شكل إعلان الجزائر أول من أمس الثلاثاء قطع العلاقات مع المغرب ذروة التصعيد بين البلدين بعدما هيمن التوتر بينهما طيلة الفترة الماضية. ويحدث قطع العلاقات للمرة الثانية، وهذه المرة بقرار جزائري بعدما كان في المرة الأولى عام 1976، بقرار مغربي. وفي المجمل، لا تكاد العلاقات الجزائرية المغربية تتلمس طريقاً لحل الخلافات، حتى تعيد التصريحات السياسية الأزمة إلى نقطة الصفر، إلا أن قرار الجزائر أول من أمس يطرح أسئلة عدة؛ أهمها حول الجدوى من قطع العلاقات، خصوصاً أن مجريات الأحداث على مدى العقود الماضية أثبتت أن استمرار القطيعة إلى ما لانهاية أمر مستحيل، وأن الخسارة على المستوى السياسي والشعبي والاقتصادي هي مشتركة، إذ لم يحقق أي طرف أي مكاسب من العلاقات المتوترة، خصوصاً أن ما يجمع البلدين من قواسم مشتركة بحكم الجوار، أكبر من الخلافات.
وينظر مراقبون إلى قرار قطع العلاقات بين الجزائر والمغرب، على أنه في الواقع تكريس رسمي لحالة من القطيعة السياسية والاقتصادية والحرب الإعلامية القائمة بين البلدين، منذ حادثة تفجير فندق "أطلس أسني" في مراكش في أغسطس/آب عام 1994 وغلق الحدود (اتهم المغرب جهاز المخابرات الجزائري بالضلوع بالهجوم)، ويعتبرون أن القرار قد يكون ضرورة لحسم حالة مرهقة من "اللاحرب واللاسلم" بين البلدين، بما يدفعهما مجدداً إلى مراجعة الحسابات وإعادة بناء العلاقات في ظروف مغايرة، وفقاً لالتزامات سياسية بحكم الجوار والمصالح المشتركة ومصالح المنطقة. وبينما يتوقع البعض إمكانية ازدياد وتيرة الخلافات والشحن السياسي والإعلامي بين البلدين، وكذلك ازدياد الصدام في المحافل الإقليمية والدولية، خاصة في ظل التباين الكبير واتساع المسافة بين المواقف والخيارات السياسية لكل دولة، فإن توقعات أخرى تظهر ومفادها أن ما حدث من شأنه أن يحث أطرافاً وسيطة على أداء دور لتخفيف حدة التوتر وإعادة إنتاج تفاهمات تؤدي إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية وتطبيعها وفتح الحدود على أسس والتزامات مشتركة، على غرار ما حدث بعد أزمة قطع العلاقات في عام 1976، عندما قام العاهل السعودي حينها، الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، بوساطة أثمرت عن فتح الحدود وإعادة العلاقات عام 1988.
قطع العلاقات تكريس رسمي للقطيعة السياسية والاقتصادية
وقدم وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، في مؤتمر صحافي أول من أمس، قائمة بـ"المسببات" التي دفعت بلاده إلى قطع علاقتها مع المغرب، الذي رد سريعاً واصفاً القرار بـ"الأحادي الجانب" و"غير المبرر تماماً"، معبراً عن "رفض المملكة القاطع للذرائع المغلوطة، وحتى السخيفة، الكامنة وراء هذا القرار". وقال لعمامرة إن "استفزاز المملكة المغربية" للجزائر "بلغ ذروته"، مضيفاً أن "المغرب تخلى عن الالتزامات الأساسية في إطار العلاقات مع الجزائر"، وأنه "بناء على هذه العوامل، فقد تقرر قطع العلاقات مع المملكة". وبحسب لعمامرة، فإن "المغرب لا يتردد في نشر معلومات خيالية ومغرضة، إذ قام أحد المفوضين الدبلوماسيين المغربيين بعمل خطير من خلال التطرق لما سماه حق تحرير المصير لشعب القبائل (الجزائري) الشجاع"، في إشارة إلى دعوة سفير المغرب بالأمم المتحدة، عمر هلال، خلال اجتماع لدول عدم الانحياز في 13 و14 يوليو/تموز الماضي، إلى "استقلال شعب القبائل" في الجزائر، بعد إعلان لعمامرة قبل ذلك دعم حق تقرير مصير سكان الصحراء.
وتابع لعمامرة أن "قادة المغرب يتحملون مسؤولية إدخال العلاقات الجزائرية المغربية في نفق مسدود"، مشيراً إلى أن الجزائر "لن تقبل بمنطق فرض سياسة الأمر الواقع". وحرص لعمامرة على التأكيد على أن قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين "لا يعني تضرر الجالية" في البلدين، مشيراً إلى أن "الأجهزة القنصلية ستواصل عملها الإداري بشكل عادي". وبحسبه، فإن "عداء المغرب للجزائر ليس وليد اليوم، هو عداء ممنهج وموثّق، تعود بدايته إلى حرب عام 1963 ضد الجزائر (اندلعت لأيام معدودة بسبب مشاكل حدودية) كدولة حديثة الاستقلال (الجزائر استقلت عام 1962)، وعلى الرغم من كل ذلك، عملت على إقامة علاقات عادية مع المغرب".
وبخصوص قضية الصحراء، التي تبقى الملف الرئيسي في الخلاف بين البلدين، أكد وزير الخارجية الجزائري أن "قادة المغرب يعيشون وهماً بفرض أطروحة الحكم الذاتي" في الصحراء على المجتمع الدولي.
في المقابل، جاء الرد المغربي على القرار الجزائري عبر بيان لوزارة الخارجية المغربية في ساعة متأخرة من ليل الثلاثاء، قالت فيه إن "المملكة المغربية أُحيطت علماً بالقرار الأحادي الذي اتخذته السلطات الجزائرية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب اعتباراً من اليوم (الثلاثاء) فصاعداً"، مبديةً أسفها على "هذا القرار غير المبرر تماماً". وأعلنت الوزارة أن المغرب "يرفض رفضاً قاطعاً المبررات الزائفة، بل العبثية التي انبنى عليها القرار". وفيما اعتبرت الخارجية المغربية أن قرار الجزائر "متوقع في ضوء منطق التصعيد الذي لوحظ في الأسابيع الأخيرة - وكذلك تأثيره على الشعب الجزائري"، تركت الرباط الباب موارباً أمام إمكانية تجنب القطيعة من خلال تشديدها على أن المملكة "ستظلّ من جهتها شريكاً صادقاً ومخلصاً للشعب الجزائري، وستواصل العمل بحكمة ومسؤولية من أجل تنمية علاقات مغاربية صحية ومثمرة".
مع العلم أن القرار الجزائري جاء بعد دعوة العاهل المغربي، الملك محمد السادس، نهاية الشهر الماضي، بمناسبة الذكرى الـ22 لجلوسه على العرش، الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، إلى "العمل معاً، في أقرب وقت يراه مناسباً، على تطوير العلاقات الأخوية، التي بناها الشعبان، عبر سنوات من الكفاح المشترك"، واعتباره البلدين "أكثر من دولتين جارتين، إنهما توأمان متكاملان".
الخارجية المغربية: قرار غير مبرر والمبررات زائفة
وتشهد العلاقات بين الرباط والجزائر منذ أسابيع، توتراً دبلوماسياً، كان من أبرز فصوله استدعاء الجزائر سفيرها في الرباط، رداً على دعوة السفير المغربي في الأمم المتحدة عمر هلال، خلال اجتماع مجموعة دول عدم الانحياز الشهر الماضي، إلى "استقلال شعب القبائل". كما قام المندوب المغربي بتوزيع مذكرة في نيويورك على مندوبي دول عدم الانحياز تضمنت خريطة الجزائر من دون منطقة القبائل.
وتصاعد التوتر بعد اتهام مجلس الأمن القومي في الجزائر، برئاسة تبون، المغرب بدعم حركة "الماك" الانفصالية التي تدعو لاستقلال منطقة القبائل، وقرر الأسبوع الماضي "إعادة النظر في العلاقات" مع المغرب، بعد شهر على قرار الجزائر استدعاء سفيرها من الرباط، ورفض المغرب تقديم توضيحات طالبت بها الجزائر بشأن موقف المندوب المغربي في الأمم المتحدة.
ويشكل ملف الصحراء أبرز القضايا الخلافية بين البلدين، إذ تتهم الرباط الجزائر بتقديم الدعم إلى جبهة "البوليساريو"، فيما تعتبر الجزائر القضية مسألة أممية. وهذه هي المرة الثانية في تاريخ البلدين التي يتم فيها قطع العلاقات بينهما، بعد قرار الرباط عام 1976 قطع العلاقات مع الجزائر بسبب قضية الصحراء، قبل أن يقرر البلدان إعادة تطبيع العلاقات بينهما في مايو/أيار 1988، على أساس تفاهمات تضمنت بنودا عدة بينها؛ حسن الجوار، وإعادة صياغة العقود والاتفاقيات كافة بين الدولتين، والالتزام ببناء الاتحاد المغاربي، ودعم القضية الفلسطينية وتحرير الأراضي العربية. لكن عودة العلاقات لم تنه الأزمات، ولعل من أبرز المحطات في هذا الإطار، إغلاق الحدود البرية بين البلدين في أغسطس/آب عام 1994 والتي لا تزال مغلقة إلى اليوم.
في السياق، قال الأستاذ في كلية الإعلام والعلوم السياسية بجامعة الجزائر، حسين دوحاجي، في حديث مع "العربي الجديد": "لا أتوقع أن تتجه الأمور نحو مزيد من التأزيم، خصوصاً في ظل مهادنة المغرب وعدم اتخاذه خطوات تصعيدية كرد على قرار الجزائر". وأضاف: "أعتقد أنها مجرد سحابة صيف عابر، هدفها التنفيس على الجبهة الداخلية بالنسبة للجزائر، لا سيما في ظلّ صيف ساخن جداً جراء كارثة الحرائق ووباء كورونا ومخلفاتهما داخلياً". ولفت دوحاجي إلى أن "العلاقات المغربية الجزائرية منذ عقود تتميز بالفتور والتوتر في بعض الفترات، وبما أن حجم المبادلات بين البلدين ليس قوياً، فلا أثر يكاد يذكر من الأساس لقطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين". وتوقع أن "تنشط الدبلوماسية العربية في اتجاه إعادة ترميم العلاقات بين الجارتين الشقيقتين، خصوصاً في المنطقة المغاربية، وبالتحديد من قبل تونس وليبيا اللتين تربطهما علاقات توصف بالمتينة مع الجزائر. كما أتوقع دوراً مهماً في القضية للدبلوماسية التركية لاعتبارات كثيرة".
توقعات بدخول أطراف وسيطة لتخفيف حدة التوتر
وبغض النظر عن الطرف الذي يتحمل القدر الأكبر من المسؤولية في وصول العلاقات بين الجزائر والمغرب إلى حدود القطيعة الدبلوماسية، فإن الكلفة السياسية والاقتصادية التي يدفعها البلدان وكامل المنطقة المغاربية بعد تعطل مسار بناء الاتحاد المغاربي، تبقى كبيرة. إذ لا تتجاوز نسبة التبادلات التجارية داخل المنطقة المغاربية 2 في المائة، ناهيك عن تعكر حركة النقل والسلع وتنقل الأفراد بين البلدين والبلدان المغاربية.
في السياق، اعتبر المحلل الاقتصادي، مراد ملاح، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الخسارة السياسية والاقتصادية كبيرة، فصحيح أنه بلغة الأرقام لم يكن هناك مستوى ورقم كبير في إطار المبادلات التجارية البينية، لكن بلا شك عدنا إلى نقطة الصفر في العلاقات بين البلدين وفي العلاقات المغاربية أيضاً". وأضاف: "كنا نراهن على أنه إذا كان هناك من عامل يمكن أن يزيل الجمود في العلاقات، فهو العامل الاقتصادي، بحيث تتغلب المصالح الاقتصادية على الخلافات، وتصبح ضرورة تفرض على السياسيين الجلوس على طاولة الحوار، لكن ذلك لم يحدث بسبب طبيعة الاقتصاد المركزي في البلدين". وتابع ملاح: "من جهة أخرى، فإن الاتحاد الأوروبي هو المستفيد الأول اقتصادياً من هذه القطيعة، كونه نجح في تحويل البلدين إلى سوق مفتوحة لمنتجاته، خصوصاً أنه يفاوض بشكل منفرد مع كل دولة على حدة، في إطار اتفاقيات الشراكة، وهو ما يضعف الموقف التفاوضي في مقابل الاتحاد، بخلاف ما لو كانت العلاقات جيدة وتم التفاوض مع الاتحاد الأوروبي كمنطقة مغاربية".
من جهته، اعتبر رئيس لجنة الخارجية بمجلس النواب المغربي، يوسف غرابي، أن "المغرب يمتلك من التعقل ما يكفي لعدم الدفع بالأمور إلى الأسوأ، لكن من دون أن يعني ذلك التخلي عن حقه في الدفاع عن وحدته الترابية". وأضاف غرابي في حديث مع "العربي الجديد": "يتعيّن على النظام الجزائري أن يدرك جيداً خطورة مناوراته السياسية والدبلوماسية على الأمن في المنطقة ومحاربة الإرهاب. وأخال أن التصعيد ستكون له عواقب وخيمة على المنطقة ككل، وليس على البلدين فقط".
تركت الرباط الباب موارباً أمام إمكانية تجنب القطيعة
وبحسب غرابي، فإنه "طيلة أكثر من أربعين سنة، كان يمكن للمغرب أن يقدم على قطع علاقاته مع الجزائر بسبب احتضانها لحركة انفصالية على أراضيها وتسليحها، لكنه فضّل مد اليد لبلد وشعب تجمعه بهما علاقات أخوة ومصير مشترك، من أجل تحقيق حلم المغرب العربي الكبير"، مضيفاً: "نتمنى أن لا يسهم الأشقاء في الجزائر في إعدام ذلك الحلم".
بدوره، قال القيادي في حزب "العدالة والتنمية"، قائد الائتلاف الحكومي الحالي في المغرب، ورئيس لجنة الشؤون التشريعية والقانونية وحقوق الإنسان بالبرلمان العربي، نبيل الأندلسي، إن "الشعبين المغربي والجزائري لا يمكن أن تُقطع علاقتهما التاريخية بقرار"، معتبراً أن "الرد الدبلوماسي الرسمي من الجانب المغربي كان موفقاً ويستحضر وحدة المصير المشترك وطموح بناء الاتحاد المغاربي الذي يبقى حلم كل المغاربيين".
أما الباحث المغربي في العلاقات الدولية، بوبكر أونغير، فرأى في حديث مع "العربي الجديد"، أن "قرار قطع الجزائر لعلاقاتها الدبلوماسية مع المغرب على الرغم من أنه غير مفاجئ للعديد من المتابعين، بفعل التغيير الذي طرأ على وزارة الخارجية الجزائرية، فإنه يسيء للعلاقات التاريخية والتاريخ المشترك بين البلدين، ويتنكر للتضحيات الجسيمة التي بذلها المغاربة من أجل استقلال الجزائر ولمستقبل الاتحاد المغاربي". ووفق أونغير، فإن "جميع الأطراف ستتضرر من القرار، لأن قطع العلاقات الدبلوماسية معناه الكثير من نفقات التسلح واستنزاف الاقتصاد بدعوى وجود عدو خارجي"، مستبعداً أن "تصل الأمور إلى حافة الحرب على الرغم من أن الماسكين بزمام الأمور في الجزائر قد يخططون لذلك في سياق استراتيجية داخلية لإعادة الإمساك بزمام الأمور الداخلية المضطربة"، وفق رأيه.
في المقابل، قال الباحث المغربي المهتم بالشؤون الأمنية، إسماعيل حمودي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "آثار القرار الجزائري شبه معدومة، لأن العلاقات بين البلدين شبه مقطوعة أصلاً، وهي في حدها الأدنى منذ سنوات"، لكنه رأى في الوقت نفسه أن "سوء التفاهم وصل اليوم إلى حده الأقصى"، معتبراً أن "المبررات التي قدمتها الجزائر غير مقبولة". ولفت الباحث نفسه إلى أن "سيناريو الاصطدام العسكري بين البلدين لا يمكن استبعاده، وإن حصل فسيكون مدمراً لكلا البلدين، لكن السيناريو الأقرب إلى الواقع هو أن قرار قطع العلاقات بين البلدين سيتم تطويقه، مع إمكانية تدخل قوى إقليمية ودولية لإعادة العلاقات إلى الحد الأدنى الذي كانت عليه قبل القرار الجزائري".