مرّ عام على إعلان تطبيع السودان علاقتها مع إسرائيل، منذ أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي (2020)، والذي يمثّل موجة ثالثة من تطور العلاقات الإسرائيلية العربية، والتي وصفت بربيع التطبيع، كامتداد للموجة الأولى بموجب اتفاقية سلام كامب ديفيد 1979، تلتها اتفاقيات التسوية مع الأردن والسلطة الفلسطينية، بينما الموجة الثالثة والمرحلة الجديدة نسبيا كان مركزها الإمارات، التي هندستها مع الولايات المتحدة، وفيها تتجاوز علاقات التطبيع التمثيل الدبلوماسي إلى مجالات تعاون اقتصادية وتجارية بشّرت بها اتفاقية إبراهيم، وكما تتسم الموجة الثالثة بأنها اتفاقات تعاون مع دول لا تتقاطع إسرائيل معها في حدود، ولم تشهد مواجهات مع العدو، على عكس الموجتين الأولى والثانية، التي اتخذت مبرر إنهاء المواجهة العسكرية وتحقيق السلام.
التطبيع مفارقات تاريخية وتناقض مع قيم الثورة
جاء تطبيع السودان وسط مفارقة لمواقف تاريخية للسودان، غير تناقضها مع أفق متصور للثورة، ومنطلقاتها نحو العدالة والانتصار لقيم الحق، تعلن الخرطوم تطبيع علاقتها مع إسرائيل، وهي صاحبت اللاءات الثلاث؛ لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض، كمخرج وموقف للمشاركين في القمة العربية الرابعة (أغسطس1967)، التي شهدت موقفا موحدا ضد عدوان إسرائيل، وربما كان هذا موقفا تاريخيا أظهر العرب للعالم أمة في مواجهة دولة الاحتلال. استقبل رئيس مجلس السيادة السوداني، إسماعيل الأزهري، الزعيم المصري جمال عبد الناصر بعد أشهر من النكسة، ترافق ذلك معه استقبال جماهيري حاشد له بوصفه زعيما رغم الهزيمة. كانت السودان تمر بفترة انتقالية تاليه على ثورة 21 أكتوبر 1964، الانتفاضة العربية الأولى التي أسقطت نظام الفريق إبراهيم عبود، وحملت في مضمونها آمال التنمية والعيش المشترك بين السودانيين أنفسهم وبين جيرانهم، وكانت السودان جزءا من حركة تحرر وطني تساند الدول التى احتلت أراضيها .
الثورة تنطلق من الدفاع عن المظلومين، ومقاومة أشكال التمييز والعنصرية، والتي عانى منها السودان
بين ثورة أكتوبر الأخضر وديسمبر 2018 مسافات من تغيرات تاريخية، وتحالفات إقليمية، وانكسارات في الثورة التي حجبها تقاسم السلطة بين العسكريين والمدنيين، فنال من بريقها، لتشكل مفارقة ثانية؛ أن يبدأ التطبيع بعد الثورة، والتي من المفترض أنها فتحت أفق للتعبير واتخاذ مواقف عادلة، دون ديكتاتور يتحدث باسم الشعب. ينال التطبيع من مضمون الثورة ومعيارها الأخلاقي ونسقها القيمي، ويصيبها بالارتباك، فالثورة تنطلق من الدفاع عن المظلومين، ومقاومة أشكال التمييز والعنصرية، والتي عانى منها السودان، وقسّم على أثرها (2011)، واندلعت بسببها الحروب في أطرافه منذ منتصف الخمسينيات، في مقاومة لنظرة وممارسات استعلائية رافضة للتنوع العرقي والإثني، وما تمخض عنها من تهميش للأطراف والجهات، كما يمثل التطبيع تناقضا مع قيم الثورة، وقبولا لأبرز نماذج العنصرية التى عرفها التاريخ، ممثلة فى دولة الاحتلال، وهذه المعضلة تستدعي التفاكر وتحليل التناقض مع الأخذ فى الاعتبار تعقيدات المشهد السياسى، بما فيها تقاسم السلطة بين العسكريين والمدنين، والتنازع الشكلى بين العروبية والأفريقانية، وهذا ما يجعلنا نتطرق الى مبررات ومنطلقات التطبيع، ومحاولة فهم إعلان التطبيع، وتلمّس مستقبله وعلاقته بالأزمة الشاملة التى أوصلت الى لحظة الانتفاضة، ومحاولتها البحث عن خلاص، وردم أثر نظام البشير ومراهنته وسياساته، وما أنتجه من عوامل سالبة، منها عزلة دولية.
التطبيع آلية للتوظيف السياسي وشرعنة النظام
وظّف البشير القضية الفلسطينية لكسب شرعية لنظامه الذي أتى بانقلاب 1989. خلق توليفة العروبة والإسلام وما بينهما من خطوط تلاق، وغذى تحالفه مع الترابي، بداية الانقلاب وحتى منتصف التسعينيات، وكانت مواجهة إسرائيل أحد منطلقات المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي، الذي دشّن عام 1991، وجمع إسلاميين وقوميين من 45 دولة. استخدمت الخرطوم المؤتمر مرتكزا للتنسيق والعمل المشترك وآلية لكسر العزلة، ورغم التناقضات والاختلافات بين مكوناته، تجد تنظيم "أبو سياف" بجانب "حزب الله"، وراشد الغنوشي بجانب عباس مدني، مع قوميين من ليبيا وفلسطين، بينما كان بن لادن الراعي والممول للمؤتمر، وسبق أن سمح له بإقامة معسكرات "المجاهدين"، وساد خطاب مقاومة القوى الصهيونية وأميركا والصليبية العالمية. ترك بن لادن السودان عام 1996 بعدما خسر أموالا طائلة، معتبرا أن حكومة الجبهة الإسلامية القومية "خليط من التدين والجريمة المنظمة". استغني نظام البشير عن تحالفاته تلك، واستنزف فرص استثمار القضية الفلسطينية، وأرهق السودان من العزلة الدولية بعد تورطه فى دعم أنشطة الجماعات الإسلامية، وبينما ورثت الحكومة الانتقالية بعد الثورة هذا العبء والمسار التاريخي المثقل بالأزمات، بما فيها قرارات المجتمع الدولى والعقوبات الأميركية.
حاول نظام البشير في سنواته الأخيرة ومع تزايد الضغوط الاقتصادية، العودة لمربع المناورة والمواقف البراغماتية، وصرّح رموز حزب المؤتمر الوطني بإمكانية دراسة ملف التطبيع، لذا لم يكن لقاء رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، مع نتنياهو في أوغندا، سوى استكمال للمسار، ومحطة تمهيد لإعلان التطبيع، وكسب محاور إقليمية للسلطة الجديدة أو تعبير عن علاقات معها، كما تردد خبر عن زيارة وفد سوداني إسرائيل سراً في أكتوبر الماضي.
مواقف القوى السياسية..مأزق الثورة وأزمتها
انقسمت القوى السياسية حول إعلان التطبيع، وأظهرت قوى الإجماع الوطني بما فيها القوى اليسارية (حزب البعث والشيوعي وغيرها)، وحزب المؤتمر إلى جانب حزب البشير، معارضتهم للتطبيع، وإجمالا تحفّظت قوى الحرية والتغيير على إعلان التطبيع باعتبار أن صياغة العلاقات الخارجية تستلزم حكومة منتحبة. بعض القوى السياسية ترفض التطبيع، لكن تعبيرات وتصريحات لنخب سودانية عديدة ترحّب به، وتطالب بانفتاح السودان على العالم وكسر العزلة الدولية، وتتخذ بعضها إسرائيل وسيطا لعودة الخرطوم للمجتمع الدولي، ومعها آمال بانفكاك الأزمة الاقتصادية، ويؤثر تنازع شكلي بين الانتماء الأفريقي والعربي في الموقف من التطبيع، حيث يسوّق مؤيدو التطبيع أن محيطهم العربي وجيرانهم لم يفيدوا السودان أو يساندوه في أزماته، وأن الموقف من إسرائيل الذي وظّفه لصالح سلطته ترك آثاره سياسيا واقتصاديا، وبما أنه تم التخلص من البشير، فلا بد من التخلص من كل ما نسب له، ولا موانع للتطبيع بعد جولات التطبيع إثر اتفاقات السلام المتتالية مع الدول العربية.
ويراهن جانب من النخب السودانية على تعاون سوداني إسرائيلي اقتصادي خاصة في مجالات الزراعة والتكنولوجيا، والتجارة، لكن حال تم ذلك سيكون لإسرائيل الكفة الراجحة، لن تنقل إسرائيل تقنية متطورة، ولن تساعد أي دولة في تنمية صناعية وزراعية حقيقية، وليس أدل على ما تلا إعلان التطبيع موافقة الخرطوم (والرياض أيضا) على عبور الطائرات الإسرائيلية أجواءها، مما خفض تكلفة الرحلات بشكل كبير، كما تراهن إسرائيل على توسيع نفوذها البحري بالتعاون مع الإمارات، سواء فيما يتعلق بالبعد التجاري أو الاستراتيجي العسكري، وتخيب رهانات المطبّعين إذا ما تم تقييمها في إطار تجارب سابقة.
سيناريوهات التطبيع
يبدو أن تباين المواقف السياسية حول التطبيع، ووجود ميل مرحب لإعادة بناء السودان لعلاقاته الخارجية، يعطى فرصة لتحول إعلان التطبيع إلى ممارسة فعلية، فالحكومة المدنية سعت لعودة السودان إلى المجتمع الدولي، وهذا رهين مواقف أميركية فرضت عقوبات على السودان، كما ينظر إلى تل أبيب بوصفها أحد أبواب حل الأزمة، ويراهن على ضخ الاستثمارات الدولية، وإحداث تطور في الإنتاج الزراعي، وتلوّح إسرائيل بالدعم.
يقف أيضا الميل إلى الانتماء الأفريقي في مواجهة غير حقيقية مع الانتماء العربي إطارا فكريا تتشكل منه المواقف السياسية والعلاقات الخارجية، ومنها الموقف من إسرائيل. يأتي ذلك في ظل ضعف تأثير قوى الإجماع الوطني في قيادة موقف معارض للتطبيع يمكن أن يتحول لموقف رسمي، خاصة وأنها ليست جزء في منظومة اتخاذ القرار رسميا، وبعد انقلاب 25 أكتوبر واستبعاد قوى الحرية والتغيير، يعدّ الموقف الرافض للتطبيع داخل السلطة أكثر ضعفا، كما لا يعدّ التطبيع موقفا من إسرائيل وحسب، لكنه مربوط بتحالف إقليمي خليجي تقوده الإمارات يدعم أطرافا من السلطة، ويرتبط أيضا جزء منه بتشكل الموقف الأميركى تجاه السودان.
أما ثاني السيناريوهات، فهو أن يكون مسار التطبيع بطيئا ومحدودا في الأجل القريب نظرا إلى ارتباك المرحلة الانتقالية، وعدم وجود حكومة منتخبة تستطيع مخاطبة الشارع بشأن شكل التطبيع ومساراته، ويمكن حال حدوث تطورات في المرحلة الانتقالية ومنها وصول قوى ديمقراطية للحكم، أن يترجم التطبيع في إطار ملفات اقتصادية، وتبادل دبلوماسي محدود للغاية بعد إلغاء قانون مقاطعة اسرائيل (إبرايل 2020) أو رفض إقامة علاقات مع إسرائيل بالأساس، إذ تم حشد الشارع على هذه القضية، وهو احتمال بعيد ويحتاج إلى قوة ثورية أو وصول قوى الإجماع الوطني للحكم وتطبيقها المواقف التي أعلنتها، ورفضها للتطبيع، ويمكن أن يتسارع التطبيع بشكل كبير إذا ما استولى البرهان على الحكم بشكل منفرد، سواء خلال العام المقبل أو عبر انتخابات مقبلة، مع انتهاء المرحلة الانتقالية، ليترشح هو فيها أو من يمثل المؤسسة العسكرية، والتى ستحتاج فى هذا الموقف إلى استرضاء حلفاء إقليميين ودوليين، وإبراز انفتاحها على المجتمع الدولى، ومنه إقامة علاقات مع إسرائيل اقتصادية ودبلوماسية، وربما تنسيق أمني وتعاون عسكري.