- الصراع في مدينة الجنينة تحول إلى حرب عرقية، مع توثيق استخدام المدنيين كدروع بشرية وانتهاكات مروعة، ودعوات دولية لتحقيقات شاملة ومحاكمة المسؤولين.
- جرائم العنف الجنسي، بما في ذلك مئات حالات الاغتصاب من قبل قوات الدعم السريع، تثير قلقاً بالغاً، مع تأكيد على ضرورة إنشاء أجهزة عدلية لضمان العدالة ومحاسبة مرتكبي الجرائم.
يجد السودانيون والسودانيات، منذ بدء الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في 15 إبريل/نيسان 2023، أنفسهم في مواجهة انتهاكات فظيعة صُنّف بعضها كجرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب، وإبادة جماعية. وتصطف قائمة طويلة من الانتهاكات، مثل القتل خارج نطاق القانون، والتهجير القسري، واحتلال المنازل، واغتصاب النساء، والاعتقالات التعسفية، عدا سوء معاملة الأسرى وقطع رؤوسهم أمام كاميرات الهواتف الجوالة، واستخدام المدنيين كدروع بشرية، والتمثيل بالجثث، والتجويع، ونهب الأموال والممتلكات، وغيرها من الجرائم.
واندلعت الحرب في 15 إبريل 2023، انطلاقاً من الخرطوم وشملت عشر ولايات سودانية من أصل 18، وقتل فيها، حسب الاحصاءات الأولية، نحو 15 ألف مدني، وأصيب آلاف آخرون، كما هُجّر أكثر من 8 ملايين شخص من منازلهم، منهم من لجأ إلى مدن آمنة، ومنهم من لجأ لدول الجوار. وتسبب القتال بخروج معظم المستشفيات عن الخدمة وانقطاع العلاج والدواء، مما أدى إلى وفاة مئات الأشخاص، أغلبهم من المسنين وأصحاب الأمراض المزمنة.
ودارت أعنف المعارك في الأشهر الأولى للحرب في مدينة الجنينة، غربي السودان، التي تحولت إلى حرب عرقية بين المجموعات العربية والمساليت، وصنفت الجرائم فيها من قبل منظمات دولية، بأنها جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وإبادة جماعية لقبيلة المساليت، مع سقوط الآلاف. في السياق، يقول أحد سكان الجنينة، عبد الله الذي يكتفي باسمه الأول لأسباب أمنية، إنه شهد كل تلك الجرائم لمدة 58 يوماً قبل اللجوء إلى دولة تشاد المجاورة.
ويستذكر في حديثٍ مع "العربي الجديد" كيف أن قوات الدعم السريع أُغلقت أثناء معارك الجنينة، مداخل المدينة ومخارجها بالكامل، ولم تسمح بالخروج نهائياً. كما أغلقت الأسواق ومصادر المياه وقطعت الكهرباء، فنزح أولاً المواطنون من الأحياء التي شهدت معارك ضارية إلى الأحياء الآمنة، وتقاسموا كل شيء قبل أن ينفد من الجميع كل شيء.
معز حضرة: ما لم تُنشأ أجهزة عدلية قوية بعد الحرب ستستمر الجرائم بحق السودانيين
ويوضح عبد الله أنه بعد مقتل والي ولاية غرب دارفور خميس عبد الله، في 14 يونيو/حزيران 2023، والتمثيل بجثته والطواف بها في شوارع المدينة، قرر إخراج أسرته من المدينة إلى تشاد، فيما بقى هو على أمل عودة الهدوء. ويشير إلى أن قوات الدعم السريع أجبرت العشرات من العاملين بمؤسسات الدولة على العودة للعمل في ظل الظروف الأمنية السيئة، ومن يرفض يصنف بأنه عدو. ووفقاً لعبد الله، فإنه إلى جانب جرائم القتل الممنهج، فقد ارتكبت قوات الدعم السريع انتهاكات أخرى مثل الاعتقال التعسفي لمئات الأشخاص وإذلالهم وإهانتهم وتوجيه إساءات عنصرية لهم، ليقرر بعد ذلك اللحاق بأسرته لاجئاً في تشاد، لكن في رحلة خروجه تعرض لاستجوابات في كل نقاط التفتيش، وتم إجباره على كتابة تعهد بالعودة خلال 48 ساعة.
وفي آخر نقطة ومنها تشاد، تعرض عبد الله لمصادرة كل ممتلكاته الثمينة، وهو ما حدث أيضاً، كما يروي، مع الفارين رفقته من الجحيم. ويلفت إلى أنه بعد وصوله لتشاد ظلت تصل إليه رسائل تهديد، كما تم إغراؤه بالمال، عبر رسائل هاتفية ليعود، فرفض لأنه يحسب أنهم يخططون للغدر به وقتله. قصة عبد الله، صورة مصغرة لانتهاكات تعرض لها مئات الآلاف من السودانيين، وكثير منهم وثق لقصته على مواقع التواصل الاجتماعي ومنهم من لم يستطع فعل ذلك لدواع أمنية، ومنهم من ينتظر الوقت المناسب.
قلق دولي من الانتهاكات
وتثير انتهاكات حرب السودان، قلقاً داخلياً وخارجياً، إذ عكفت منظمات مجتمع مدني على رصدها والتوثيق لها، بينما وضعتها منظمات دولية على أجندتها طوال العام، مثل المفوضية السامية لحقوق الإنسان، والتي أصدرت في فبراير/شباط الماضي آخر تقاريرها، وفيه فصّلت الانتهاكات والتجاوزات المروعة التي ارتكبها طرفا الحرب، بما في ذلك مقتل آلاف المدنيين وتشريد الملايين ونهب الممتلكات وتجنيد الأطفال، والهجمات العشوائية التي شنتها كل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع على مناطق مكتظة بالسكان أثناء القتال.
ولم يتردد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، في القول إن بعض هذه الانتهاكات قد ترقى إلى جرائم حرب، ونادى بالقيام بتحقيقات سريعة وشاملة وفعالة وشفافة ومستقلة ومحايدة في جميع الادعاءات، بشأن الانتهاكات والتجاوزات للقانون الدولي لحقوق الإنسان وانتهاكات القانون الدولي الإنساني، ويجب تقديم المسؤولين عنها للعدالة.
نبيل أديب: حجم الانتهاكات خلال العام الأول من الحرب، كبير جداً
وحول الانتهاكات، يرى نبيل أديب، رئيس لجنة التحقيق في فض اعتصام محيط قيادة الجيش 2019، في حديث مع "العربي الجديد"، أن حجم الانتهاكات خلال العام الأول من الحرب، كبير جداً، ولا يرتبط فقط بانتهاك حقوق الإنسان وحسب، بل يتعداها لمخالفة القانون الدولي الإنساني، ذلك لأن الحرب تحكمها قوانين، أهمها عدم استهداف المدنيين والامتناع عن جرائم الإبادة أو استهداف شخص على أساس النوع. ويوضح أن الحرب في السودان شهدت جريمة احتلال منازل المواطنين، ووصلت إلى حد اغتصاب النساء وممارسة كافة أنواع العنف الجنسي والإبادة في ولاية غرب دارفور "وكل الجرائم يجب حصرها وملاحقة مرتكبيها خصوصاً وأنها جرائم لا تطوى بالتقادم، ولا تبرر بعدم القدرة على القبض على المتهمين".
ويحمّل أديب، معظم الانتهاكات لقوات الدعم السريع، قائلاً إن ما فعلته لا يقارن، كما يرى في انتهاكات الجيش، خصوصاً أن الأولى منظمة ومخطط لها، مبيناً أن اتهام الجيش بقصف المنازل بالطيران غير دقيق، ذلك لأن الدعم السريع حول منزل المدنيين لثكنات عسكرية ما جعل منها هدفاً عسكرياً بالنسبة للجيش. ويوضح أن اتفاقية جنيف الرابعة تبين بوضوح ماهية الهدف العسكري. وتنصّ اتفاقية جنيف الرابعة، الموقعة في 12 أغسطس/آب 1949، على حماية المدنيين في أزمنة الحروب.
وفي رده على سؤال عن إمكانية تجاوز كل الجرائم وعدم معاقبة مرتكبيها إذا توصل الطرفان لاتفاق سلام، يستبعد أديب ذلك بحجة أن الجرائم لا تتصل بالقوانين الوطنية بل بالقانون الدولي الإنساني، الذي يجوز محاكمة المتهمين في أي مكان لأن الجرائم هنا تعد ضد المجتمع الإنساني، وليس ضد الدولة كما في القوانين الوطنية.
من جهته يتفق الناشط القانوني والحقوقي، معز حضرة، مع ما ذهب إليه أديب، حول حجم الانتهاكات التي تشمل كذلك نهب أموال المواطنين وهدم منازلهم وقتل المدنيين والتجويع، لكنه يخشى من تكرار ظاهرة الإفلات من العقاب. ويحمل حضرة في حديث مع "العربي الجديد" أطراف الحرب وقيادة الجيش والدعم ومدنيين وإعلاميين يقول إنهم يشعلون لهيب الحرب، مسؤولية كل ما حدث. وحول ضمانات عدم الإفلات من العقاب، يوضح حضرة، أنه لا توجد للأسف ضمانات، وأن أزمة السودان خلال 30 عاماً من حكم نظام المؤتمر الوطني، وأربع سنوات بعد سقوطه، تتلخص في تجارب الإفلات من العقاب.
وبرأيه، فإنه "ما لم تُنشأ أجهزة عدلية قوية بعد الحرب، سيستمر ذلك الإفلات ومعه يستمر ارتكاب الجرائم بحق السودانيين"، موضحاً أن القضاء والنيابة الآن بعيدة كل البعد عن الاستقلالية، وهما جزء من سلطة الأمر الواقع، بدليل النيابة صمتت دهرا كاملاً، ونطقت أخيراً بفتح بلاغات ضد قيادات القوى السياسية. ويتساءل: لماذا لم تتحرك النيابة بفتح بلاغات ضد منسوبي كتائب شاركت في الحرب، وقامت بقطع الرؤوس، ونبشت القبور، وضد من ينشرون خطابات الكراهية وهي جرائم واضحة جداً، ولماذا لم تتحرك بالقبض على الفارين من السجون من قيادات النظام السابق، ومنهم المطلوبون للمحكمة الجنائية الدولية في جرائم حرب. ويؤكد حضرة وجود خلل عدلي في البلاد لا يترك المجال مفتوحاً أمام عدم تحقيق العدالة لمن تضرروا وانتهكت حقوقهم أثناء الحرب. ويعرب عن أمله في توقف القتال، ومجيء نظام سياسي جديد لتنشأ أجهزة عدلية جديدة تحاكم كل شخص ارتكب جريمة بحق الشعب السوداني.
جرائم العنف الجنسي
وصدم السودانيون من التقارير المتكررة عن وقوع حالات اغتصاب أثناء الحرب. وتكشف شبكة "صيحة"، وهي جسم مدافع عن المرأة في بيان، أن الارتكاب الممنهج لجرائم العنف الجنسي قد أصبح استراتيجية للحرب والتنكيل بالمدنيين والمجتمعات المحلية، مشيرة إلى أنه ليس بالأمر الجديد، فقد تم استخدامه بانتظام في السودان لأكثر من 20 عاماً في قرى وحواضر دارفور، وفي الخرطوم وجنوب كردفان. وتوضح الشبكة أن جريمة العنف الجنسي تصاعد كأداة واستراتيجية من قبل الدعم السريع لقهر المدنيين والسيطرة عليهم، مع تمدد دوائر الحرب في دارفور والخرطوم ومناطق كردفان الكبرى، ولاحقاً وبشكل واسع في قرى الجزيرة ومدنها.
سليمى إسحق: عام الحرب الذي مضى هو عام الهلاك بالنسبة للمرأة في السودان
وتوضح سليمي إسحق، مديرة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة في السودان، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الوحدة وثقت 157 حالة اغتصاب خلال الحرب في الخرطوم ودارفور، ولم تشمل حالات أخرى قد تكون وقعت في ولاية الجزيرة، مبينة أن 98 في المائة من الحالات ارتكبت بواسطة قوات الدعم السريع، التي تزعم أنها تخوض حرباً ضد فلول النظام البائد، في حين ترتكب جرائم بحق نساء.
وتقول إسحق إن عام الحرب الذي مضى هو عام الهلاك بالنسبة للمرأة في السودان، إذ طاولت الحرب جسدها وفقدت ممتلكاتها الشخصية، ولم تحصل على المساعدات الإنسانية، ودخلت دائرة الفقر من بابه العريض، وفقدت منزلها وعاشت في مراكز إيواء غير صالحة وافتقرت لأدوات الحماية. وتعرب عن اعتقادها أن نسب الاغتصاب مرتفعة أكثر من المعلن عنه، لعدم تبليغ بعض الفتيات لأسباب مجتمعية، ولانقطاع شبكات الاتصال في بعض المناطق أو نتيجة التهديد.
وتشير إسحق إلى أن "الدعم السريع" التي تتحمل مسؤولية معظم الحالات، وبعد تزايد الانتقادات المحلية والدولية، اتخذت إجراءات للحد من حالات الاغتصاب خصوصاً في شهري يوليو/تموز وأغسطس 2023، وفعلاً قلّت الحالات لكنها ارتفعت مرة أخرى في الأشهر اللاحقة. وتنفي قوات الدعم السريع ارتكابها لجرائم بالحجم الذي يتحدث عنه البعض، وعدّت الاتهامات بأنها جزء من دعاية الحرب، ومخطط لتشويه سمعته وصورته.
في السياق، يقول المتحدث الرسمي باسم قوات الدعم الفاتح قرشي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن كل الاتهامات مغرضة ولا أساس لها من الصحة، وبلا أدلة بما فيها الاتهامات الصادرة من المنظمات الدولية التي لم تنزل على الأرض منذ بدء الحرب لتحقق ومن ثم تقدم أدلة ملموسة. ويعتبر أن ما يقال عن اغتصابات يرتكبها جنود بقوات الدعم السريع، غير صحيح ولم يصل في مناطق سيطرتهم بلاغ واحد يستدعي قيامهم بتحقيق.
ويقر بتنفيذ قواته لحملات اعتقالات، متى تلقوا معلومات عن تعاون شخص أو مجموعة مع "العدو"، فتحقق معهم، وفي حال ثبتت براءة أي شخص يُطلق سراحه. كما يقر قرشي بدخول قوات الدعم السريع للمنازل الخالية والمهجورة لكنه يرفض الحديث عن احتلالها. ويحيل ذلك إلى "طبيعة الحرب" لأن بعض المناطق، حسب قوله، تتحول لمنطقة عمليات عسكرية، وهو عين ما يفعله الجيش بتحويل المنازل المهجورة لمخابئ، وأكد استعدادهم لإخراج منسوبيهم من أي منزل متى ما رجع إليه صاحبه.
وعن الانتهاكات في ولاية الجزيرة الواقعة تحت سيطرة الدعم السريع، يقول قرشي إنها "من صنع كتائب الإسلاميين واستخبارات الجيش، بارتداء ملابس الدعم السريع وتنفيذ عمليات نهب وسلب وقتل ونسبها للدعم السريع، أيضاً لتشويه صورته"، منبهاً إلى أنهم يسيطرون على أكثر من ولاية ولم يحدث فيها مثل ما يلصق بهم في الجزيرة. ويتحدث عن "استعدادهم للقبول بلجان تحقيق دولية للتحقيق والتقصي حول كل الاتهامات الموجه لهم بشرط أن تكون لجانا محايدة، وليس من الدول التي لها علاقة بفلول النظام البائد".