رائد الفارس... تفاصيل الجمعة الأخيرة في كفرنبل التي أبى مغادرتها

أحمد حمزة

avata
أحمد حمزة
24 نوفمبر 2018
82DB8D15-195C-42AC-BABE-626789981C57
+ الخط -

كسر أزيز رصاص سُمع في الحي الشرقي، بحدود الثانية عشرة والنصف، من ظهر الجمعة 23 نوفمبر/ تشرين الثاني، هدوء النهار الشتوي في مدينة كفرنبل بريف إدلب الجنوبي شمال غربي سورية.

بعد دقائق، انتشر الخبر الصاعق على السكان هناك، "قتلوا رائد... قتلوا رائد وحمود". وبعد ساعتين كان الناشط رائد الفارس، الذي يُعرف بأنه "مهندس لافتات كفرنبل" الشهيرة، ومؤسس راديو "فريش"، مع صديقه حمود جنيد المعروف بـ"مصور البراميل" المتفجرة، قد دُفنا في مقبرة شهداء كفرنبل.

من كفرنبل إلى حلب ولبنان

وُلدَ رائد الفارس سنة 1972 في مدينة كفرنبل، الواقعة إلى الجنوب من مركز محافظة إدلب، بنحو 35 كيلومتراً. ومع بلوغه الثامنة عشرة من عمره، كان قد أنهى الثانوية العامة وبدأ دراسة الطب في جامعة حلب، قبل أن يترك الدراسة لاحقاً، ويتوجه للعمل في لبنان، البلد الذي كان يقصده بهدف العمل كثير من سكان كفرنبل، ومختلف القرى والبلدات حولها.

وبينما كان يتنقل بين مدينته التي أحب، ولبنان حيث يعمل، تزوج منتصف التسعينيات، وأصبح أباً لثلاثة أبناء، واستقر لاحقاً في كفرنبل، حيث عمل في الخدمات العقارية وتسيير المعاملات.


حين بدأت الثورة السورية سنة 2011، كان من أوائل شباب مدينته، الذين قاموا بتنظيم التظاهرات السلمية، فيما كانت سلطات النظام الأمنية ما زالت موجودة في مدن محافظة إدلب، ولها مقرٌ في وسط مدينة كفرنبل.

إلى كفرنبل... سنوات الثورة

ابتعد رائد الفارس مع عدد من أصدقائه عن كفرنبل سنة 2011، واتخذوا من قرية جبالا وقرى بمحيطها، قريبة من كفرنبل، وبعيدة نسبياً عن قبضة أجهزة أمن النظام، مكاناً يقضون فيه أغلب أيام الأسبوع، ويجهزون للتظاهرات التي كانت مقتصرة على يوم الجمعة حينها، إلى أن خرجت كفرنبل نهائياً عن سيطرة النظام السوري، في النصف الثاني من سنة 2012.

بدأت كفرنبل تظهر كواحدةٍ من أهم المدن السورية، التي تتميز بتظاهراتها المُنظمة، وتُظهر الوجه المدني للثورة في سورية، عبر لافتاتها التي كان رائد الفارس أحد أهم العقول المدبرة لها، وهي اللافتات التي كان يتداولها كثيراً الناشطون السوريون المعارضون لنظام بشار الأسد، وحظيت بشهرة في وسائل إعلام غربية، لكون بعضها توجه رسائل للمجتمع الدولي عن القضية السورية، باللغة الإنكليزية.

الفارس "مهندس" لافتات كفرنبل الشهيرة باللغة الإنكليزية (تويتر) 


استقطب الفارس شباب منطقته، وآخرين من إدلب وغيرها من المدن السورية، ليشاركوه العمل في راديو "فريش" الذي أسسه في كفرنبل، بالإضافة للنشاطات الأخرى التي برز اسمه فيها، وعُرفت بأنها تدفع للواجهة، بالصورة المدنية للثورة السورية، في وقتٍ تعاظم فيه نفوذ التنظيمات الراديكالية في إدلب منذ نهاية سنة 2013 وبداية السنة التالية، أشهرها "جبهة النصرة"، وتنظيم "داعش"، اللذان وجدا في نشاطات رائد وأصدقائه، خطراً على نفوذهما.

وتعرّض الفارس على إثر مناهضته العلنية والجريئة للتنظيمات المتطرفة، للاعتقال من هذه التنظيمات، وكذلك تعرّض لمحاولة اغتيالٍ سنة 2014، نجا منها، بعدما أُصيبَ إصابة بالغة بالرصاص في صدره.

عُرف الفارس بمناهضته النظام والتنظيمات المتطرفة (تويتر) 


عقب انتهاء نفوذ "داعش" في إدلب سنة 2014، وبينما كانت المحافظة عموماً تتلقى قصف النظام الجوي، بصورة شبه يومية، وتشهد مجازر متكررة، ضيّقت ولاحقت "جبهة النصرة" الفارس وعدداً من أصدقائه، فكان آخر اعتقالٍ تعرض له سنة 2016، برفقة الناشط السوري هادي العبد الله، عندما داهمت "الجبهة" مقر راديو "فريش" في كفرنبل.

غادر رائد الفارس سورية عدة مرات، وزار الولايات المتحدة الأميركية، ودولاً أخرى، حيث كان له ظهور في عدة فضائيات، وألقى محاضرات شرح فيها بلغته العفوية الوضع في سورية، مُسلّطاً الضوء على جرائم النظام السوري، والتنظيمات المتطرفة، لكنه كان دائماً يصرّ على العودة للإقامة في مدينته جنوبي إدلب، التي باتت مكاناً خطراً عليه بسبب نشاطاته، رافضاً بحسب عدد من أصدقائه، العروض التي تلقاها، بمنحه اللجوء السياسي في عدة دول.

رائد الفارس وهادي العبدالله (تويتر) 


يوم الجمعة: البقاء الأخير في كفرنبل

يكشف "العربي الجديد"، من خلال تواصله مع عددٍ من الأصدقاء المقربين لرائد الفارس، وصديقه الذي قُتل معه حمود جنيد، تفاصيل يوم الجمعة الأخير بحياة رائد، الذي كان يستعد للسفر إلى تركيا في اليوم التالي، ليقضي فيها عملاً لعدة أيام.

ومن خلال شهادات شهود عيان، وبعض أصدقاء رائد الفارس المقربين، وبينهم الصحافي محمد السلوم لـ"العربي الجديد"، فإنّ رائد الفارس، وصديقه حمود جنيد، كانا يقيمان مع آخرين بشكل شبه دائم في مبنى بالحي الشرقي من مدينة كفرنبل، وهو المبنى الذي يضم إضافة لراديو "فريش"، كلاً من "اتحاد المكاتب الثورية" الذي يديره الفارس، ومركز مجلة "المنطرة"، و"حملة عيش" (لكتابة لوحات جدارية)، ومركزاً لعدد آخر من النشاطات الحقوقية، ولنشاطات ترفيهية وتعليمية للأطفال.

الفارس والعبدالله يحملان لافتة في كفرنبل (تويتر) 


بعد الثانية عشرة من ظهر الجمعة 23 نوفمبر/ تشرين الثاني، غادر رائد الفارس هذا المبنى، مع المصورين حمود جنيد وعلي دندوش، بالسيارة التي كان يقودها الفارس، وإلى جانبه حمود، بينما جلس دندوش في الخلف، متوجهين لبيت أحد أقارب رائد، حيث دعاهم للفطور في بيته، الذي يبعد نحو خمسمئة متر فقط عن المبنى المذكور، ليلاحظ الثلاثة أنّ سيارة "فان" لون فضي، تلاحق السيارة.

انحدر رائد بالسيارة نحو طريق ترابي، محاولاً تضليل "الفان" الذي يلاحقهم، عبر سلوك طريقٍ يبتعد فيه مع أصدقائه عن وجهته الأساسية، ليختفوا عن "الفان" الفضي، الذي ترصّد لهم في زاوية طريقٍ سلكوه شرقي كفرنبل، وأغلق طريق مرورهم، قبل أن يفتح أربعة مُسلحين غير ملثمين، نيران رشاشاتهم نحو سيارة (رائد، حمود، علي)، ويفرغوا مخازنهم خلال أقل من دقيقة ويغادروا المكان.

أسس الفارس راديو "فريش" (تويتر) 


هرول السكان الذين سمعوا صوت الرصاص نحو السيارة، ليجدوا أنّ جنيد قد قُتل على الفور، وهو الذي يُعرف باسم "مصور البراميل"، لجرأته في الإسراع إلى المكان الذي تُلقي فيه طائرات النظام الحربية البراميل المتفجرة، ليقوم بتصوير المكان عن قرب، وتصوير الضحايا الذين يخلّفهم مثل هذا القصف عادة.

وفيما تم سحب جثة جنيد، تم نقل الفارس إلى مشفى كفرنبل حيث كان يلفظ آخر أنفاسه، وقد تعرّض للإصابة بعدة رصاصات بينها رصاصة قريبة من القلب، ففارق الحياة أثناء محاولات الأطباء في مشفى كفرنبل إنقاذه عبر نقل الدم إلى جسمه، لتعويضه كمية الدم الهائلة التي فقدها جراء الإصابات.

نجا من حادثة الاغتيال المصور علي دندوش، الذي كان يجلس في المقعد الخلفي من السيارة، حيث خفض رأسه، وتكور منحنياً، ليحتمي من الرصاص الذي كان ينهمر نحو السيارة.

حمود جنيد "مصور البراميل" لجرأته بتصوير برميل النظام (تويتر) 


يقول محمد السلوم صديق رائد الفارس لـ"العربي الجديد"، إنّ "الرصاصات التي قتلت رائد وحمود، من عيار خمسة ميليمتر، وهي من نوع الرصاص الخارق، وغالباً يتم استخدامها إما من بندقية "إم 16"، أو رشاش روسي أصغر من حجم "كلاشينكوف" يُعرف محلياً باسم "أكاية".

وكشف السلوم أنّ "رائد في الأيام الثلاثة الأخيرة، كان حذراً جداً في تحرّكاته، أكثر من السابق، وأخبر بعض المقرّبين منه أنه سيخبرهم بمخاوفه، لدى قدومه إلى تركيا الذي كان مقرراً اليوم السبت".

لكن رائد رحل قبل أن ينقل مخاوفه، فعصر الجمعة وبعد نحو ساعتين من حادثة الاغتيال، حمل مئاتٌ من السكان وأصدقاء رائد وحمود جثمانيهما، من مشفى كفرنبل إلى جامعها الكبير، ومنهُ إلى مقبرة الحي الشرقي في مدينة كفرنبل، التي أبى رائد مغادرتها، وأصرَّ على البقاء فيها، رغم كل المخاطر التي كان دائماً يُردد أنه يعرفها جيداً، ويدرك أنها قد تُنهي حياته... في أي لحظة.

دلالات

ذات صلة

الصورة
من مجلس العزاء بالشهيد يحيى السنوار في إدلب (العربي الجديد)

سياسة

أقيم في بلدة أطمة بريف إدلب الشمالي وفي مدينة إدلب، شمال غربي سورية، مجلسا عزاء لرئيس حركة حماس يحيى السنوار الذي استشهد الأربعاء الماضي.
الصورة
آثار قصف روسي على إدلب، 23 أغسطس 2023 (Getty)

سياسة

شنت الطائرات الحربية الروسية، بعد عصر اليوم الأربعاء، غارات جديدة على مناطق متفرقة من محافظة إدلب شمال غربيّ سورية، ما أوقع قتلى وجرحى بين المدنيين.
الصورة
غارات روسية على ريف إدلب شمال غرب سورية (منصة إكس)

سياسة

 قُتل مدني وأصيب 8 آخرون مساء اليوم الثلاثاء جراء قصف مدفعي من مناطق سيطرة قوات النظام السوري استهدف مدينة الأتارب الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة
الصورة
وفد أممي في مخيم نازحين سوريين في إدلب - سورية - 14 أكتوبر 2024 (العربي الجديد)

مجتمع

زار وفد من الأمم المتحدة مدينة إدلب السورية، للاطلاع على أوضاع مواطنين سوريين وصلوا أخيراً بعد مغادرتهم لبنان وسط العدوان الإسرائيلي المتصاعد هناك.