عادت إلى اللبنانيين يوم الخميس مشاهد الحرب الأهلية (1975–1990) بدموية الساحة وعنف المواجهات، إذ جيّشت مجموعات حزبية مسلّحة الشارع، ولوّحت بالفتنة وهددت بتفجير البلد، وكلّه ربطاً بقضية القاضي طارق بيطار المحقق العدلي في انفجار بيروت.
ويتعرض القاضي بيطار، الذي تصدّر المشهد في لبنان، لمعركة منظمة متعددة الأطراف بهدف "قبعه" من مكانه. فمن هو بيطار الذي تحرّك ضده مناصرو "حركة أمل" و"حزب الله" أمس الخميس وبات همهم الوحيد تطييره؟
ينحدر بيطار (46 عاماً) من بلدة عيدمون العكارية شمال لبنان، وعُيّن رئيساً لمحكمة الجنايات في بيروت عام 2017، وتولى التحقيق في الكثير من القضايا التي شغلت الرأي العام، أبرزها قضية الطفلة إيلا طنوس التي فقدت أطرافها الأربعة بسبب خطأ طبي وأنصفها بيطار في حكمه، وكذلك على صعيد قضيتي مقتل الشابين روي حاموش وجورج الريف.
وبتاريخ 19 فبراير/شباط الماضي، وافق مجلس القضاء الأعلى على تعيين رئيس محكمة الجنايات في بيروت القاضي طارق بيطار محققاً عدلياً في قضية انفجار مرفأ بيروت، بعدما كانت وزيرة العدل السابقة في حكومة حسان دياب ماري كلود نجم، قد اقترحت اسمه خلفاً للقاضي فادي صوان الذي كفّت يده بدعوى النقل للارتياب المشروع التي قدّمها الوزيران السابقان النائبان علي حسن خليل وغازي زعيتر.
ويتمتع بيطار بسمعة قضائية جيدة، وهو غير محسوب على أي حزب سياسي، وكان الاسم الأول الذي اقترحته ماري كلود نجم ليتولى التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، بيد أنه تحفّظ على استلام المهمة لأسباب شخصية، وفق ما أعلنت وزيرة العدل السابقة، غير أنها عادت واقترحت اسمه عند كف يد صوان، وقالت إنها حصلت على تأكيدٍ منه بأنه سيذهب حتى النهاية في الملف.
وباشر القاضي بيطار مهامه وهو يدرك تماماً حجم العوائق والعراقيل التي ستحاول الطبقة السياسية إقفال طريق العدالة بها، منعاً للوصول إلى الحقيقة وللإفلات من العقاب، وحرص منذ اليوم الأوّل على دراسة الملف جيداً لتفادي الوقوع في الحفرة التي استُدرج إليها سلفه، فعمد إلى تصحيح المسار، واتخاذ الإجراءات بتأنٍ وإتقانٍ ومراجعة دقيقة لتكون خالية من أي شائبة أو ثغرة تستغلّ ضده.
ولاقى بيطار دعماً لافتاً من أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت وقسم كبير من اللبنانيين المعارضين للسلطة الذين أكدوا وقوفهم إلى جانبه في الحرب السياسية التي تشنّ عليه هو الذي حرص على اللقاء بهم كل فترة بناءً على رغبتهم، فكان أن استغل المدعى عليهم هذه اللفتة ضدّه.
وفي تموز/يوليو "استُؤنفت" المعركة السياسية مع إطلاق المحقق العدلي الجديد لائحة الادعاءات التي ضمّت أسماءً كان ادعى عليها القاضي فادي صوان بتهم الإهمال والتقصير والتسبب بوفاة وجرح مئات الأشخاص، أي حسان دياب (بينما كان رئيساً للحكومة) والوزراء السابقين علي حسن خليل، ويوسف فنيانوس وغازي زعيتر، وأضيف إليهم شخصيات جديدة سياسية وأمنية، أبرزها وزير الداخلية السابق النائب نهاد المشنوق، والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم (محسوب على حركة أمل وحزب الله) والمدير العام لجهاز أمن الدولة اللواء طوني صليبا (محسوب على رئيس الجمهورية ميشال عون)، عدا عن قادة أمنيين وعسكريين، على رأسهم قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي.
وطلب القاضي بيطار رفع الحصانة عن النواب الحاليين من أجل استجوابهم، كما سلك الطرق القانونية بالطلب إلى نقابة المحامين في الشمال إعطاء الإذن بملاحقة وزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس باعتباره محامياً، وكذلك الأمر من نقابة المحامين في بيروت لملاحقة النائبين المحاميين خليل وزعيتر، فكان أن وقف البرلمان في وجهه وسلك جملة مناورات احتيالية للمماطلة ومواجهة طلبات المحقق العدلي والتذرع بأنه ليس المرجع الصالح لتعبيد الطريق أمام تحويل الملف للمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء المُعطَّل أساساً.
ووسط الحصار الذي فُرض على بيطار، اغتنم المحقق العدلي فرصة تعليق الحصانات النيابية بفعل نيل حكومة نجيب ميقاتي الثقة، فسارع إلى تحديد جلسات استجواب للمدعى عليهم قبيل 19 أكتوبر/تشرين الأول، وهو تاريخ استعادة حصانتهم بيد أن الدعاوى انهالت عليه وتوقف التحقيق مرتين، بيد أن تهديدات أمين عام "حزب الله" حسن نصر الله وتخيير الحكومة بين تفجيرها أو إقالة بيطار وحصول اشتباكات بيروت يوم الخميس وإعلان الحداد العام وإقفال جميع المؤسسات والإدارات يوم الاثنين بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف، كلها صبت في مصلحة المدعى عليهم.
وحدد القاضي بيطار يوم 30 سبتمبر/أيلول موعداً لاستجواب خليل، وتاريخ 1 أكتوبر/تشرين الأول موعداً لاستجواب زعيتر ونهاد المشنوق، و4 أكتوبر لاستجواب دياب، قبل أن يتوقف التحقيق للمرة الأولى وتُرحل الجلسات على خلفية دعوى الردّ التي تقدّم بها المشنوق بالتزامن مع تقديم فنيانوس دعوى نقل (لا توقف التحقيق) لتنهال الدعاوى والطلبات منها غير القانونية على المحقق العدلي، وصولاً إلى توقف التحقيق من جديد في 12 أكتوبر بدعوى الردّ المقدمة من خليل وزعيتر قبل أن تردّها الغرفة الأولى في محكمة التمييز المدنية برئاسة القاضي ناجي عيد صباح الخميس.
كما واجه بيطار رفض وزيري الداخلية، السابق محمد فهمي والحالي بسام مولوي، منح الإذن بملاحقة اللواء إبراهيم وتلقى الجواب نفسه من جانب المجلس الأعلى للدفاع برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون مرتين برفض إعطاء الإذن لملاحقة اللواء صليبا.
ولم يقف المسؤولون السياسيون ومن خلفهم الأجهزة المعنية وحدهم في وجه بيطار، بل تعرّضت قراراته للعرقلة من جانب النيابة العامة التمييزية، والتي بدل أن تمثل الحق العام اختارت الوقوف في صفّ المدعى عليهم، فتمرّدت وتمنّعت عن تنفيذ المذكرات، منها مذكرتا التوقيف الغيابية بحق فنيانوس، رغم مرور شهر على إصدارها، وأخيراً حسن خليل، حتى أن وزير الثقافة "القاضي" محمد مرتضى، محسوب على "حزب الله"، هددّ صراحةً بتنفيذها وتحدى أي جهة تقدم على توقيف خليل.
ومن القرارات التي اتخذها القاضي بيطار قبيل توقفه عن النظر في القضية إصدار مذكرتي توقيف وجاهيتين بحق كل من عضو المجلس الأعلى للجمارك هاني الحاج شحادة، والمدير السابق للعمليات في مرفأ بيروت سامي حسين، ومذكرتي توقيف غيابية لفنيانوس وعلي حسن خليل، ومذكرتي إحضار بحق رئيس الحكومة الأسبق حسان دياب الذي عاد إلى بيروت مساء الأربعاء قادما من الولايات المتحدة.
وكان بيطار قد حدد أيضاً في أوقات سابقة جلسات لاستجواب المدير السابق للمخابرات العميد كميل ضاهر وقائد الجيش السابق العماد جان قهوجي، بعدما قرّر تركهم رهن التحقيق قبل أن ترحَّل بدورها في ظلّ التوقف الذي ساد التحقيقات.
وتعرض بيطار لحملات من مراجع سياسية ودينية، أشدّها عن لسان أمين عام "حزب الله" حسن نصر الله وتُرجمت "ميدانياً" بإرساله تحذيراً صريحاً من مسؤول الأمن والارتباط في الحزب وفيق صفا ومن قلب العدلية، قبل أن يطلق أخيراً الهجوم الأشرس المرفق بالتخيير بين الكارثة وربطاً بتطيير الحكومة أو إقالة بيطار، منفذاً أول تهديداته بتصعيد سياسي داخل مجلس الوزراء، وبالتوازي في الشارع اللبناني مع تحرك مناصري "حركة أمل" و"حزب الله" الخميس في بيروت الذي شهد اشتباكات مسلحة هي الأعنف، وأدت إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى ووضع شارعٍ مقابل آخر.
ورافق الحرب السياسية هجوم إلكتروني إعلامي منظم ضد المحقق العدلي، تخلله تشهير وتشويه سمعة واتهامات بتنفيذ أجندات داخلية وخارجية، خصوصاً أميركية والعمل لمصلحة صهر رئيس الجمهورية النائب جبران باسيل.