقتٍ سابقٍ بعدم تسمية أي شخصية لرئاسة الحكومة باستثناء نائبه جان طالوزيان الذي اتخذ موقفاً مغايراً معلناً انسحابه من التكتل.
وموقف "الجمهورية القوية" لعدم تسمية الحريري، يماثله موقف "تكتل لبنان القوي"، برئاسة باسيل، وكتلة "ضمانة الجبل" المنضوية فيه. ولم يجمع أعضاء التكتل على عدم التصويت للحريري، بل شهد الاجتماع الأخير تبايناً في الآراء بين مؤيد لعودته مع ضرورة وضع الخلافات جانباً لكون المرحلة دقيقة، ومعارض لتكليفه. ويتّجه حزب "الطاشناق" المنضوي في "لبنان القوي" إلى تسمية الحريري، في حين أن النواب المستقلّين لن يسمّوا الحريري بالعدد الأكبر منهم وفضَّل قسمٌ منهم الإعلان عن الاسم خلال الاستشارات.
كذلك، لن يسمي "اللقاء التشاوري" (عُرِف بالنواب السُنة المستقلّين)، الحريري لرئاسة الحكومة، باعتبار أنه "كلَّفَ نفسه بنفسه للمضي في السياسات المتّبعة من دون توضيح سياسته المالية والنقدية والاقتصادية، لمعالجة الأزمات المعيشية والمالية والاقتصادية، والذي يشكل أساساً لكل إصلاح مرتجى".
أما كتلة "حزب الله"، (الوفاء للمقاومة) فسرت أنباء أنها لن تسمّي الحريري من باب التضامن مع رئيس الجمهورية، والوقوف إلى جانبه، في خطوةٍ دائماً ما يعتمدها "حزب الله" لتأكيد وفائه لعون وحلفهما ولو أنّ موقفه يتناقض مع حلفائه الآخرين، أبرزهم بري، وفرنجية. وسبق أن اعتمدها يوم تأييد عون للرئاسة، بينما كان فرنجية أبرز المرشحين الرئاسيين ومدعوماً من بري. ومع ذلك يؤيد "حزب الله" عودة الحريري للحكومة، مع ما يحمله من ضمانات ينتظرها على صعيد مطالبه الوزارية إلى جانب "حركة أمل"، علماً أنّه لم يعلن عن أي موقفٍ رسمي بشأن قراره في الاستشارات.
ووجه الرئيس اللبناني ميشال عون عشية الاستشارات، رسائل عدّة إلى الحريري، وفترات الحكم التي كان رئيساً فيها، وتياره السياسي، مشككاً بنجاحه. ولمّح إلى أنّ مسار التكليف الذي أوصلَ الحريري رغم معارضة عون وفريقه السياسي له، سينعكس حتماً على عمليّة التأليف التي دافع عن حقه فيها، والتي تبعاً للمؤشرات لن تكون سهلة، وستشوبها الكثير من العراقيل والمواجهات التي ستشهد خلط أوراق التحالفات السياسية. وسيتسلح لأجلها عون بصلاحية التوقيع على التشكيلة الوزارية التي سيتقدّم بها الحريري، بعدما عجز عن قطع طريق التكليف من بوابة "الميثاقية المسيحية".
وفي السياق نفسه، حذّرَ الأفرقاء المعارضون لعودة الحريري، من سيناريو التأليف التقليدي، أبرزهم "القوات اللبنانية" التي تعتبر أنّ أي حكومة لن تكون مستقلّة من الرأس إلى الأعضاء، ستكون نسخة عن سابقاتها، ولا سيما مع ميل الحريري للقبول بشروط "الثنائي الشيعي" الذي سيُسمّي وزراء الطائفة الشيعية كما طلبَ. وهو ما سينسحب على باقي الأحزاب التي ستدخل على خطّ الحصص الوزارية، والتي سبقَ أن لوّح بها "الحزب التقدمي الاشتراكي" وحزب "الطاشناق" ما دفعهما إلى التراجع عن موقفهما الرافض لتسمية الحريري.
دستورياً، يقول المحامي سعيد مالك، لـ"العربي الجديد"، إنّ رئيس الجمهورية ولدى تسلّمه مسودة التشكيلة الوزارية من الرئيس المُكلَّف، يملك الخيار الحصري في الموافقة عليها برمّتها، أو طلبِ تعديل بعض الأسماء فيها، أو رفضها بالمطلق، باعتبار أن مراسم التشكيل تصدر عنه، وفي حال الرفض، على رئيس الحكومة المكلف تقديم تشكيلة جديدة.
ويلفت مالك إلى أنّ دور رئيس الجمهورية في عملية التشكيل ينقطع بمجرّد إصدار مرسوم تكليف رئيس الحكومة بتشكيلها، والذي عليه أن يجري وحده الاستشارات النيابية غير الملزمة، مع ما يستوجب ذلك من لقاءات تشاورية مع رؤساء الأحزاب والأفرقاء السياسيين، ليتقدّم بعدها بالمسودة التي تحمل أسماء الوزراء ومناصبهم، إلى رئيس الجمهورية.
من جهة ثانية، يشير مالك إلى أنّ احتساب الأصوات بشكل دستوري يتطلب حضور كل نائب، وإلا تعتبر لاغية، إذ لا يمكنه أن يفوّض التسمية لكتلته أو لأي شخص آخر، مضيفاً أنه في حال ابتدعت دوائر القصر الجمهوري، أنّ مجرّد حضور الكتلة يعني أنّ أعضاءها بالكامل صوّتوا لمرشحهم، فهذا يبقى فقط من باب الاجتهاد الذي يتعارض مع النصوص الدستورية.
وعشية الاستشارات شهدت بيروت اعتصامات تعارض عودة الحريري لتولي رئاسة الحكومة، وإعادة تعويم المنظومة السياسية نفسها، ومراكزها في السلطة. وقابل ذلك نزول عدد من مناصري "تيار المستقبل" بتحرك مؤيد للحريري، فتوتّرت الأجواء بين الطرفين، ما أدى إلى رمي الحجارة، قبل أن يعمدَ مناصرو الحريري إلى حرق قبضة الثورة في ساحة الشهداء وسط العاصمة، في فعلٍ "تبرّأ" منه "المستقبل"، في حين عمدت القوى الأمنية إلى توقيف مشتبه بهم بإحراق المجسّم.