- تظاهرات طلابية في فرنسا تعبر عن التضامن مع غزة، تواجه برد فعل قوي من السلطات التي تحاول عرقلة حملة حزب ميلانشون، مما يؤدي إلى تنازلات من الحكومة بإطلاق سراح الموقوفين.
- حزب ميلانشون يستهدف أصوات المتضامنين مع غزة، فيما تخشى الحكومة الفرنسية من تكرار سيناريو ثورة الطلاب في 1968، وتحاول التعامل بحذر مع التحركات الداعمة لغزة قبل الانتخابات الأوروبية.
غزة أصبحت أحد عناوين السياسة الفرنسية، ومن بين محركات الوضع الداخلي، في هذه المرحلة. ودخلت أخيراً بقوة على حملة انتخابات البرلمان الأوروبي التي باتت على الأبواب (المقرّرة مبدئياً من 6 إلى 9 يونيو/حزيران المقبل). وكلما اقترب موعد الانتخابات الأوروبية في السادس من الشهر المقبل، ارتفع منسوب الحرارة والتوتر. وفي سياق موازٍ، تبحث الحكومة الفرنسية عن دور، يحفظ الحد الأدنى من حضورها السياسي في منطقة الشرق الأوسط، وهذا هو سبب جولات وزير الخارجية ستيفان سيجورنيه، إلى كل من لبنان والسعودية وإسرائيل ومصر، الأسبوع الماضي، تحت عنوان الوساطة للتوصل إلى تهدئة بين لبنان وإسرائيل، ومنع تصعيد المواجهات الحدودية مع حزب الله إلى حرب شاملة.
تضييق على حزب ميلانشون
وعرفت الأيام الأخيرة حدثين مهمين، يعبّران عن مدى حضور الحرب على غزة في فرنسا. الأول هو، التظاهرات التي شهدتها بعض الجامعات الفرنسية، خصوصاً معهد الدراسات السياسية (سيانس بو) وجامعة السوربون. وبرز في الأول أن الطلبة المتضامنين مع غزة كانوا أكثر تنظيماً واستعداداً من أجل إيصال صوتهم، وشكّلت تظاهراتهم مفاجأة كبيرة للسلطات الرسمية، وبعثت أكثر من رسالة في اتجاهات عدة. الرسالة الأولى هي إبداء التضامن مع زملائهم في الجامعات الأميركية، الذين يخوضون مواجهة واسعة ومفتوحة مع مسؤولي الجامعات والسلطات الرسمية، والتي ردت باعتقالات واسعة واقتحامات لأكثر من جامعة. هذا الأمر شكّل سابقة خطيرة، كان لها دور في انخراط جامعات على امتداد العالم في الحراك الطلّابي العالمي، كما هو الحال في بريطانيا، واليابان، والمكسيك، وأستراليا.
تحاول السلطة عرقلة حزب ميلانشون عن القيام بحملة انتخابية واسعة، وحشد الناخبين للتضامن مع غزة
والرسالة الثانية هي ضرورة تحرك القطاع الطلابي في العالم، لما له من تأثير على أصحاب القرار السياسي ووسائل الإعلام، التي تمارس انحيازاً إلى جانب اسرائيل. والثالثة هي التضامن المفتوح مع أهل غزة، والتنديد بحرب الإبادة، وحثّ المجتمع المحلي على التحرك، ولذلك لم تقتصر حركة طلاب "سيانس بو" على التظاهر داخل الحرم الجامعي، بل خرجت إلى وسط الشارع في بوليفار سان جيرمان الباريسي، في منطقة تقع وسط العاصمة الفرنسية، وفي أكثر أحيائها حيوية.
الحدث الثاني هو استدعاء الشرطة الفرنسية للنائبة البرلمانية عن حزب فرنسا غير الخاضعة (اليسار الراديكالي بقيادة جان لوك ميلانشون) ورئيسة المجموعة البرلمانية للحزب ماتيلد بانو، والمرشحة على لائحة الحزب للانتخابات الأوروبية، وهي من أصول فلسطينية، المحامية ريما حسن التي تتعرض لحملة إعلامية واسعة من القوى السياسية ووسائل الإعلام الموالية لإسرائيل. والتهمة جاهزة لهذه الشابة الفلسطينية، "معادية للسامية"، والتحريض عليها من هذا المنطلق، بعد أن صارت تحظى بشعبية واسعة، بفضل تصريحاتها الجريئة، وقدرتها على التعبير عن مواقفها السياسية ببراعة، وشجاعتها في الاستمرار، وعدم خضوعها للترهيب.
التهمة "تمجيد الإرهاب"، وعلى هذا شكّل حادث استجواب النائبة البرلمانية والمرشحة للبرلمان الأوروبي حدثاً مهماً، اعتبره حزب فرنسا غير الخاضعة، "استغلالاً للقضاء لمصالح خاصة"، مؤكداً أن السلطات تجعل الحزب "يدفع ثمن دعمه للفلسطينيين وتوصيفه الوضع في غزة بالإبادة الجماعية". ورأى الحزب في الاستجواب فضيحة سياسية "هي المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة التي يتم فيها استدعاء رئيسة لكتلة من المعارضة في الجمعية الوطنية (البرلمان) لسبب بهذه الخطورة". وندّد الحزب بانحياز القضاء، خصوصاً من جانب وزير العدل إيريك دوبون موريتي الذي يتهمونه بأنه تلقى إشارة من أعلى السلطات للهجوم على الحزب داخل البرلمان واتهامه بأنه على صلة مع "ملالي إيران"، على حدّ تعبيره. وضمن نهج عرقلة الحزب عن القيام بحملة انتخابية واسعة، وحشد الناخبين للتضامن مع غزة، تمّ إلغاء ندوتين لمؤسس الحزب جان لوك ميلانشون حول الوضع في الشرق الأوسط في مدينة ليل، في خطوة اعتبرها الأخير "استغلالاً للسلطة في جمهورية الموز".
ساومت الحكومة الفرنسية طلبة العلوم السياسية وخضعت لمطالب المحتجين، بالإفراج عن الموقوفين من زملائهم، ووقف الملاحقات ضدهم، وسحب قوات مكافحة الشغب من محيط المعهد، وهذا ما أتاح استمرار التضامن والتحركات داخل الحرم الجامعي، من أجل خلق حالة احتجاجية تشمل بقية الجامعات. وتبيّن أن سبب عدم استخدام القوة لفضّ الاعتصامات داخل المعهد يعود إلى أن الأغلبية الطلابية تؤيد الحراك الطلابي والتضامن مع غزة، كما أن السلطات تتخوف من أن يؤدي ذلك إلى تصاعد الاحتجاجات في بقية الجامعات الفرنسية، بعد أن امتد الحراك إلى خارج باريس.
يراهن حزب ميلانشون على أصوات المتضامنين مع غزة ومناهضي إسرائيل واليمين المتطرف والضواحي
غير أن تصرّف الحكومة على نحو هادئ أثار ردود فعل غاضبة لدى مؤيدي إسرائيل، ووصفوه بالمتهاون، وهو على ما يبدو حرّك وزارة الداخلية كي تتدخل على نحو أشد صرامة في بقية الجامعات، خصوصاً السوربون، التي اقتحمت ساحتها وفككت خيام الاعتصام واعتقلت مجموعة من الطلبة. وأدت حملة التحريض ضد المعهد إلى تعطيل الدراسة، واعتصام الطلبة داخله وبدء حركة إضرابات عن الطعام.
غزة تفرض نفسها في الانتخابات الأوروبية
يبدو شهر مايو/أيار الحالي حافلاً بالتطورات، ويلوح في الأفق شبح إعادة سيناريو ثورة الطلاب في مايو 1968، التي غيّرت فرنسا، وأسقطت حكم الجنرال شارل ديغول، ولذا تتخوف الحكومة الفرنسية من أن يتطور الموقف إلى أكثر من حالة التضامن مع غزة، وبما يتجاوز الحالة الأميركية. وهناك قلق من انضمام أطراف سياسية ونقابية إلى الحراك التضامني، وحصول احتجاجات كبيرة، خصوصاً أن الوضع العام مهيأ لذلك. وأحد مصادر القلق الرسمي أن تحصل اضطرابات تؤدي إلى إفساد الحدث الكبير الذي تنتظره فرنسا منذ أعوام عدة، وهو الألعاب الأولمبية المقررة في يوليو/تموز المقبل، والذي تراهن أن يجتذب ملايين السيّاح.
تبدو المسألة على درجة عالية من التعقيد، وتتطلب قدراً كبيراً من الحذر في التعامل مع التحركات حتى لا يحصل حدث غير محسوب، يقود إلى تصعيد التوتر أكثر مما هو عليه، لكن تبقى الحسابات نظرية أمام موقف يزداد سخونة، بسبب استعدادات الانتخابات الأوروبية التي تبدو نسختها هذا العام أكثر حرارة وتسييساً من الدورات الماضية. وكانت التوقعات في أن تتصدر العناوين الأوروبية فقط شعارات حملة الانتخابات الأوروبية وفي درجة ثانية حرب روسيا على أوكرانيا، ولكن الحرب على غزة فرضت نفسها، وهي آخذة في أن تصبح العنوان الرئيسي لدى بعض الأحزاب، خصوصاً حزب فرنسا غير الخاضعة الذي يقوده ميلانشون، والذي زادت شعبيته في الأشهر الأخيرة، بفضل تبنّيه قضية الدفاع عن غزة في وجه المواقف المؤيدة لإسرائيل الرسمية، وغير الرسمية، ولهذا يجد نفسه وحزبه وسط المعمعة، وتبدو الانتخابات الأوروبية امتحاناً أساسياً بالنسبة إليه ولخصومه.
يخوض الحزب امتحان الانتخابات الأوروبية وهو يراهن على أصوات قطاعات واسعة تتمثل في المتضامنين مع غزة، ومناهضي سياسات إسرائيل واليمين العنصري المتطرف، بالإضافة إلى الضواحي التي تعاني من التمييز. وتعد هذه الكتلة كبيرة، ومتماسكة أكثر من بقية الكتل الانتخابية المؤيدة للتيارات الأخرى، وإذا تم تجييشها وجذبها نحو صناديق الاقتراع، يمكن لها أن ترجح كفة حزب ميلانشون، ليس فقط في الانتخابات الأوروبية، وإنما في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في عام 2027. واللافت أن هذه الكتلة تبدو للمرة الأولى أنها تلتقي حول أهداف سياسية على هذا القدر من الأهمية والوضوح، ولذلك يجري حسابها بقوة.
يلوح في الأفق شبح إعادة سيناريو ثورة الطلاب في مايو 1968 التي أسقطت حكم ديغول
يعمل خصوم هذا الحزب على قطع الطريق أمامه كي لا ينجح في الامتحان، وأولهم تيار الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي يحاول أن يعيد تنظيم صفوفه كي يواجه الاستحقاقات السياسية المقبلة بمرشحين يحققون الفوز، خصوصاً البرلمانية والرئاسية، وهو حتى الآن لا يمتلك وجوهاً تحظى بالحضور الشعبي وقادرة على المنافسة، لاسيما في ما يتعلق بالرئاسة، التي لا يحق لماكرون أن يترشح فيها من أجل ولاية ثالثة. وضمن هذا التوجه جاء الخطاب الذي ألقاه ماكرون في جامعة السوربون في الخامس والعشرين من شهر إبريل/نيسان الماضي، وحاول من خلاله تقديم تياره على أنه يمثل العقلانية في السياسة الفرنسية، وخاطب الفرنسيين بلهجة تحثهم على الابتعاد عن تياري حزب ميلانشون، وحزب التجمع الوطني الذي تتزعمه مارين لوبان، وهو يمثل اليمين العنصري المتطرف. وكلاهما يشكل خطراً على تيار ماكرون الذي يفتقد هوية سياسية واضحة، ومشروعاً مستقبلياً تلتف حوله شريحة واسعة من الناخبين.
والتيار الثاني هو اليمين المتطرف الذي يعد ميلانشون وحزبه المنافس الأساسي له، بعد أن خلت الساحة من قوة سياسية منظمة، تحظى بالتفاف شعبي، وتطرح شعارات سياسية تحرك الشارع، من أجل قضايا محلية وخارجية.
من الواضح أن هناك سياسة رسمية لوضع الحواجز أمام هذا الحزب من أجل عرقلة تقدمه على طريق تحقيق مشروعه، ولهذا السبب حصلت عملية الاستدعاء من قبل الشرطة لكل من رئيسة المجموعة البرلمانية لـ"فرنسا غير الخاضعة" ومرشحة الانتخابات البرلمانية، ريما حسن. وقد يتطور هذا الإجراء إلى ما هو أكثر صرامة، ومن هنا حتى الانتخابات الأوروبية ربما تحصل مفاجآت عدة.
على صعيد التحركات السياسية الخارجية، انتهت زيارة وزير الخارجية الفرنسي الشرق أوسطية إلى مبادرة تتضمن حلاً على ثلاث مراحل، تبدأ بوقف العمليات العسكرية وإعادة النازحين اللبنانيين والإسرائيليين، وإطلاق مسار تفاوضي يستنسخ "تفاهم نيسان 1996"؛ وذلك لـ"تثبيت الاستقرار على ضفتي الحدود" بشكل كامل ونهائي.