خوف وقلق
في الشارع الأوروبي تحوّلت ابتسامات العيد وتبادل لوائح الهدايا قبيل عيد الميلاد، إلى وجوم وخوف وقلق بلا كثير من الحديث. لم يأبه هؤلاء لإعلان تنظيم "داعش" مسؤوليته عن اعتداء برلين. وحدهم المتخصصون بحثوا واستخلصوا تهديدات التنظيم قبل الهجوم الدامي بعام كامل. وقبل أيام كانت شرطة الاتحاد الأوروبي، "يوروبول"، خرجت باستنتاجات مفزعة عن حالة التهديد، التي يبدو أن بعضها قد تحقق.
خوف الناس يبدو أبعد من تكرار سرد ما جرى. فالأمر بالنسبة لبعضهم لا يخص برلين أو عاصمة أوروبية لوحدها، كما تقول السيدة الألمانية كاثرينا، فـ"الحرائق في كل مكان حول العالم. الأمر لا يتعلق ببرلين وحدها، بل يعكس مشكلة عالمية". وتضيف: "علينا أن نبرد دماءنا على الرغم من الخوف الذي نعيش". وبدا أن الرعب سيطر يومي الثلاثاء والأربعاء، على خطوات رسمية، أمنية وسياسية، يُزج ببعضها عبر الصحف ووسائل الإعلام، لتطمين الشارع. وتعيش أوروبا حالة نشر قوات أمنية مرئية ومخفية في شوارع مدنها، التي خيّم عليها الحزن، والخائفة أن تصاب في أوقات الميلاد تحديداً وللمرة الأولى في تاريخها بما عاشته برلين مساء الإثنين. هذا الأمر طرح تساؤلات: هل كوبنهاغن واستوكهولم وأوسلو وفيينا وبروكسل وجنيف وروما ومدريد ولندن، وغيرها محمية بما يكفي لدرء خطر الوقوع مرة أخرى في مصاب دموي جديد؟
عام من النزيف
"ماذا يجري لنا، هل هذه العمليات تستهدف قلب هويتنا؟"، هذه من الأسئلة التي ذهب إليها محللون أمنيون وسياسيون وهم يناقشون "عاماً من النزيف الإرهابي الدامي في 2016"، معترفين أن "هؤلاء الإرهابيين يعرفوننا جيداً". وشعرت معظم عواصم أوروبا، حتى تلك التي هي خارج الاتحاد، بما أُطلق عليه "تسونامي الإرهاب"، وبدأت تتخذ المزيد من الخطوات الأمنية، وسط تنسيق "عالٍ" بين الأجهزة، وفقاً لما يقوله مصدر أمني أوروبي لـ"العربي الجديد". ويضيف المصدر: "لكن ثمة أسئلة تصدم حين تطرح. كيف تواجه أو تتوقع هجوماً لم يحدث من قبل، وبوسيلة مستخدمة في شوارع أوروبا؟ هل تبدأ الشك بكل من يعمل سائق شاحنة من أصل مهاجر، أو من يأتي لاجئاً ويستخرج رخصة قيادة سيارة؟".
وتعليقاً على التأثير الصادم للاعتداء الذي ضرب برلين الإثنين، يقول مصدر غربي برلماني، مهتم بتمويل الأجهزة الأمنية في بلده: "الميلاد في بلادنا هو شهر الفرح للأطفال، وبالفعل هوية ثقافية لمجتمعاتنا أكثر منه دينية، وخصوصاً كلما اتجهنا شمالاً. هذه الأسواق الميلادية، وإن كانت عبارة عن أكواخ محدثة، تُذكّر الأوروبيين بماضيهم وتاريخهم في عصور وسطى".
وفي هذا الوضع، يجد الأمنيون أنفسهم معنيين بالمخاوف الصادرة عن المدنيين، الذي يطالب بعضهم "بفرض حالة طوارئ وإغلاق تام للحدود الأوروبية وفي ما بينها". بعض جوانب الطرح الأخير يتفق أمنيون معه، خصوصاً أن الحوادث التي شهدتها أوروبا منذ عامين أشارت إلى انتقال المنفذين عبر الحدود، مثل بلجيكا وفرنسا والسويد.
منذ الاعتداء الدامي في نيس الفرنسية، صار الهاجس الأمني أكبر من سؤال "يمين ويسار" في أوروبا. فضرب سوق ميلاد بهذا الشكل للمرة الأولى في تاريخ القارة العجوز، يراه الأمنيون "مقصوداً لإحداث أكبر ضرر بالمدنيين". لكن الغريب في ما جرت مناقشته بعد مساء الإثنين هو نقل الجدل حول "داعش" إلى مستوى لم يكن يدركه المواطن العادي. ففي وسائل إعلام السويد مثلاً، يقول خبراء أمنيون إن "داعش في واحدة من عمليات بث الدعاية والتجنيد، راح يحث الشباب على أن استخدام الشاحنات أفضل من الضرب بالسكاكين، إثر موجة طعن في شوارع أوروبية. ربما لم يؤخذ الأمر بشكل جدي سوى بعد الذي جرى في نيس، لكن ليس في كل أوروبا". ويرى الخبير الفرنسي في الشأن الدولي، دومينيك مويسي، كما نقلت عنه وسائل إعلام إسكندنافية، أمس الأربعاء، أن "التنظيم استخدم ذات الأسلوب. سيارة شحن ثقيلة وهدف رمزي بافتعال مذبحة تسببت بمقتل هويتنا الجمعية، لكن لألمانيا تُعتبر هذه ضربة لهويتها الخاصة"، وذلك في ما يبدو تلميحاً إلى استقبال وانفتاح برلين على اللاجئين ومجتمعات الهجرة.
كذلك فإن بعضهم ذهب إلى المقارنة بين الاعتداء على "شارلي إيبدو" وهجومي نيس وبرلين. ويعتبر أن "ضرب شارلي إيبدو كان موجهاً مباشرة إلى الرسامين. لكن افتعال حمام دم بهذا الشكل هو ضرب عشوائي لأناس تتبضع وتأكل وتشرب بمناسبة عيد الميلاد"، وفقاً لما يقوله الباحث بشؤون الإرهاب، الهولندي بييتر فان أوستاين. وعليه يرى الخبراء أن اعتداء برلين هو مأساة لكل الأوروبيين بضرب رمزية عيد الميلاد. ولعل الصور التي تنقلها وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديداً شجرة الميلاد التي انهارت بزينتها قرب الشاحنة، تُعبّر عن تلك الرمزية. أضف إلى ذلك القراءة التي تقول، إن مثل تلك الضربات هي أيضاً رمزية في "ضرب تجمّعنا سواء لمشاهدة مفرقعات اليوم الوطني أو الاستمتاع بالميلاد".
استنفار ولكن
خلال دقائق من التأكيد أن عملية الدهس في برلين كانت متعمدة، انتشرت قوات مدججة بالسلاح والمركبات في بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، وقطعت مرور السيارات عند أكبر أسواق الميلاد وبالقرب من ساحة بلديتها ومعالمها التاريخية. كذلك عمّ الاستنفار الأمني والتأهب سريعاً في شوارع بقية الدول. الخوف في الشارع بقي سيد الموقف بالتأكيد، مع اتخاذ إجراءات أمنية سريعة، بما فيها تعزيز التنسيق خلال 24 ساعة من الاعتداء، بحسب ما علمت به "العربي الجديد" من بروكسل، إذ سيتم التسريع بإجراءات فحص ومراقبة الداخلين والخارجين بين دول الاتحاد ومن مواطنيه، أي أن التنقل السهل عبر المطارات من دون تفحص جوازات السفر سيجري تشديده. إضافة إلى خطوة يتم تدارسها حول ما يُسمى "تجفيف تمويل الإرهاب" من ضمن خطوات يتجه إليها الأوروبيون. خطوات يراها معنيون أنها تعبير عن "التراجع مرة أخرى عن روح هذا الاتحاد" في ظل أزمات حادة يعانيها.
هذا الانتشار الأمني بالنسبة لكثيرين ليس حلاً بحد ذاته "لكنه خطوة تطمينية" لشارع يعيش الفزع والرعب. ويقول بعض الأوروبيين العاديين لـ"العربي الجديد" بصيغ خائفة "لقد انتهى الميلاد بالنسبة لنا قبل أن يبدأ". ويضيف آخرون: "ربما يصعب على كثيرين فَهمُ ما معنى أن تستهدف أناساً يخرجون مع أطفالهم. هذا الاستهداف يجعلك تشعر أنك لم تعد آمناً حتى في أكثر اللحظات التي تظن أن الناس تتفهم بعضها وثقافتها المختلفة ومعتقداتها المتداخلة".
ومع الانتشار الأمني الأوروبي، تثار أسئلة عما جرى ومن أية ثغرة أمكن "اجتياح شاحنة بأرقام بولندية لسوق الميلاد". ومنها ما يثار علناً عن تقصير كبير. فالسلطات الفرنسية وقبل وقوع هذا الاعتداء، كانت قد رفعت حالة التأهب، وسيّجت بكتل إسمنتية كبيرة أكبر أسواق الميلاد عند Champs-Elysées في باريس الذي يزوره ملايين الناس، فماذا جرى كي لا تتأهب برلين؟ يصعب كثيراً أن يخرج حتى أبرز الخبراء في مجال مكافحة الإرهاب بأجوبة شافية. لكن الباحث في شؤون الأمن والشرق الأوسط، لارس أندرسن، في كوبنهاغن يقول لـ"العربي الجديد"، إثر مؤتمر دولي حول التشدد في عاصمة الدنمارك، إن مسألة "وضع المجتمعات في أوروبا في ظل قوانين طوارئ وضغط أمني، وبعضهم ينشر قوات عسكرية في المناطق الناطقة بالفرنسية، أمر غريب عن ثقافة الناس ومرهق في الوقت نفسه".
ويعتبر أنه "ليس هناك من فشل أمني إذا ما أخذنا جهود حماية الحدود الخارجية. ولولا بعض الإجراءات الأمنية، التي ليس بالضرورة أن يعرفها الجميع، لكنا رأينا ما هو أفظع. انظروا إلى ما جرى من تجنيد مراهقين صبيان وفتيات لاستلهام عمليات باسم داعش في عدد من الدول، واعتقالهم في الوقت المناسب تعبير عن إجراءات معينة". ويضيف هذا الخبير: "في فرنسا وحدها جرى منع 17 هجوماً إرهابياً هذا العام. وكان أحد أسواق الميلاد واحداً من الأهداف. وفي بريطانيا أُحبطت 10 عمليات خلال عامين، كذلك في ألمانيا أحبطت العديد من الهجمات على الرغم مما جرى". ويشير إلى أن "الاستخبارات الألمانية كانت على علم بأن حوادث ستقع، والرقابة الأمنية الأميركية دفعت إلى أن تنشر وزارة الخارجية الألمانية على صفحتها على فيسبوك تحذيراً بأن أسواق الميلاد في أوروبا يمكن أن تصبح هدفاً إرهابياً".
برأي خبراء آخرين "لا يمكن على الرغم من التحذيرات، أن تعرف أي يوم وأين سيقع الهجوم. كما لن تعرف متى سيقع الهجوم التالي". يقول الخبير بالشؤون الأمنية فليمنغ هانسن: "بينما عمل الأوروبيون بكل جد على تعزيز الأمن في المطارات وحماية الملاحة الجوية، تأتي الضربات على الأرض بطريقة أخرى. أمر يعزز من الآن فصاعداً مراجعة أمنية للتجمعات البشرية كأعياد الميلاد وغيرها". لكن الأوروبيين غير معتادين على فحص ما يحملون في محطات القطارات، أو إحاطة أسواق في الهواء الطلق بإجراءات أمنية متشددة. ولذلك يعتبر هانسن أن "التحوط من هكذا هجمات أمر مستحيل". وتبقى المشكلة الأمنية الأكبر، وفقاً للخبراء، أن أوروبا وبقية مناطق العالم، باتت تواجه خطر الأعمال الفردية استلهاماً وليس بالضرورة انتظاماً في جماعة ما. ويستشهد هؤلاء بعمليات جرت على يد غربيين أيضاً في الولايات المتحدة وأوروبا.
تغييرات سياسية أيضاً
يُتوقع أن تشهد الأيام المقبلة ازدياد عملية التدخّل الأمني، وربما طرح أسئلة جدية عن الإجراءات. إذ إن بعض المواطنين العاديين يتساءل متهكماً: "هل يريدون تحويل مدننا إلى ما يشبه الدول البوليسية بكتل إسمنتية تحيط بالدوائر الرسمية والأسواق مع انتشار الجيش في الشوارع؟".
قد لا يكفي أن تُسيّر دوريات راجلة وسيارة في شوارع برلين وهامبورغ وميونخ واستوكهولم وكوبنهاغن وبروكسل وجنيف وفيينا وروما "لحماية الناس، فالأمر فيه كثير من السذاجة"، بحسب قول الخبير في شؤون التطرف من جامعة "كينغز كوليج" في لندن بيتر نيومان. لكن التغيير الأبرز الذي لا يمس فقط الأمن، سيكون في السياسة أيضاً. فحين تقع مثل هذه الأحداث، ويتم ربطها بالمسلمين واللاجئين، يفتش بعض المحللين الغربيين عن المستفيدين، طبعاً من غير المنفذين ومن يقف خلفهم. وتكشف ساعات ما بعد هجوم برلين، أن حزب "البديل لأجل ألمانيا" ذهب يستغل دماء الناس قبل أن تجف بشعار احتجاجي مرعب على وسائل التواصل، جاء فيه: "ميركل ميتة... إنها مسؤولية المستشارة نظراً لأنها تركت أكثر من مليون من طالبي اللجوء يدخلون بلدنا". ما يثير مخاوف في هذا الخطاب، ليس استهداف السياسيين بعضهم بعضاً، بل الإشارة إلى اللاجئين والمسلمين.
وللمفارقة فإن الهجوم على المركز الإسلامي في زيورخ في اليوم نفسه لم يحظَ بالاهتمام نفسه، إذ يبدو أن زعيمة حزب "البديل" فراوكا بيتري وزعماء اليمين المتطرف في أوروبا يهمهم أن يستفيدوا من هذه الأحداث لجعل صناديق الاقتراع تصب لمصلحتهم. وهذا ما يتوقعه كثيرون لانتخابات ألمانيا المقبلة، وبقية القارة التي تكابد للخروج من مأزق دموي. لكن وفق برلماني يساري أوروبي، فإن "نزع الصاعق هو في مكان آخر غير أوروبا"، كما يقول لـ "العربي الجديد"، مشيراً بوضوح إلى "دموية الأحداث في سورية وغيرها، والتقاعس عن مواجهتها إذ تعزز التطرف على الجانبين".