كان سؤال الديمقراطية مطروحاً دائماً على جدول الأعمال الفلسطيني، أقلّه منذ انطلاق الثورة المعاصرة، منتصف ستينيات القرن الماضي، لكن اختلفت درجة تموضعه خلال السنوات والعقود السابقة، قياساً إلى احتدام الصراع والاشتباك مع إسرائيل وأنظمة عربية أخرى، ثم في حالات التهدئة أو الهدنة معها، التي باتت القاعدة في السنوات الأخيرة، ولو رسمياً وحزبياً وفصائلياً، فيما يعتبر الشعب الفلسطيني نفسه في حالة مقاومة واشتباك دائم مع الاحتلال، كما ينبغي أن يكون.
قادت منظمة التحرير النضال والصراع مع إسرائيل منذ تأسيسها في القدس عام 1964، كانت قيادتها ديمقراطية وجماعية عند تأسيسها برئاسة أحمد الشقيري، قبل أن يتولى قيادتها الجيل الفدائي الشاب. هنا لا بد من الانتباه إلى أن المنظمة، وخاصة في مرحلة ما بعد الشقيري، استنسخت منظومة الاستبداد والفساد العربية، بشكل ناعم في البداية، نظراً للخصوصية الفلسطينية واستحالة أن يحكم النظام الرسمي قبضته في ظل التنوع والتعدد فكرياً وسياسياً وحزبياً، ثم بشكل فظ بعد ذلك، كما نرى الآن في تجربة السلطة الفلسطينية.
في الحقيقة، لم نملك يوماً ديمقراطية، سكر زيادة، كما كان يقول الشهيد ياسر عرفات دائماً، لكون هذا مستحيلاً أصلاً في غابة البنادق، بل كان لدينا استبداد مخفف "لايت"، ثم أصبح كامل الأوصاف مع تأسيس السلطة منتصف تسعينيات القرن الماضي، وفجّاً أكثر وأكثر بعد رحيل أبي عمار نفسه في عام 2005.
بتفصيل أكثر، مع انطلاق الثورة المعاصرة، واعتمادها الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، ومعاركها المتنقلة من الأردن إلى لبنان، لم يطرح السؤال الديمقراطي بقوة، نظراً لإعجاب قيادات فلسطينية كثيرة بتجارب سلطوية وحزبية عربية استبدادية وغير ديمقراطية، على اعتبارها ثورية وملائمة لتحرير فلسطين، أيضاً؛ نتيجة احتدام المعارك مع الاحتلال الإسرائيلي والأنظمة العربية الرجعية، حسب التعبير آنذاك، كان العصب الوطني مشدوداً، والحماسة الثورية في ذروتها، إضافة إلى حضور جيل قيادي تاريخي، امتلك شرعية ومناقبية، إذ كان ملتصقاً أو ملتحماً مع الجماهير، خاصة مع حياة الزهد والتقشف والبساطة، وبالطبع الثورية، التي عاشها ذلك الجيل، أو على الأقل الغالبية العظمى منه.
هنا لا بد من الإشارة إلى افتقاد مختلف الفصائل آليات عمل ديمقراطية مؤسساتية شفافة ونزيهة، وبالطبع داخل منظمة التحرير، باعتبارها النظام السياسي الفلسطيني الرسمي، الذي استنسخ منظومة الحكم العربية، التي ازدادت فساداً واستبداداً مع الوقت، إثر الانقلابات العسكرية المتتالية، وانحسار مساحة الديمقراطية والشفافية والحكم الرشيد في العالم العربي.
مع ذلك، يبدو لافتاً جداً، أن الديمقراطية حضرت في أول محاولة فلسطينية جدية لطرح رؤية أو برنامج سياسي لحلّ الصراع مع المشروع الاستعماري الصهيوني، عبر طرح فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين، إذ بدا الأمر متقدماً عن المشهد العربي الاستبدادي آنذاك، وبالتأكيد لم يكن مقصوداً بالمصطلح تجارب كوريا الشمالية والكتلة الشيوعية الديمقراطية شكلاً واسماً.
مثّل الخروج من بيروت عام 1982 نقطة مفصلية في الثورة المعاصرة والتاريخ الفلسطيني، إذ بدا يغلق صفحة ويفتح أخرى جديدة، ولو إكلينيكياً ونظرياً، قبل أن يصبح الأمر رسمياً وعملياً مع الانتفاضة الأولى عام 1987، واتفاق أوسلو عام 1993، والانتفاضة الثانية في عام 2000.
مرحلة ما بعد بيروت شهدت الاقتتال الفلسطيني الداخلي، ما أعاد سؤال الديمقراطية والحاجة الماسة إليها، خاصة مع رحيل معظم رموز جيل المؤسسين التاريخيين، ونشوء جيل شاب جديد في حركة فتح والساحة الفلسطينية عامةً، سعى لإيجاد موطئ قدم له في القرار الحزبي والوطني العام.
بعد بيروت، كانت محطة اتفاق أوسلو هي الأهم، إذ كان الخروج من العاصمة اللبنانية أحد أسباب اندلاع الانتفاضة الأولى، فيما كان أوسلو نفسه سبباً مباشراً لاندلاع الثانية، من زاوية ديمقراطية، لا شك أن الاتفاق ما كان يمرّ في بيئة مؤسساتية شفافة ونزيهة.
من هنا بدأنا نشعر بخسائر أو ضريبة غياب الديمقراطية، خاصة مع تأسيس السلطة، التي قيل إنها ستنقلنا من مرحلة التحرر الوطني وغابة البنادق إلى الدولة والاستقلال وتقرير المصير، غير أنها لم تكن سوى استنساخٍ فظٍّ وخشنٍ لأنظمة الحكم العربية المستبدة، والمترهلة والفاسدة والفاشلة.
بالطبع، لم يعد أحد يتحدث عن ديمقراطية سكر زيادة، بل عن استبداد موصوف، ولو بدرجة أقل في بدايات السلطة الأولى، نظراً إلى البعد الزعامي التاريخي، في شخصية الشهيد عرفات، وافتقاد خلفه محمود عباس لهذا البعد، كما للكاريزما والشعبية التي تمتع بها سلفه.
قياساً على ما سبق، مثّل غياب الديمقراطية وعجز السلطة عن بناء مؤسسات الحكم الرشيد أحد أهم أسباب الاقتتال الداخلي عام 2007، الذي ما زلنا نعاني آثاره حتى الآن، ويبدو أنه يتعمق أكثر مع الزمن.
بدا الاقتتال والانقسام نفسه تجسيداً لقاعدة "بعد المستبد هناك دائماً حرب أهلية"، لم تكن فلسطين استثناءً، حيث حدث هذا في عديد الدول العربية والأفريقية، كالصومال والعراق وليبيا وزائير وأفريقيا الوسطى وأوغندا، حتى في آسيا وأميركا اللاتينية.
في غياب الديمقراطية، بات الترهل يضرب عميقاً داخل السلطة والقيادة الرسمية، حتى الفصائل والطبقة السياسية بشكل عام، ربما أهم ما يجري الآن فلسطينياً هو القناعة التامة والجامعة أن الديمقراطية والانتخابات هي سبيل الخلاص من الواقع الراهن، ووسيلة إنهاء الانقسام المثلى، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس شفافة نزيهة وسليمة.
فلسطينياً، ستؤدي الديمقراطية حتماً إلى نقاش أكثر شفافية وجدية ومسؤولية، وبالطبع أكثر حكمة بما يخص وسيلة إدارة الصراع مع إسرائيل المثلى، بعيداً عن نموذجين غير ديمقراطيين، العسكرة التي دمرت غزة وأعادتها سنوات، بل عقوداً إلى الخلف، واللهاث خلف سراب التسوية والتنسيق في الضفة الغربية، هما عاملان أساسيان أديا إلى الاقتتال والانقسام.
ليس بعيداً عن فلسطين، في ما يتعلق بمسألة الديمقراطية في العالم العربي، لا بأس من التذكير بأنظمة الاستبداد والفساد، التي فشلت في تحرير فلسطين، ووصلت إلى السلطة عبر انقلابات عسكرية، على ظهور الدبابات، بحجة إزالة آثار النكبة الأولى 1948، بعد عقدين سبّبت نكبة ثانية/النكسة 1967، أضاعت كل فلسطين، حين أدت هذه النكبة/النكسة، ضمن تداعياتها الاستراتيجية الهائلة، إلى اعتبار السلام مع إسرائيل خياراً استراتيجياً عربياً، فهو نتاج تمسك أنظمة الاستبداد بالسلطة.
ببساطة، هم لم يتغيروا، بل غيّروا القضية كثيراً، فضلاً عن كارثة الانقلابات العسكرية بعدها، التي أجهضت ديمقراطية كاملة في السودان، وواعدة في ليبيا، وأخرى جزئية أو منقوصة، ولكنها قابلة للإصلاح في لبنان.
بدأت مرحلة عربية جديدة مع الثورات الأصيلة عام 2011، التي أكدت جدوى وأهمية وإلحاح الديمقراطية عربياً وفلسطينياً، مع أخذ حروب غزة الثلاثة مثالاً وقياساً، استمرت حرب غزة الثانية 2012؛ عندما كانت عربة الثورة العربية على السكة الصحيحة، أسبوعاً واحداً فقط، جاءت بعد حرب 2008، زمن الأنظمة الساقطة/الفلول القدامى، التي دامت ثلاثة أسابيع، قبل حرب 2014، في ظل الأنظمة الساقطة التي يراد إعادة تحديثها وإنتاجها، التي دامت سبعة أسابيع، هذا مثال أو برهان، لا يمكن التشكيك فيه، على أهمية الديمقراطية عربياً كما فلسطينياً.
في الأخير، باختصار وتركيز، وبناءً على المعطيات السابقة، يمكن الاستنتاج أن شعوب أنظمة ودول حرة فقط، يمكن أن توفر أو تساهم في توفير الحرية لفلسطين. ببساطة، من فشل ويفشل في امتحان، بل امتحانات الخبز والحرية والكرامة، لا يمكن بالضرورة أن ينجح في امتحان الأمة الأهم والأصعب في فلسطين.