عام على طوفان الأقصى وحرب غزة... ملاحظات لا بد منها

29 سبتمبر 2024
مياه الأمطار تغمر خيام النازحين في بداية موسم الشتاء (محمود بسام/الأناضول)
+ الخط -

بعد عام على عملية طوفان الأقصى، وردّ إسرائيل بحرب مجنونة، أوقعت نكبة جديدة بغزة وأهلها، ثمة ملاحظات أساسية لا بد منها، خاصة أن نظرة إلى الوراء قد تمكن أكثر من استيعاب المعطيات، واستخلاص العبر تجاه الطوفان والحرب على حد سواء.

بداية، لا يمكن إنكار التخطيط الجيد، وعامل المفاجأة في تنفيذ العملية، ما أدى إلى انهيار كامل بالدفاعات الإسرائيلية، وجيش الاحتلال بأذرعه المختلفة ولساعات عدة، ست على الأقل، مع الإشارة إلى غطرسة المنظومة العسكرية الأمنية واستعلائها كلها، وعدم التعاطي بجدية مع الإنذارات، والاستعدادات أمام أعينها في غزة، بل تعاملت باستخفاف، بل وعنصرية تجاه العرب وقدرتهم على التحدي والمواجهة، في استنساخ أو تحديث لما جرى من المنظومة نفسها في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

بنظرة إلى الوراء، ما كان يجب مهاجمة الأهداف المدنية، وفق القوانين والمواثيق الدولية، ولا أسر مدنيين، أطفال ونساء ومسنين، علماً أن حق المقاومة مكفول للشعب الفلسطيني، حسب المواثيق نفسها.

لا يمكن تجاهل استمرار المقاومة العنيدة، ولو عبر اعتماد حرب عصابات بمجموعات صغيرة متفرقة

دوافع العملية مقبولة وصحيحة، بالتأكيد لجهة رفض التهميش، وتجاوز القضية، وغطرسة الاحتلال، وتوحش الاستيطان، والتهويد في القدس والضفة الغربية، لكن الأثمان باهظة جداً، وبتفكير مختلف هادئ، وبعقل بارد أكثر كان بالإمكان تحقيق الأهداف نفسها بصفر خسائر، كما رأينا في هبة الشيخ جراح، مايو/أيّار 2021، التي أجهضتها معركة سيف القدس، ومكّنت إسرائيل من الاستفراد بالقدس وأهلها، والأسوأ أنه وبنظرة إلى الوراء، وضمن الحسابات والقراءات الخاطئة أيضاً، مثّلت المعركة خطوة مركزية نحو طوفان الأقصى.

إذا كانت الدوافع صحيحة نظرياً، فالحسابات خاطئة بالتأكيد. فالبيئة العربية والإسلامية والدولية غير ملائمة، وببساطة يمكن اختصار ذلك كله بمقولة "لا حرب من دون مصر"، بينما أسقط بشار الأسد الشق الآخر من المقولة، القائل "لا سلام من دون سورية".

وبتفصيل أكثر، تصور المخططون أن إسرائيل لن تبادر إلى شن عملية برية واسعة في غزة، جاء هذا على لسان قادة حماس، وناطقين رسميين، وغير رسميين باسمها، بوهم الاستنتاجات الإسرائيلية مما جرى في حرب 2014، كان الجنرال بني غانتس رئيساً للأركان آنذاك، علماً أن العمل البري لم يكن على جدول الأعمال فيها، رغم وجود الخطط بالإدراج، التي عمل عليها سابقاً وبالتتابع الجنرالات غادي أيزنكوت، ويوآف غالانت، نفسه وبني غانتس بعد ذلك، خضوعاً للتصور السياسي لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، القاضي بإبقاء الانقسام، والفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية شمالاً، وإبقائها تحت الحصار، وإلقاء تبعتها جنوباً على مصر قدر الإمكان.

توقع المخططون كذلك تفعيل وحدة ساحات، من محور المقاومة الوهمي والمزعوم بقيادة إيران، وذراعها الإقليمية المركزية، حزب الله، وهو ما لم يحدث، مع حرب مشاغلة، أو مساندة استعراضية، لتحقيق مكاسب انتهازية، وإخراج سورية وحتى العراق من دائرة المساندة، وهي الدول التي تتبجح إيران باحتلالها ضمن الإمبراطورية الفارسية، التي عاصمتها بغداد، حسب توصيف علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني.

ظن المخططون أن الحرب ستجري وفق سيناريوهات الحروب السابقة، قصف جوي لأسابيع قليلة، بالحد الأقصى من شهر إلى شهرين، بعدها سيتدخل المجتمع الدولي بغرض التوصل لهدنة وصفقة تبادل أسرى، وعودة الواقع الى ما كان عليه قبل الطوفان.

لكن استخدمت إسرائيل، كما كان يعرف أي متابع جدي ودؤوب، الحد الأقصى من القوة الغاشمة، وأوقعت نكبة حقيقية بالفلسطينيين عامة، وقطاع غزة خاصة، وارتكبت جرائم حرب وإبادة جماعية، وفق التوصيفات القانونية الدارجة في أدبيات وخطابات المحافل القضائية الدولية، محكمتي العدل والجنائية.

إذا كانت الدوافع صحيحة نظرياً، فالحسابات خاطئة بالتأكيد. فالبيئة العربية والإسلامية والدولية غير ملائمة

هنا لا يمكن تجاهل استمرار المقاومة العنيدة، ولو عبر اعتماد حرب عصابات بمجموعات صغيرة متفرقة، الأمر غير الغريب على روح الشعب الفلسطيني النضالية، والاستعداد المسبق لـ17 سنة على الأقل. رغم الخسائر الهائلة في صفوف المدنيين، وعدم أخذ حمايتهم بعين الاعتبار، من قبل المقاومة وقيادتها، وهو أمر ما كان يجب أن يحدث أبداً، بأي حال من الأحوال، وتحت أي ظرف.

بالسياق ذاته، ثمة تحايل في تحديد أهداف الحرب من قبل الاحتلال، حيث لا إعلان صريحا ورسميا عن تدمير قطاع غزة، وإيقاع نكبة موصوفة به، وإعادته سنوات بل عقودا إلى الوراء، وجعله غير قابل للحياة، عبر جريمة أو جرائم حرب موصوفة،  مع آلاف الشهداء والمصابين، وملايين النازحين، وتدمير ثلاثة أرباع القطاع، واقتطاع 26% من مساحتها على الأقل.

بالتوازي مع ذلك، تواصلت المراهنات والحسابات الفلسطينية الخاطئة، والمجافية للوقائع، المحلية والخارجية، والتأخر في إيقاف الحرب، مع الرهان على غرق جيش الاحتلال بريا، حتى  يناير/كانون الثاني، مع سيطرته السهلة على الشمال، في أقل من شهر، وخانيونس بنفس المدة تقريباً، وانفجار شهر رمضان بالأقصى، والتداعيات العربية والإسلامية في مارس/آذار، وعلى الحرب الإقليمية، واستعراض إيران في نيسان/إبريل، واجتياح رفح في مايو، ورد الفعل الدولي، والخشية من مذبحة بالمدينة المكتظة، التي كانت تضم مليونا ونصف مليون مواطن. لم  يتحقق أي شيء من هذا للأسف، واستمرت إسرائيل طليقة بالقتل والتدمير، ثم في أواخر يونيو/حزيران، وأوائل يوليو/تموز، غيّرت حركة حماس شروطها، وتنازلت عن شرط التعهد المسبق بوقف الحرب نهائياً، مكتفية  بخلق مسار نحوها، وقبلت بمقترح إسرائيلي، وضعت الأجهزة الأمنية مسودته الأولى نهاية يناير/كانون الثاني، ثم تبناه رسمياً الرئيس جو بايدن، بعد تحديثه،  إثر انتهاء الاحتلال من تنفيذ أجندته، والسيطرة العملياتية الكاملة على  القطاع نهاية مايو.

رغم ذلك تراجع نتنياهو عن المقترح، بعدما أطال الحرب عن عمد، وتلكأ في تنفيذ المراحل التي وضعها جيش الاحتلال منذ بداية الحرب، مع إخراج الخطط من الإدراج، علماً أن الواقع والنقاش الحالي كان يحجب أن نعيشه قبل ستة شهور على الأقل.

والشاهد إن نتنياهو قام بتفجير الصفقة مع السيطرة الكاملة على غزة، والعجز الدولي عن ايقافه، والتضحية عملياً بورقة الأسرى، التي لم تعد ذات جدوى كبيرة بيد حماس. الآن تبدو مطالب نتنياهو الأربعة لافتة، وحتى صادمة، فهي تخفي رغبة أكيدة في العودة إلى صباح اليوم السابق للحرب، وكأن شيئاً لم يكن، أما الخطة ب، فتتمثل بسيناريو لبنان 2006، مع تقديم تنازلات شكلية، لكن مع الاحتفاظ بالقبضة على السلطة الفعلية.

عموما، واضح للأسف، وبعد عام كامل، أن لا تصور فلسطينيا لليوم التالي، ولا تريد حماس الاقتناع أنها لا تستطيع الحكم، حتى مع الفهم أن لا حكم وإدارة لغزة من دونها، وبعيداً عنها، كما لا يريد محمود عباس أن يفهم أنه بات، نظرياً، خارج التاريخ، وعليه المغادرة بأقل الخسائر شخصياً ووطنياً.

في الأخير، وباختصار وتركيز، ما حدث كبير جداً، مع التضحيات الهائلة، وتدمير غزة، كما لم تعد حماس بوضع يسمح لها بالقيادة،  لكن من دون القبول بإزاحتها من المشهد الفلسطيني. بالمقابل يجب علينا استغلال عزلة إسرائيل، وحكومتها اليمينية المتطرفة، وأزماتها البنيوية العميقة، لكنها لا تزال بعيدة عن الانهيار، أقله بالمدى المنظور، خاصة مع تقبل الرواية والمظلومية الفلسطينية، كما رأينا في الأمم المتحدة، وساحات الجامعات، والرأي العام العالمي.

لكن لا يمكن تجيير التضحيات والإنجازات وتسييلها سياسياً، وحتى استراتيجياً لصالحنا من دون إنهاء الانقسام، وتقديم التنازلات المتبادلة، التي كانت ولا تزال مطلوبة، في ظل الاقتناع باستحالة العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر، مع ضرورة السعي  الوطني الجاد لإنهاء الحرب، بكل الوسائل والتضحيات، السياسية والحزبية اللازمة، وتشكيل حكومة توافق جامعة،  تشرف على إعادة إعمار غزة، وإنهاء الانقسام، وتوحيد المؤسسات، وإجراء الانتخابات ضمن سقف زمني محدد، لتشكيل  قيادة ومرجعية وطنية صادقة وموثوقة ونزيهة،  تدير الصراع بحكمة وصلابة وعناد، وفق خيار المقاومة السلمية، في الساحات الواسعة والممتدة، من رفح جنوباً إلى القدس وبروكسل شمالاً، ومن بكين شرقاً الى نيويورك غربا.

المساهمون