خلال السنوات الأربع التي قضاها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في منصبه، خضعت سياسة الولايات المتحدة الأميركية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لتحول جذري، فبينما تمسكت الإدارات الأميركية المتعاقبة بحل الدولتين، بوصفه مفتاحا للسلام والاستقرار في المنطقة بأكملها، ألقى ترامب بثقل السياسة الأميركية خلف المطالب الإسرائيلية، ومنح الإسرائيليين ما يريدونه، تاركا للفلسطينيين ما لا تريده إسرائيل. نقل ترامب سفارة بلاده إلى القدس، وقطع التمويل عن وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وقلب وجهة النظر الأميركية التي ترى أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية تتعارض مع القانون الدولي، وتسمح خطّته للسلام في الشرق الأوسط أو ما سمي بـ"صفقة القرن" لإسرائيل بضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، تاركة للفلسطينيين، فعليا، مع ما يعادل بانتوستانات تحت نظام فصل عنصري، بدلاً من دولة ذات سيادة قابلة للحياة.
حاول ترامب، خلال فترة ولايته الرئاسية، حسم قضايا الصراع المركزية (القدس واللاجئين والحدود والاستيطان وغيرها) لصالح إسرائيل، وعبر سياسة الأمر الواقع دون الحاجة إلى الدخول في مفاوضات مع الفلسطينيين، ما يعني التخلي عن مسار "أوسلو" الذي نصّ على وجوب التوصل إلى حلول في تلك القضايا عبر المفاوضات لا عبر الإجراءات أحادية الجانب. وبخسارته الانتخابات الرئاسية، واقتراب موعد دخول الرئيس الجديد جو بايدن للبيت الأبيض، يعود الحديث عن حل الدولتين سبيلا لحل الصراع إلى الواجهة مجددا. ولكن هل يملك بايدن مبادرة سلام جديدة تضمن فرصا لنجاح حلّ الدولتين من غير طريق أوسلو المتعثر منذ حوالي العقدين؟
إنقاذ حل الدولتين
تعهد بايدن أثناء حملته الانتخابية بالعمل على استئناف العلاقات الأميركية الفلسطينية، والعودة إلى العمل بالسياسة التقليدية للولايات المتحدة التي تؤيّد الحلول التفاوضية وفق معادلة "الأرض مقابل السلام"، وحل الدولتين. سيعيد بايدن افتتاح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية (المعنية بشؤون الفلسطينيين)، وممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، ويستأنف جهود الدعم الاقتصادي والسياسي للفلسطينيين التي علّقتها إدارة ترامب، كما ستعارض إدارته توسيع الاستيطان في الضفة الغربية، ولن يجد نفسه ملزما بـ"صفقة القرن" الخاصة بإدارة ترامب، جاعلا الأولوية في مسار إحلال السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين لاستئناف الحوار مع الفلسطينيين، و"الضغط على إسرائيل كي لا تتخذ خطوات قد تجعل حل الدولتين مستحيلا"، بحسب تعبيره.
دعا برنامج الحزب الديمقراطي لعام 2020، إلى إنشاء دولة فلسطينية "قابلة للحياة"، بحيث تكون للفلسطينيين "حرية حكم أنفسهم"، وعارض صراحة "العمل الأحادي الجانب" من قبل أي من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. وفي حين أن الديمقراطيين الرئيسيين قد قصروا انتقاداتهم على المستوطنات الإسرائيلية، والضم، وغيرها مما يهدد مباشرة حل الدولتين، فقد شدد الديمقراطيون اليساريون، الموصوفون بالتقدميين، على الحاجة إلى التركيز على الحقوق الفلسطينية، في محاولة لزعزعة المعتقدات السياسية التي تتجاهل تلك الحقوق انحيازا لإسرائيل، ولعل مشروع القانون الذي تقدمت به عضو الكونغرس عن مينيسوتا، بيتي ماكولوم، والذي يهدف إلى إنهاء الاحتجاز العسكري الإسرائيلي للأطفال الفلسطينيين، هو أول مشروع قانون من هذا النوع يتم تقديمه إلى الكونغرس. ولكن مهما كانت قدرة هؤلاء التقدميين فاعلة في الضغط على بايدن، ومع افتراض حسن نوايا الأخير، فمن المرجح أن يصطدم ذلك بالقوانين الحالية والكونغرس الأميركي، الذي يُعدّ تقليديًا معقلًا لطغيان مشاعر الحزبين المؤيدة لإسرائيل. فمثلا، وافق الكونغرس الأميركي في آذار / مارس 2018 على قانون تيلور فورس (سمي كذلك نسبة للجندي الأميركي الذي قتل في يافا العام 2016) الذي يقضي بقطع المساعدات الأميركية عن السلطة الفلسطينية في حال واصلت دفع المخصصات لأهالي منفذي العمليات ضد إسرائيل، والمحتجزين لديها. وهناك قانون توضيح مكافحة الإرهاب (ATCA) الذي تم تمريره في أكتوبر 2018، ويسعى إلى انتزاع تعويضات من الفلسطينيين للضحايا الأمريكيين المتضررين من العنف السياسي في الأراضي المحتلة، والعودة إلى معاملة منظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف.) كمنظمة إرهابية، ولا تضمن تعديلات هذا القانون التي أقرت العام 2019 استمرار تدفق المساعدات الاقتصادية والإنسانية والأمنية الأمريكية للفلسطينيين.
بقي أن نتذكر أن بايدن أكد عدم تراجعه عن الاعتراف الأميركي بالقدس الذي صدر عن إدارة ترامب، ولن يعيد السفارة الأميركية إلى تل أبيب، ولم يشر أيضا إذا ما كان سيلغي اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان.
بايدن وسلاح إسرائيل السري
رغم أن مقاربة بايدن للسلام في الشرق الأوسط تختلف عن مقاربة ترامب، إلا أن ذلك لا يعني أن التحالف الاستراتيجي بين أميركا وإسرائيل سيتراجع عما كان عليه في السابق، بل سيأخذ أشكالاً أخرى. فقبل خمسة أيام من الانتخابات الرئاسية، وفي ذروة الدعاية الانتخابية المرافقة، قطع بايدن على نفسه تعهدا إضافيا: "سأعمل مع حليفتنا إسرائيل لضمان قدرتها الدائمة على الدفاع عن نفسها والسعي لتحقيق السلام الدائم عن طريق حل الدولتين".
حافظ بايدن على علاقات شخصية جيدة مع نتنياهو، بالرغم من خلافات الأخير الحادة مع إدارة أوباما التي كان فيها بايدن نائبا للرئيس لمدة ثماني سنوات. ومنذ أن كان بايدن ديمقراطيًا بارزًا في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، عُرف بأنه داعم قوي لإسرائيل، التي كانت إحدى أولى محطاته في رحلاته الخارجية حين كان سيناتورا شابا، ووصف اجتماعه مع غولدا مائير، العام 1973 وقبيل الحرب العربية الإسرائيلية، بأنه من أكثر الاجتماعات نجاحا في حياته السياسية، وقد كشفت له مائير عن سلاح إسرائيل السري ضد العرب: "ليس لدينا مكان آخر نذهب إليه".
بالطبع، يؤمن بايدن، كغيره من السياسيين الأميركيين، بحق إسرائيل في الوجود، ويتفهم ذرائعها الأمنية والسياسية والعسكرية، ويتهمه الجناح اليساري في حزبه الديمقراطي بنقص التقدمية والراديكالية في سياساته، ومن غير المتوقع أن يسعى إلى حل الدولتين من خلال التهديدات والإنذارات النهائية لإسرائيل، فرغم معارضته للاحتلال الإسرائيلي لأراضي الفلسطينيين تدخل شخصياً لضمان عدم ظهور كلمة "احتلال" في برنامج الحزب الديمقراطي. وحين أعرب بعض المنافسين له في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي عن دعمهم لربط المساعدات المستقبلية لإسرائيل بالتزامها بتجميد النشاط الاستيطاني، رأى بايدن في ذلك "خطأ فادحا". وبالرغم من أنه أدان سابقا قرارا إسرائيليا بمنع نواب ديمقراطيين من دخول البلاد لدعمهم مقاطعة إسرائيل، فإنه ظل معارضا شرسا لحركة المقاطعة BDS منتقدا انحرافها إلى نوع من "معاداة السامية".
أفق حل الدولتين
بموجب اتفاقيات أوسلو فإن قضايا جوهرية مثل: الحدود والقدس واللاجئين والاستيطان، والتي يشكل الاتفاق حولها العصب الأساسي لحل الدولتين، أُجّلت لمرحلة نهائية يتم التفاوض عليها مباشرة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ليصبح كل شيء متروكا للتفاوض، وفي ظل موازين القوى والمعطيات الدولية والإقليمية القائمة والتي ليست في صالح الفلسطينيين، فإن
حسم تلك القضايا بات فعليا بيد إسرائيل، التي نسفت أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية. إذ ترفض إسرائيل العودة لخطوط العام 1967، أما المستوطنات فتتوسع باستمرار، وتضيّق مساحة الدولة الفلسطينية المستقبلية، وتقطّع أوصالها، وتمنع تواصل أجزائها. كما رفضت تقسيم القدس، وأقامت أعمال بناء ترسّخ السيطرة الإسرائيلية على المدينة، وضمت نصفها الشرقي، وأعلنتها "عاصمتها الموحدة". ترفض كذلك عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجّروا في حرب العام 1948، لأنهم يشكّلون، بالنسبة لها، خطرا ديمغرافيا يهدد مفهومهم لـ "الدولة اليهودية". وبينما ينظر الفلسطينيون إلى الأمن بوصفه إنهاء للاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم، يتمثل الأمن إسرائيليا بدولة منزوعة السلاح. ومع تطورات التسليح الجديدة وتعاظم القوى الصاروخية بيد فصائل المقاومة الفلسطينية، لم تعد تلك الدولة كافية، وتتمسك إسرائيل بتواجدها العسكري في أراضيها بذرائع أمنية.
العقبة الأهم التي تعيق حل الدولتين هي أنه مع صعود اليمين المتطرف في إسرائيل، وحراك المستوطنين، والتوجهات السياسية المؤيدة لهم المتزايدة في القوة، وتراجع الضغط الشعبي الإسرائيلي من أجل التوصل إلى اتفاق سلام، بعد سيطرة الهواجس الأمنية على الرأي العام الإسرائيلي، فإن القيادة الإسرائيلية الحالية تعارض حل الدولتين، بل تسعى إلى تقويضه. فشعور اليمين الإسرائيلي بالتمكين مع مجيء إدارة ترامب، دفعت نتنياهو الذي يعتمد في تحالفاته على الأحزاب اليمينية المعارضة لفكرة حل الدولتين، للمضي قدما في التخلي عن التزامه العلني بفكرة قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، والتي لطالما اعتبرت الحل الوحيد القابل للتطبيق لحل النزاع.
دولة واحدة أم دولتان؟
قبل أقل من ثلاثة أسابيع من مغادرة أوباما لمنصبه رئيسا، ألقى وزير خارجيته كيري خطابا حذّر فيه من أن تعريض حل الدولتين للخطر سيلحق بإسرائيل والمنطقة أضرارا لا حصر لها، وسيكون على إسرائيل أن تختار بين أن تكون إما دولة يهودية أو دولة ديمقراطية، فالجمع بين المكونين غير ممكن. فإذا ضمت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، سيصبح الفلسطينيون أغلبية في الدولة الناتجة عن ذلك، وفي حال منحت إسرائيل هؤلاء الفلسطينيين جميع حقوقهم بوصفهم مواطنين حافظت على الديمقراطية لكنها ستخسر طابعها اليهودي، الذي يقتضي الحفاظ عليه حرمان الفلسطينيين من حقوقهم، والتضحية بالديمقراطية.
لكن لدى اليمين الإسرائيلي سيناريو مختلف، يمضي به بقيادة نتنياهو تحت غطاء من سنوات حكم ترامب، بموجبه يبقى قطاع غزة تحت السيطرة غير المباشرة بطريقة ما، بينما تُخضع دولة الاحتلال معظم الضفة الغربية لسيطرتها، مع تفريغ الجزء الأكبر من سكانها الفلسطينيين إلى الأردن، وإبقاء القدس تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة. سياسة ترامب أعطت الضوء الأخضر لهذا المشروع إن لم تكن قد سارت وراءه. بالنسبة لبايدن فإنه لا يرى في مشروع اليمين الإسرائيلي ضمانا لأمن إسرائيل، وللسلام "الذي تستحقّه".
خاتمة
منذ انتفاضة الأقصى في أوائل القرن الحالي بدأت العملية السلمية وفق "أوسلو" تحتضر وتوقفت فعليًا عن العمل خلال إدارة أوباما. قوضت الإدارات الأميركية السابقة بالفعل القواعد الأساسية لعملية السلام، من خلال السكوت عن التوسع الاستيطاني، أما إدارة ترامب فقد نسفت أسس حل الدولتين بتخلّصها صراحة من القرار 242، ومبدأ "الأرض مقابل السلام". وقد تسعى إدارة بايدن إلى ضمان نوع من الالتزام الإسرائيلي بعدم المضي قدمًا في الضم الرسمي، وربما الامتناع عن مزيد التجاوزات لخطوط حمراء تراها، لكن من غير المرجح أن تتحدى بشكل جدي المزيد من الأنشطة الاستيطانية "الروتينية"، وهدم المنازل، ومصادرة الأراضي وغيرها من فرض "الحقائق على الأرض"، التي قوّضت بشكل مطرد إمكانية قيام دولتين لشعبين طيلة عقود من الاحتلال الإسرائيلي. وفي غياب ضغوط جدية أو عواقب ذات مغزى، لن يكون لدى القادة الإسرائيليين أي حافز لاتخاذ أي من القرارات "الصعبة" والتي لا تكتسب شعبية سياسية داخلية لتحقيق حلّ الدولتين، مثل إزالة عشرات الآلاف من المستوطنين اليهود، ونقل المناطق ذات القداسة الدينية يهوديا إلى السيادة الفلسطينية، أو التنازل عن السيطرة على أجزاء كبيرة من القدس.
لا يحمل بايدن مبادرة سلام جديدة بشأن القضية الفلسطينية، وربما يعلم أن حل الدولتين غير ممكن في الجيل الحالي، لكنه سيبذل جهده للحفاظ على رؤية حل الدولتين حيّة، وإدارة الأزمة الراهنة لا حلها. وبخلاف حث الأطراف على استئناف المفاوضات المباشرة، من غير المرجح أن تنفق رئاسة بايدن الكثير من رأس المال السياسي على قرار فلسطيني إسرائيلي أو ممارسة أي ضغط ذي مغزى على إسرائيل، لا سيما في ظل اهتمام أميركي أقل في شؤون المنطقة مستمر مع إدارة بايدن.
فلسطينيا، العودة إلى المفاوضات تعني العودة الى مربع أوسلو العقيم، وبمسارعة السلطة الوطنية لإعلانها، عقب فوز بايدن، عن استئناف علاقاتها بإسرائيل، والعودة إلى التنسيق الأمني معها، تثبت القيادة الفلسطينية عدم امتلاكها لأي استراتيجية متماسكة تواجه بها المخاطر الوجودية التي تحيق بالقضية الفلسطينية، وأنها لم تدرك بعد أن مستقبل الصراع، وإعادة صياغة ديناميكياته، يتعلق بالتطورات داخل البيت الفلسطيني، لا داخل أروقة البيت الأبيض، وانتظار معرفة ما ستحرمهم منه إدارة أميركية، وما ستمنّ عليهم به غيرها.