الأزمة التي وصفتها صحيفة "لوموند" الفرنسية بأنها "أزمة تاريخية"، وغير مسبوقة في الجمهورية الخامسة، التي أرساها الجنرال شارل ديغول عام 1958، قد تشكل فرصة مؤاتية لرئيس الأركان المستقيل، الجنرال بيار دوفيلييه، لتأدية دور سياسي في المستقبل، يسنده التضامن الذي ناله الرجل بسبب طريقة تعاطي الرئيس إيمانويل ماكرون، معه وعدم تحمل سيد الإليزيه رأيه المخالف حول موازنة القوات المسلحة، وهي لا تزال مجرد فرضية يستبعدها كثيرون نظراً إلى أن الثقافة السياسية الفرنسية لا تحبّذ مجيء شخصيات عسكرية إلى الحياة السياسية، وهو ما لم يحصل بشكل بارز منذ عهد الجنرال ديغول ربما.
واستقال دوفيلييه يوم الأربعاء 19 يوليو/تموز، في أعقاب خلافه الحاد مع ماكرون الذي يريد فرض اقتطاعات بقيمة 850 مليون يورو في ميزانية الدفاع الفرنسية. انتقد رئيس الأركان علناً، خلال جلسة استماع له أمام لجنة الدفاع في الجمعية الوطنية الفرنسية، توجهات رئيس الجمهورية. حجّته تتمثل في أن الجيش لن يستطيع تأدية مهامه العسكرية على أكمل وجه في ظل تقليص ميزانيته. فردّ ماكرون، علناً أيضاً، بدعوة دوفيلييه لمغادرة موقعه. واتسم كلام رئيس الجمهورية بنبرة غير مألوفة في مخاطبة الرؤساء لجنرالات الجمهورية الخامسة، وأثار تحفظات واسعة في الأوساط الفرنسية.
من المنظار المؤسساتي البحت، استقالة موظف برتبة جنرال ليست غريبة بحد ذاتها. وكان يمكن أن تمر من دون ضجة، لولا الطابع العلني للكباش بين الرجلين، ولولا الأسلوب المهين الذي استخدمه ماكرون في تعامله مع رئيس أركان الجيوش. وبما أن الأزمة وقعت، وصنّفت باعتبارها أول أزمة كبرى في عهد ماكرون الرئاسي، بات الباب بالتالي مفتوحاً أمام تفسيرات وتأويلات تتجاوز الحدود المؤسساتية للمسألة. وإذا كانت الأزمة الحادة بين الجيش والرئاسة مستبعدة، والتمرد مستحيلاً، فما هو السيناريو الذي يمكن أن يكون مطروحاً ومحتملاً؟ الجواب الوحيد الذي يمكن اقتراحه يتعلق بمستقبل دوفيلييه.
اقــرأ أيضاً
يمكن لدوفيلييه أن يكتفي عند هذا الحد، أن يعتزل الشأن العام، وأن يتقاعد. لكن ماذا لو لم يبتعد عن الأضواء؟ وماذا لو كان لدى الرجل طموحات سياسية؟ ألا يدفعه ذلك، منطقياً، إلى استغلال الأزمة مع ماكرون لتحويلها إلى فرصة وقفزة إلى الأمام باتجاه أفق سياسي واعد؟ فرضية كهذه تكتسب شرعيةً من خلال التوقف عند الماضي القريب للرجل، الذي لم يتردد في إطلاق مواقف علنية وإعلامية، غير معتادة عند كبار ضباط الجيش، محذراً تارةً مرشحي الرئاسة من تقليص موازنة الدفاع، وداعياً تارةً أخرى إلى مكافحة الإرهاب وفق استراتيجية شاملة لا تكتفي بالخيارات العسكرية، بل تشمل أيضاً معالجة جذور المشكلة بواسطة سلّة تدابير تطاول المستويات التربوية والتنمية والحوكمة، إلخ....
وهناك سؤال يستحضر نفسه ويسمح بالتكهن بشأن دور مستقبلي للجنرال المستقيل: ألا يمكن لـ"الإهانة" التي تعرض لها دوفيلييه أن تدفعه للسعي إلى "الانتقام"؟ وإذا تأكدت، في المرحلة المقبلة، رغبة دوفيلييه بدخول المعترك السياسي، ثمة عامل داخلي قد يصب في صالحه. يتعلق الأمر بشعور الفرنسيين بفراغ في القيادة السياسية العليا للبلاد، وهو شعور تفاقم منذ عهدي نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند. ويمكن لدوفيلييه أن يراهن على عدم نجاح ماكرون في اختبار ملء الفراغ، ليطرح نفسه بديلاً مقبلاً، خصوصاً إذا أفرط رئيس الجمهورية في الأخطاء والتصرفات المثيرة للجدل. كذلك، لا يغيب عن حسابات دوفيلييه، الذي يحظى باحترام واسع النطاق في فرنسا، شعبياً وحتى في الأوساط السياسية، أن أحد أسباب فوز ماكرون بالرئاسة هو أن الفرنسيين أرادوا قطع الطريق على مرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبان، وأن نسبة الامتناع عن التصويت في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، تعكس استياءً واسعاً لدى الفرنسيين من الطبقة السياسية، ومن ضمنها ماكرون.
بالطبع، الرهان ليس بسيطاً. وشروط موضوعية عديدة يجب أن تتوفر في أي طموح سياسي محتمل عند دوفيلييه، أهمها الحاضنة السياسية والتنظيمية التي يحتاجها الرجل في حال قرر أداء دور سياسي. لكن التجربة أثبتت أن توفير حاضنة كهذه ليست مستحيلة. وخير دليل على ذلك مسيرة ماكرون نفسه وسرعة تحوله إلى زعيم سياسي. يبقى أن هناك شروطاً ذاتية يتمتع بها دوفيلييه، من شأنها من تعزز حظوظه باحتلال موقع مهم على الساحة السياسية. فالجنرال الفرنسي يستفيد من الهيبة التي منحه إياها موقعه العسكري، ومن التقدير الذي كسبه، من خلال دوره، في السنتين الأخيرتين، بمحاربة الإرهاب وقيادة العمليات العسكرية الفرنسية في الخارج، ومن التعاطف الذي حظي به إثر الأزمة مع ماكرون، واستقالته التي عززت صدقيته لدى الأوساط الفرنسية.
من المنظار المؤسساتي البحت، استقالة موظف برتبة جنرال ليست غريبة بحد ذاتها. وكان يمكن أن تمر من دون ضجة، لولا الطابع العلني للكباش بين الرجلين، ولولا الأسلوب المهين الذي استخدمه ماكرون في تعامله مع رئيس أركان الجيوش. وبما أن الأزمة وقعت، وصنّفت باعتبارها أول أزمة كبرى في عهد ماكرون الرئاسي، بات الباب بالتالي مفتوحاً أمام تفسيرات وتأويلات تتجاوز الحدود المؤسساتية للمسألة. وإذا كانت الأزمة الحادة بين الجيش والرئاسة مستبعدة، والتمرد مستحيلاً، فما هو السيناريو الذي يمكن أن يكون مطروحاً ومحتملاً؟ الجواب الوحيد الذي يمكن اقتراحه يتعلق بمستقبل دوفيلييه.
يمكن لدوفيلييه أن يكتفي عند هذا الحد، أن يعتزل الشأن العام، وأن يتقاعد. لكن ماذا لو لم يبتعد عن الأضواء؟ وماذا لو كان لدى الرجل طموحات سياسية؟ ألا يدفعه ذلك، منطقياً، إلى استغلال الأزمة مع ماكرون لتحويلها إلى فرصة وقفزة إلى الأمام باتجاه أفق سياسي واعد؟ فرضية كهذه تكتسب شرعيةً من خلال التوقف عند الماضي القريب للرجل، الذي لم يتردد في إطلاق مواقف علنية وإعلامية، غير معتادة عند كبار ضباط الجيش، محذراً تارةً مرشحي الرئاسة من تقليص موازنة الدفاع، وداعياً تارةً أخرى إلى مكافحة الإرهاب وفق استراتيجية شاملة لا تكتفي بالخيارات العسكرية، بل تشمل أيضاً معالجة جذور المشكلة بواسطة سلّة تدابير تطاول المستويات التربوية والتنمية والحوكمة، إلخ....
بالطبع، الرهان ليس بسيطاً. وشروط موضوعية عديدة يجب أن تتوفر في أي طموح سياسي محتمل عند دوفيلييه، أهمها الحاضنة السياسية والتنظيمية التي يحتاجها الرجل في حال قرر أداء دور سياسي. لكن التجربة أثبتت أن توفير حاضنة كهذه ليست مستحيلة. وخير دليل على ذلك مسيرة ماكرون نفسه وسرعة تحوله إلى زعيم سياسي. يبقى أن هناك شروطاً ذاتية يتمتع بها دوفيلييه، من شأنها من تعزز حظوظه باحتلال موقع مهم على الساحة السياسية. فالجنرال الفرنسي يستفيد من الهيبة التي منحه إياها موقعه العسكري، ومن التقدير الذي كسبه، من خلال دوره، في السنتين الأخيرتين، بمحاربة الإرهاب وقيادة العمليات العسكرية الفرنسية في الخارج، ومن التعاطف الذي حظي به إثر الأزمة مع ماكرون، واستقالته التي عززت صدقيته لدى الأوساط الفرنسية.