أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد عزمه الإعلان عن إجراءات جديدة في غضون أيام. وأكد سعيّد في لقاء جمعه مساء الإثنين بممثلين عن القضاة أنه يستعد للإعلان قريباً عن مراحل جديدة حتى "تستعيد الدولة والقضاء عافيتهما"، معبراً عن غضبه من التأخير في حسم القضايا، ومتهماً بعض القضاة بالفساد.
وجدد نفس الموقف في لقاء ثانٍ في نفس اليوم مع محافظ البنك المركزي، مروان العباسي، في تمهيد واضح ومحاولة إعداد الرأي العام لإجراءات جديدة، تتعلق، فيما يبدو، بالمجلس الأعلى للقضاء من ناحية، وأيضاً بحركة النهضة من ناحية أخرى، عبر إسقاط بعض قائماتها الانتخابية أولاً، أو معاقبة الحزب نفسه بناء على مخالفات انتخابية.
وكان سعيّد أعلن سابقاً أنه قد يضطر لإصدار مراسيم لتطبيق تقرير محكمة الحسابات بشأن المخالفات الانتخابية.
رد المجلس الأعلى للقضاء على الضغط المتواصل من سعيّد على المؤسسات القضائية ببيان جدد فيه تمسكه باستقلاله
وذكّر مساء الإثنين في لقائه برئيس المجلس الأعلى للقضاء، يوسف بوزاخر، ورئيسة مجلس القضاء العدلي مليكة المزاري، والرئيس الأوّل للمحكمة الإدارية عبد السلام مهدي قريصيعة، ومحمد نجيب القطاري، رئيس مجلس القضاء المالي، بأن "التقرير الذي وضعته محكمة المحاسبات والخاص بالانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة لا يمكن أن يظلّ دون أثر بل يجب ترتيب النتائج القانونية عليه في مستوى صحّة الانتخابات".
في مواجهة النهضة
وبحسب بيان للرئاسة التونسية، فقد ركّز سعيّد على الفقرة الثانية من الفصل 163 في القانون الأساسي المتعلق بالانتخابات والاستفتاء الذي ينصّ على أن أعضاء القائمة المنتفعة بالتمويل الأجنبي يفقدون عضويتهم بمجلس نوّاب الشعب، وأن المترشح لرئاسة الجمهورية الذي تمتع بالتمويل الأجنبي يعاقب بالسجن لمدة 5 سنوات.
وكانت حركة النهضة قد نفت صباح أمس الاثنين في ندوة صحافية اتهامات التمويل الأجنبي، وقالت إنها لم ترتكب مخالفات انتخابية، وإن الرئيس سعيّد بصفته مرشحاً للانتخابات الرئاسية ورد اسمه أيضاً في تقرير محكمة المحاسبات.
مواجهة مع القضاة
ولكن هذا الضغط المتواصل من سعيّد على المؤسسات القضائية جوبه بعد سويعات قليلة من الاجتماع ببيان أصدره المجلس الأعلى للقضاء جدد فيه تمسكه باستقلاله، ورفض المساس بالبناء الدستوري للسلطة القضائية بواسطة المراسيم (التي يقررها الرئيس في ظل الحالة الاستثنائية).
وأكد المجلس "تشبثه بوجود المجلس كضمانة لاستقلال القضاء وبأن إصلاح القضاء يتم في إطار الضوابط الدستورية، وخارج التدابير الاستثنائية، ويعلن عزمه الانخراط في مسار الإصلاح ومقاومة الفساد".
ويبدو أن المواجهة أصبحت مفتوحة بين سعيد والقضاة، وقد هدد بوضوح في تصريحات سابقة بأنه سيتولى إصدار مراسيم رئاسية إذا لم تستجب المحاكم لهذا التمشي ولم "تتحمل مسؤوليتها التاريخية في تطهير البلاد والقضاء".
يبدو أن سعيّد يحاول إعداد الرأي العام لإجراءات جديدة، تتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء وتستهدف حركة النهضة بإسقاط بعض قائماتها الانتخابية أو معاقبة الحزب نفسه بناء على مخالفات انتخابية
ولكن سعيد قدم إشارة مهمة بأن "القضاء هو وظيفة، وليس سلطة مستقلة عن الدولة، والسلطة والسيادة للشعب وكلّ البقية وظائف".
سعيّد والبرلمان
وفي خلافه السابق مع البرلمان ورئيسه، وبخصوص العلاقة مع الحكومة، كان سعيد قال بوضوح مرات عديدة إن الدولة واحدة ولها رئيس واحد، وهو اليوم يكرر نفس الشيء مع السلطة القضائية، بما يؤكد أن فهمه للدولة لا يقوم على تقاسم السلطات واستقلاليتها وإنما على تجميعها معاً تحت إمرة واحدة.
مدير معهد الدراسات الاستراتيجية السابق، طارق الكحلاوي، اعتبر أن "خطب الرئيس وكلامه وتوجهاته العامة منذ 25 جويلية تؤكد أنه يتجه أكثر نحو الهروب إلى الأمام وتفعيل ما يؤمن به من تصور، بقي أن نتبين إذا كانت هذه المراسيم التي سيتم اعتمادها ستتجه إلى الحسم المطلق والكامل، أم أن المعارك ستبقى مفتوحة، وربما هو ما زال يزن ويتثبت من المعارك التي يفتحها أولاً وبالترتيب وما سيؤجل من معارك".
وشدد على أنه "سنتبيّن في 17 ديسمبر (ذكرى اندلاع الثورة في سيدي بوزيد) ما هي المعارك التي سيفتحها"، مشيراً إلى أن "المعركة الأولى هي الحسم مع مشهد ما قبل 25 جويلية وعلى رأسها الحزام الحاكم وحركة النهضة بالذات"، ومبيناً أن "اللقاءات التي عقدها بالأمس كانت للرد على الندوة الصحافية للنهضة صباحاً فيما يتعلق بمسألة التمويلات الأجنبية".
وأضاف أن "السياق الاجتماعي لا يزال قابلا للتحرك ضد منظومة ما قبل 25 جويلية، وأن تواصل حالة الإنكار عند حركة النهضة وعدم مراجعة مواقفها يساهم في مزيد من تأجيج الرأي العام، وهو ما تبين في الندوة الصحافية وزاد من تقوية موقف سعيد".
وشدد الكحلاوي على أنه "يجب التفريق بين دعم النخبة ودعم الشارع أي المزاج العام، فالنخبة مهمة ولكن سعيد راهن أكثر على الشارع، وهو غير منزعج من تقلص دعم النخب بما فيها الأحزاب، لأنه لم يكن يعول عليها منذ البداية، وهو ما يفسر تواصل شعبيته في سبر الآراء رغم تقلص دعم النخب له"، وأكد أن "هذا يعكس الأزمة الحقيقية وضعف النخب فقد استهلكت جزءاً كبيراً من مصداقيتها، وهو يستثمر في ذلك".
الاتحاد التونسي للشغل
وفي هذا الغموض الكبير ومخاوف الهروب إلى الأمام وتزايد الاحتقان، تتوجه الأنظار إلى مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل، التي أعلن عنها الأمين العام للمنظمة، نور الدين الطبوبي، السبت.
وقال الطبوبي إن الاتحاد "يحرص على التشاور مع المنظمات وشخصيات وطنية ثابتة من أجل الدعوة إلى لقاء وطني يؤسس لتوجه ثالث عنوانه الإنقاذ في كنف السيادة الوطنية".
وأضاف نور الدين الطبوبي أن الاتحاد حرص على القيام بخطى استباقية في مسار الإصلاح وقام بتشكيل لجان تنظر في المسائل التي تحتاج لمراجعة أكيدة مثل تنقيح القانون الانتخابي وقانون الأحزاب والجمعيات وتفعيل دور الهيئات الرقابية وتركيز محكمة دستورية لا تخضع للضغوطات السياسية.
وتحاط هذه المبادرة بتكتم كبير من النقابيين، ولكن مصدراً قال لـ"العربي الجديد" إنه قد يعلن عن تفاصيلها في الأيام المقبلة.
ويعلق طارق الحكلاوي على هذه المبادرة بأن "الاتحاد العام التونسي الشغل استفاد كثيراً من مرحلة بعد الثورة، ويعتبر نفسه لاعباً أساسياً لا يمكن تجاوزه في أي توجهات وأي مسارات، ولكن قيس سعيّد هو الوحيد الذي بصدد اختبار ذلك، وامتحان إمكانية تجاوزه وهو لا يريد أن يفتح معهم مواجهة مباشرة ولكنه يبحث عن تسطير حدود له".
وبين أن "مشكل الاتحاد الآن أنه لا يرغب في السكوت عن ذلك حتى لا يتقلص دوره السياسي والمؤثر في الشأن العام، ولكنه في المقابل إذا دخل في مناكفة مع سعيد فإنه يخشى أن يلعب ذلك في مصلحة منظومة ما قبل 25 جويلية".
وأضاف أن "تركيبة الاتحاد متنوعة، وهناك جزء كبير منه يعتبر أن المعركة مع النهضة مصيرية ومستعد لتجاوز ما يقوم به سعيد ضد النهضة. ولكن، هناك في الاتحاد وسطيون أيضا"، مشيراً إلى أن "للاتحاد حساباته وأوراقه وتحركاته الاجتماعية".
وأضاف أن هناك رهانات مرتبطة بالمؤتمر الاستثنائي للاتحاد وهناك من داخل المنظمة من يعتبر أن سعيد يريد أن يستفيد من الحكم القضائي الأخير الذي دعا إلى عدم انعقاده، مشدداً على أن "الفترة القادمة ستعرف تطورات تحدد طبيعة العلاقة موازين القوى بين سعيد والاتحاد".
وبين أن "الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية هي التي ستكون محددة بالنسبة لسعيد الذي اختزل السياسة في الحديث عن الغرف المظلمة والمؤامرات، في حين أن السياسة مرتبطة بالأساس بالسياسات الاقتصادية والمالية".
وأضاف "من الواضح أنه ليس في صدارة اهتمام سعيد المشاكل الاقتصادية، وموضوع المفوضات مع صندوق النقد الدولي، وهو ما سيكون محدداً في المسارات المقبلة".