فنلندا توسع حدود الأطلسي مع روسيا

10 ابريل 2023
جدار من الأسلاك على الحدود الفنلندية الروسية (أليساندرو رامباتزو/فرانس برس)
+ الخط -

اختصر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، على نحو تهكمي، مسألة انضمام فنلندا إلى حلف شمالي الأطلسي، بتوجيه الشكر إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "لأنه سرّع أمراً كان يريد تفاديه عبر إعلان الحرب على أوكرانيا" في 24 فبراير/شباط 2022. ويعكس تصريح الوزير الأميركي بدقة أهمية حصول الدولة الاسكندنافية التي تتشارك مع روسيا حدوداً بطول 1300 كيلومتر، المقعد الحادي والثلاثين بالحلف في ذكرى تأسيسه في 4 إبريل/نيسان 1949.

ما قصده بلينكن هو أن حرب روسيا على أوكرانيا جاءت بنتائج غير محسوبة، لجهة أن أحد أهداف بوتين في منع انضمام أوكرانيا للأطلسي، فتح الباب أمام عضوية فنلندا، التي جاءت كنتيجة مباشرة للحرب على أوكرانيا.

ولو لم تعلن روسيا الحرب على أوكرانيا، لما سارعت فنلندا في اتخاذ هذا القرار الصعب الذي تجنبته على الدوام بسبب جوارها لروسيا، والذي أملى عليها نمطاً قاسياً من الحياد بين الشرق والغرب في فترة الحرب الباردة (1947 ـ 1991).


عاشت فنلندا الحرب الباردة في حالة حياد وتوازن بمواجهة الاتحاد السوفييتي

في أواخر أغسطس/آب الماضي، شهدت هلسنكي الاجتماع السنوي لرؤساء البعثات الدبلوماسية، وكان على جدول الأعمال الغزو الروسي لأوكرانيا، وقرار فنلندا التقدم بطلب للحصول على عضوية الأطلسي. وظهر أن الحرب الروسية فتحت المجال أمام مخاوف جدية على أمن فنلندا، التي لم يكن أمامها من خيار سوى المظلة الأطلسية.

ولم تكن هلسنكي قلقة من غزو روسي وشيك، واتخذت قرار التقدم إلى عضوية الأطلسي بعد أشهر قليلة من توغل القوات الروسية داخل أوكرانيا، وذلك في سياق الإدارة الاستباقية للمخاطر، التي فرضت النظر للتهديد الروسي من منظور مختلف بعد فبراير 2022، لا يمكن أمامه الركون فقط إلى قوة الدفاع الذاتي، وما توفره من حماية قواعد النظام الدولي، والتعاون الدفاعي الوثيق مع الأطلسي.

علاقة فنلندا بروسيا

بقيت علاقة فنلندا ملتبسة مع جارتها القريبة جداً روسيا، خلال فترة الاتحاد السوفييتي وما بعد انهياره (1917 ـ 1991)، وتراوحت بين الخوف، وانعدام الشعور بإمكانية بناء علاقة طبيعية. وهناك شعور لدى الرأي العام وفي وسائل الإعلام في فنلندا بأن أصحاب القرار في هلسنكي، لم يتصرفوا على أساس ما تمثله روسيا من مخاطر وخاصة منذ نهاية الحرب الباردة.

وكان صدى ذلك ملحوظاً في خطاب رئيسة الوزراء المنتهية ولايتها سانا مارين في اجتماع رؤساء البعثات، حين أوضحت أنه كان ينبغي لفنلندا أن تستمع عن كثب إلى دول البلطيق (ليتوانيا، لاتفيا، إستونيا) في ما يتعلق بروسيا.

عاشت فنلندا الحرب الباردة في حالة حياد وتوازن بمواجهة الاتحاد السوفييتي، ما جعلها بعيدة عن موسكو، وليست قريبة جداً من الغرب. وحين انهار الاتحاد السوفييتي تبين مدى هشاشة الاتفاقية التي وقعتها تحت الضغط في عام 1947 (معاهدة باريس للسلام التي تخلت فيها فنلندا عن منطقة بتسامو في القطب الشمالي للاتحاد السوفييتي بعد الحرب بين البلدين).

ولذلك استبدلت طائرات سلاح الجو السوفييتية بطائرات أميركية حربية، وانضمت إلى برنامج الشراكة من أجل السلام التابع لحلف الأطلسي في عام 1994 والاتحاد الأوروبي في عام 1995.

تواجه فنلندا دولة (روسيا) تعتمد عقيدتها العسكرية على الأسلحة النووية. التهديد الحقيقي لفنلندا والسويد ليس الاحتلال، كما هو الحال بالنسبة لدول البلطيق، ولكنه شيء أكثر خطورة، وهو اندلاع صراع عسكري أوروبي كبير.

هذا هو السبب في أن تهدئة روسيا هي المهمة الأوروبية الرئيسية من وجهة نظر فنلندية. الأطلسي يشكل الآن مظلة حماية لفنلندا، لكنها لا تستطيع تحمل روسيا كعدو أيضاً، في وقت لا يمكن لها أن تستمر في طريقها التقليدي أكثر من ذلك.

وجدت هلسنكي أن ما يوفر لها الأمن الكافي هو المادة الخامسة من ميثاق حلف شمالي الأطلسي (مادة تنصّ على دفاع كل أعضاء الأطلسي عن دولة تتعرّض لاعتداء) والردع النووي.

ولم تكن مخاوف فنلندا بالضرورة من مواجهة عسكرية مباشرة وشاملة مع روسيا، بل من إضعاف كبير لموقعها الجغرافي السياسي، من خلال تهديد عسكري أو هجين روسي محدود من أجل استيعاب هلسنكي في مدار موسكو. ولذلك جرى النظر إلى تهديدات بوتين بمنع المزيد من توسع الأطلسي على أنها تحد من سيادة فنلندا.


يعتبر أقطاب السياسة الخارجية الفنلندية، روسيا بأنها "المعضلة غير القابلة للحل"

من الناحية النظرية، وفي ظل موازين القوى الحالية ستمنع عضوية فنلندا في الحلف سيناريوهات مثل السيناريو المذكور أعلاه، في وقت كان قرار السعي للحصول على عضوية الأطلسي يتعلق بحاجة فنلندا إلى إدارة علاقتها مع روسيا، وهو مرتبط بتقليد هلسنكي الطويل حول كيفية التعايش مع جارتها الشرقية والتهديد المحتمل الذي قد تشكله.

أما من الناحية الفعلية، فإن روسيا تشكل تهديداً دائماً لفنلندا، التي دارت سياستها الأمنية حول هذا السؤال منذ ما يقرب من مائة عام. ويعتبر أقطاب السياسة الخارجية الفنلندية، روسيا بأنها "المعضلة غير القابلة للحل"، ولذا لا توفر عضوية الأطلسي الأمن لفنلندا، خصوصاً أن الرئيس الروسي يبدو مستعداً لشن حرب مفتوحة على الدول المجاورة له.

بغض النظر عن نتيجة الحرب في أوكرانيا، من المؤكد أن العلاقات بين موسكو وهلسنكي لن تعود إلى ما كانت عليه من قبل. ومنذ إعلان حرب روسيا على أوكرانيا شهدت العلاقات الفنلندية الروسية حالة انهيار تاريخي، وبلغت حدّها الأدنى، ثم انقطعت العلاقات الاقتصادية، وتضاءل التفاعل الثقافي والمدني.

وعلى حد قول الرئيس الفنلندي سولي نينيستو، لم يتبق الكثير من علاقة فنلندا السابقة بروسيا، إذ تلاشت الثقة ولا يوجد شيء في الأفق يمكن أن تؤسس عليه بداية جديدة. وكان نينيستو بين عامي 2012 و2022، التقى أو عقد اجتماعاً هاتفياً مع نظيره الروسي أكثر من 40 مرة. وجرت آخر مكالمة هاتفية بينهما في مايو/أيار الماضي، حين ناقش الاثنان طلب فنلندا الخاص لعضوية الأطلسي.

انضمام فنلندا إلى عضوية الأطلسي، يحتم عليها أن تواجه في علاقتها مع روسيا وضعاً مختلفاً، عن ذلك الذي عاشته منذ استقلالها عنها في عام 1917. أول المتغيرات هو أن العلاقات الثنائية بين البلدين، ستسير في سياق جديد على أساس أن فنلندا جزء من الأطلسي، وبدورها روسيا لن ترى فيها الدولة الجارة ما قبل الأطلسية.

وتشير التقديرات إلى أن فنلندا ستظل منشغلة بإدارة علاقتها مع روسيا، في الوقت الذي ستشكل فيه حليفاً موثوقاً يدعم النهج الصارم للأطلسي، خصوصاً في ظلّ التهديد الروسي لأوروبا. مع الأخذ في عين الاعتبار أن علاقة فنلندا بروسيا مختلفة عن أوروبا، لأن هلسنكي لم تلغ التجنيد الإجباري ولم تخفض قواتها الدفاعية.

وهذا دليل على أن فنلندا كانت دائماً مستعدة للتهديد الروسي. وعندما تدهور الأمن الأوروبي بعد عام 2014 بسبب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية، ظلّت فنلندا جاهزة لأي تهديد.

توسيع حدود الأطلسي

شكل الجوار الروسي معضلة تاريخية كبيرة بالنسبة لفنلندا التي عاشت قرابة قرنين تحت سيطرة الإمبراطورية الروسية، ومع انضمامها إلى الأطلسي ستنعكس المعادلة، لتصير هذه الدولة مشكلة روسيا الأطلسية الأولى لاعتبارات كثيرة، أبرزها الاشتراك بحدود هي الأطول بين روسيا ودولة أوروبية وأطلسية.

وستواجه فنلندا الأطلسية روسيا أكثر تهديداً، وهذا واضح من تصريحات المسؤولين الروس، ولكن من غير المرجح أن تسير هلسنكي في طريق التصعيد، وهذا لا يعني أنها ستخضع لإملاءات موسكو أو تتوقف عن دعم كييف، وسيكون نهج فنلندا تجاه روسيا في المستقبل نابعاً من حقيقة أنها لا تستطيع الهروب من الحدود المشتركة التي يبلغ طولها 1300 كيلومتر.


من غير المرجح أن تسير هلسنكي في طريق التصعيد

يبلغ طول حدود روسيا مع أوكرانيا حوالي 2300 كيلومتر، ولكنها ليست بذات التأثير الاستراتيجي، الذي تشكله الحدود مع فنلندا، كون الأخيرة دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي الذي بات يمتلك حدوداً طويلة وعلى مسافة قريبة من الحواضر الروسية الكبرى ومنها سان بطرسبورغ، التي لا تبعد أكثر من 170 كيلومتراً عن أقرب نقطة حدودية فنلندية في مدينة لابينرنتا.

وعلى هذا النحو، فإن الضرورات التي جلبتها الجغرافيا والجهود المبذولة لتجنب التصعيد ستكون جوهر علاقة فنلندا مع روسيا. ومع ذلك، يجب ترك اتصالات فنلندا الوثيقة والفعالة السابقة مع روسيا في أوج قوتها على الرف في الوقت الحالي.

تمتلك فنلندا إرثاً قوياً في تجنب المخاطر، والبحث عن المصالح المشتركة، وتعزيز الترابط الاقتصادي الإيجابي. وعلى المدى الطويل، لا تستطيع تحمل خسارة هذا الإرث. إلا أن الحرب الحالية التي تشنها روسيا على أوكرانيا ستجبرها على الاستثمار في الردع العسكري على المستوى الوطني وفي حلف شمال الأطلسي.

تبدو الصورة من الجانب الفنلندي سوداوية في ما يتعلق بمستقبل العلاقات مع روسيا، ومثال على ذلك ما جاء في صحيفة "لوموند" الفرنسية، التي نقلت عن كاري ليوهتو المتخصص في شؤون روسيا ومدرس إدارة الأعمال الدولية في جامعة توركو في جنوب غربي فنلندا، والذي قام، منذ بداية الحرب في أوكرانيا، بتغيير بعض الخرائط التي يستخدمها في محاضراته: "لقد أزلت روسيا، لأظهر لطلابي أنه خلال العقدين المقبلين على الأقل، لم يعد من الممكن اعتبارها شريكاً اقتصادياً، بل مجرد تهديد أمني فحسب".

المساهمون