يغلق هذا العام بابه على مآسٍ فتحت أبواباً على أسئلة حول مواسم الهجرة إلى بقاع الأرض، تلك التي لم تكن يوماً مستجدّةً على شعوبنا، في خضم ترحالها التاريخي بعيداً عن دموية الحروب والجوع وفرز السكان الديمغرافي على أساس عرقي وطائفي.
ليس الأمس بعيداً عن اليوم؛ سوى باختلاف الزمن والظروف، إذ لم تكن الهجرات التي شهدتها البلاد منذ مطلع القرن الماضي إلى اليوم، سوى احتجاج إنساني صارخ على أنظمة الاستبداد؛ بما فيها النظام الطائفي اللبناني، الذي أصبح بحره مسرحاً لنزيف أسراب المهاجرين غير الشرعيين؛ جلّهم من الفقراء واللاجئين. تلك لم تكن المأساة الأولى ولن تكون الأخيرة للبنانيين والفلسطينيين والسوريين الذين تتفاوت ظروفهم ويجمعهم القهر والاضطهاد والإقصاء العنصري، الذي جعلهم يقامرون بحياتهم أملاً ببلادٍ تمنحهم حقوقهم كبشر.
لا أنسى رجلاً يحتضن ابنه، قال لي: الولد راح، ظلّ يقبّل ابنه ويبكي ثمّ تركه في المياه، عند الصباح لم يبق منا سوى ستة أشخاص على ظهر المركب، أين ذهب الباقون؟
لم يكد يبحر أحد أكثر مراكب الهجرة مأساةً من لبنان حتى غرق في مياهه الإقليمية، في ليلة الثاني والعشرين من سبتمبر/أيلول الماضي، حين قذفته الأمواج إلى طرطوس السورية، مغرقاً معه عشرات الضحايا، سرد ناجون رواياتهم وصمت آخرون خوفاً، تحوّل هؤلاء إلى أسماء تعاطف الإعلام معها إلى حين، ثمّ أصبحت خبراً منسياً بعد عودة الخطاب اللبناني إلى مصطلحاته العنصريّة القديمة والمتجدّدة، حول "خطر دمج" الأطفال السوريين مع اللبنانيين في المدارس، و"الخطر الديمغرافي" الذي يشكّله اللاجئون الفلسطينيون، وما شابهها من مفاهيم تٌطرح بوصفها دفاعاً "مقدّساً" عن صيغة العيش المشترك بين الطوائف اللبنانية، لكنها تمثل تبريراً لحرمان اللاجئين من أدنى حقوقهم، وحرمان شرائح اجتماعية؛ منها فقراء طرابلس، من أفق المساواة في المواطنة. يطول الحديث بشأن الحروب والمآسي التي أنتجها النظام الطائفي اللبناني، كوارث مراكب الموت إحداها.
اشتدّت هجرة أهالي طرابلس وأهالي مخيّماتها منذ العام 2016، وسط غضّ نظر المعنيين، لكنّ سعيد؛ اسم مستعار لشاهد العيان، يرى أنها تكثّفت عام 2014 عن طريق البحر، الذي لم يكن مسرحاً للهجرة غير الشرعية في لبنان قبل الحرب السورية. لا يوجد إحصاء يوضح عدد الفلسطينيين؛ الكبير، الذين سلكوا طرق الهجرة غير الشرعية، عبر مطارات العالم طوال عقدين من الزمان.
عاش سعيد في طرابلس ومخيم نهر البارد، كونه من أم لبنانية وأبّ فلسطيني، كواحد من هؤلاء الناس فكّر هو أيضاً في الهجرة، لكنه لا يعرف إن كان عليه أن يحمد الله أم يحزن على عدم امتلاكه المال الكافي للهجرة في المركب الغارق، فقد توقّف عمله في صيانة المنازل؛ مع إحدى المؤسّسات، بعد الأزمة اللبنانية، في حين يحصل من عمل المياومة- يصفه استعباداً- على أجر زهيد، يوضح سعيد: "بعد الأزمة تحول وضع المخيم من سيئ جداً إلى كارثي، المؤلم أن كثرا سافروا عبر مراكب غير شرعية، بعد أن باعوا كل ما يملكون، من مصاغ وبيوت وسيارات بعد الفاجعة بأيام. أنا شخصيّاً مصاب باليأس، يوميّاً أسأل نفسي كيف سأكمل حياتي؟ فوضع المخيم محزن جداً، المخدرات تنتشر وسط الشباب اليائس انتشاراً مخيفاً، لا أعرف من الذي يقف وراء هذه السياسة الممنهجة الساعية إلى إضاعة الشباب الفلسطيني، المتروك لمستقبل مجهول".
تذكّر سعيد أصدقاءه الذين قضوا غرقاً؛ من أصحاب الكفاءات العلمية والمواهب، وتذكر أحلامهم بتحقيق مستقبلٍ مهمٍّ كمن سبقوهم إلى أوروبا، حدّث الكاتبة عن رواد السيد ابن الستة عشر عاماً؛ من مخيم شاتيلا، الفتى الذي حلمَ بالتصوير الفوتوغرافي والسينمائي، ورفيقيه الشقيقين أحمد ونور الحاج، اللذين يهويان رقص الدبكة والفولكلور؛ حازا العام الماضي على جائزة من مهرجانات الفولكلور في جبل لبنان، كانا يعملان في طلاء المباني والديكور وفي زفّة الأعراس، الأصدقاء الثلاثة في ربيع العمر، يجمعهم اليٌتم والسباحة وأحلام الهجرة، ثم شاء القدر أن يجتمعوا في الموت، ويواروا الثرى في مدافن شهداء فلسطين في مدينة بيروت.
"كان هؤلاء الرفاق واثقين جداً من طموحاتهم" كما يقول خليل صديق رواد، الذي أقام معه في منزله؛ في بلدة "ببنين" في مدينة طرابلس، مدة أسبوع استعداداً للسفر، أراد خليل إقناع صديقه رواد بالعودة عن قراره، وانتظار فرصة سفر مشروعة، لكن رواد صمّم على قراره، كان واعياً لنماذج اجتهدت هنا دون جدوى، لأنّ حقوقها منتهكة في لبنان، يصفها خليل بـ "المعاملة غير اللائقة بشعبٍ مناضلٍ ومقاومٍ" ثم يضيف خليل: "المهربون طمأنوا رواد، ثم حصل أمراً مبهماً، لا بدّ أن يٌتابع الأمر قانونياً، فتلك مجزرة تسبّبت بها مافيا خطيرة على مستوى دول"
قصدت السيدة ملكة ابنها رواد في "ببنين" لإقناعه بالعدول عن السفر، مع الألم الذي يعتصرها أحضرت له علب سجائر؛ فهو يدخّن سراً، رفض رواد السجائر، ثم وعدها بالإقلاع عن التدخين وبالمواظبة على الصلاة وبعيش حياةٍ جادّةٍ، كي يطمئنها اصطحبها لمشاهدة السفينة التي أعدّت للسفر، حين سمعت ملكة بخبر غرق مركب، لم يخيّل إليها أن ابنها على متنه لأنها "ليست السفينة التي شاهدتها"، ثم تابعت: "كان ابني ورفاقه سعداء، كأنهم يعرفون أنهم سيموتون، بسبب واقعهم المرّ؛ لاجئون فلسطينيون، كانوا مصرّين على المخاطرة قائلين: إمّا نموت أو نعيش، كان ابني يحلم بالموت شهيداً، تحقّق حلمه. منذ ست سنوات طلبت مؤسّسة أحلام لاجئاً فتىً فلسطينياً يعيش وحيداً مع أمّه، من أجل عمل فني، في العمل الفني يتسلّل الفتى ليلاً لاصطياد جنود الاحتلال إلى أن يستشهد، وقع اختيارهم على رواد. في المشهد الأخير بقي رواد؛ الممثّل، مستلقياً كـشهيد على الخشبة، حتى لاحظ الممثلون اندماجه، فقال لهم إه يتمنى ذلك في الحقيقة. قبل سفره قال لأصدقائه: "من أوروبا، فلسطين أقرب".
تحوّل رواد من طفل يحلم إلى رجل يفكّر، توفي والده بعد صراع مع مرض السرطان حين كان في السادسة من عمره، تقول والدته: "كان متفوقاً في دراسته، ساعدني في تربيته كفلاء ومؤسسات أيتام، قبل الأزمة اللبنانية كان الوضع أفضل. شعر رواد بتعبي ومرضي، لذا عمل هو ورفاقه في أيام الإجازات في طلاء المباني والكهرباء والتبليط من أجل تأمين معيشتهم، لم يتوفر هذا العمل بسهولة، ابني ورفاقه ضحية هذا الظلم، أرادوا الخلاص من واقعهم المرّ، هناك شبان فلسطينيون رائعون دمرت حياتهم وأدمنوا المخدرات، لماذا؟ لأنهم لا يملكون عملا أو حياة، ثم يأتي تجّار المخدرات كي يستغلوا هذا الواقع ويستغلونهم في ترويج المخدرات".
لم تكن الهجرات التي شهدتها البلاد منذ مطلع القرن الماضي إلى اليوم، سوى احتجاج إنساني صارخ على أنظمة الاستبداد؛ بما فيها النظام الطائفي اللبناني، الذي أصبح بحره مسرحاً لنزيف أسراب المهاجرين غير الشرعيين؛ جلّهم من الفقراء واللاجئين
لفظ رواد أنفاسهٌ الأخيرة وهو يعانق صديق رحلته جهاد مشلاوي؛ بعمر الـ32 عاماً، الذي شعر بأنه أخوه الأكبر، كفتى وحيد ونقي، نجا جهاد بمعجزة، خضع للعلاج النفسي مدة طويلة، فالمأساة بتفاصيلها لا تفارقه، ذكرى أحمد ونور ورواد الذين عاش معهم أسبوعاً في منزل واحد، تبادلوا الأحاديث، وطالبوه بطهو الطعام الذي يحبونه، كونه طباخا؛ شيف، يحلم بإنشاء مطعم شرقي في هولندا. لأنه فلسطيني تقاضى جهاد ربع راتب "الشيف" في بيروت، يقول: "ذهلت شركات كبرى من سيرتي المهنية ومن ثقافتي، ثمّ أسِفت لعدم استطاعتها تشغيلي كوني أجنبيا". ثم يتابع جهاد: " صفة الأجنبي تستفزني، فأنا وأهلي ولدنا وعشنا هنا؛ في لبنان، لي أقارب هنا. عايشت مواقف مؤلمة لا أنساها، مثل شتمي من قبل أحد ضباط لبنان، الذي حرر محضر مخالفة كيدية في حقي، بعد مشاهدته هويتي الفلسطينية"
حدثنا جهاد عن تجربته في قارب الهجرة الغارق قائلاً: "قبل يوم من السفر؛ أخذ المهرّبون القبطان أسامة من أجل تدريبه على قيادة مركب بمواصفات أخرى، لحظة الاستعداد للانطلاق تفاجأ أسامة بأنه سيقود مركباً آخر، وصفه بالـ "الميت الذي لا يصلح للإبحار حتى إلى سوريّة"، بعد شجار وتهديد بالسلاح، فضّل أسامة أن يقتل ولا يضع في رقبته ما يزيد عن مائة وخمسين روحاً، فهددوا بقتل أطفاله، تحت توسلات زوجته اضطرته للرضوخ، لكنه توقّف نصف ساعة ولم ينطلق، ربما حاول كسب الوقت للتفكير في خلاص ما، لكنهم ضغطوا عليه مجدّداً، ظلّ المركب يسير ويتوقف كل عشر دقائق مدة أربع ساعات ونصف، حتى توقف المحرّك كليّاً ضمن المياه الإقليمية اللبنانية، بدأت الأمواج العاتية تضرب القارب، أُصبنا بحالة هلع وبدأنا الصراخ، صرنا نركض يميناً ويساراً كي نوازن القارب، كان من الأفضل أن نقفز في البحر لأنّ ثقلنا سيغرقنا، قذفت بشاب سوري اسمه محمد للبحر، وسبحت نحو مائة متر بعيداً عن المركب فوجدت أحمد سابحاً أمامي ورواد ونور بقربي، بدأت الجثث تظهر على سطح المياه، كان أمامي شيء ما بدى لي حقيبة، انتابني الرعب بعد إمساكه لأنها جثّة طفلٍ رضيع، رأيت وسام تلاوي؛ من طرابلس، الذي نجا مثلي بعد أن فقد عائلته، كان يحمل ابنته الصغيرة وهي خائفة، قلت لها: غمضي عينيك عمو سيأتون ويأخذوننا. عدنا إلى المركب المنقلب والعائم كقطعة من الخشب، صرنا خمسة وثلاثين شخصاً عليه، كانت الجثث من حولنا عائمة، منها ما يتكئ على حقيبة سفر أو على حاوية مياه".
يتابع جهاد قائلاً: "لا أنسى رجلاً يحتضن ابنه، قال لي: الولد راح، ظلّ يقبّل ابنه ويبكي ثمّ تركه في المياه، عند الصباح لم يبق منا سوى ستة أشخاص على ظهر المركب، أين ذهب الباقون؟ حتى الجثث لم تعد تظهر، منها من ابعدتها الأمواج، ومنها من ابتلعها البحر، الناجون لاقتهم باخرة روسية أو قوارب الصيادين، لم نكن نعرف أن اتجاه الموج أخذنا إلى طرطوس، بقينا نحن الستة على ظهر المركب حتى النهار التالي، كنّا نتكئ على قضبان قاعدة المركب الحديدية، بدأ الشباب بالهلوسة والضياع، أنا لست متديّناً لكني قرأت من كل قلبي ما حفظته من آياتٍ قرآنيةٍ بصوتٍ عالٍ، نهرني أحد الشباب المصابين بالهلوسة قائلاً: خلص زعجتنا. حاولت إيقاظهم بصفعهم على وجههم، أحمد كان منهكاً جسديّاً، أما أنا ورواد فكنا نرتجف برداً ونحتضن بعضنا بعضاً علنا ندفأ، بدأ رواد يفقد وعيه ورأسه على صدري، حتى شعرت أنه يسلم روحه فقلت له: رواد يا حبيبي أنت تموت، أنطق الشهادتين، ففعل وسلم روحه، رجوت أحمد كي لا يستسلم ويسبح معي، لكنه لم يقوَ، سبحت أربع عشرة ساعة وأنا أقود بكتفي الشاب السوري أيمن قباني رحمه الله، بقينا نسبح معاً حتى بدا لنا الشاطئ على بعد نحو كيلو متر فقط، لكن الأمواج أخذت أيمن في اتجاه لا أعرفه، كانت هذه المسافة هي الأصعب، لكن ظلّ في ذهني والدي الحنون وفتاة أحببتها كانت دائماً تقول لي: لا تستسلم أبداً، لم أصدق أني وصلت إلى الشاطئ، استنجدت بعائلة تتنزّه هناك، جلبوا لي الماء، شربت وطلبت المزيد ثمّ تقيّأت دماً، ثم غبت عن الوعي ولم افق إلا وأنا في المشفى".
يختم جهاد حديثه: "عندما عدت إلى بيروت علمت بانطلاق ثلاثة مراكب من الشمال بعد كارثتنا".