ليست جريمة اغتيال الناشطين رائد الفارس وحمود جنيد في كفرنبل، يوم الجمعة الماضي، على يد مسلحين يعتقد أنهم من "جبهة النصرة"، الأولى من نوعها في إدلب، بل تكاد حوادث الاغتيال تكون شبه يومية هناك، في ظل الفوضى الأمنية السائدة.
غير أن هذه الجريمة ربما تكون الأكبر أثراً بسبب ما يحتله الراحلان من موقع في الحراك المدني السلمي في إدلب والثورة السورية من جهة، وكونها تمت في وضح النهار وبوجوه مكشوفة من جهة أخرى، مع ما يحمل ذلك من رسائل تخويف وتهديد لمجمل الناشطين المدنيين. وتأتي هذه الجريمة في وقت تحاول فيه حركة المجتمع المدني منذ أشهر مقاومة طغيان السلاح على الثورة السورية، في الساحة الوحيدة المتبقية بيد المعارضة، وهي مدينة إدلب، وبعض مناطق الشمال السوري، من خلال التظاهرات الأسبوعية التي شارك فيها مئات آلاف الأشخاص، ومن خلال حركات الاحتجاج والاعتصام التي تظهر بين الحين والآخر ضد بعض ممارسات الفصائل المسلحة، خصوصاً تلك المحسوبة على الإسلام المتشدّد.
ومن الشخصيات البارزة التي عملت إلى جانب الراحلين الفارس وجنيد الناشطة غالية الرحال، التي أنشأت مؤسسة "مزايا"، التي تعنى بشؤون المرأة في كفرنبل وعموم الريف الجنوبي في محافظة إدلب، وهي والدة الناشط الراحل خالد العيسى، الذي قتل، في يونيو/ حزيران 2016، باستهداف منزله بعبوة ناسفة، برفقة الناشط هادي العبدالله الذي نجا من الحادثة. وحول أثر غياب الفارس وجنيد على الحراك المدني والسلمي في محافظة إدلب، قالت الرحال، لـ"العربي الجديد"، إن "اسم كفرنبل كما نعلم بات معروفاً في العالم كله من خلال لافتات رائد الفارس وزميليه حمود جنيد وخالد العيسى، قبل أن ينضم إليهم في وقت لاحق هادي العبدالله. وأنا كنت معهم منذ البداية من خلال تأسيسي لمركز مزايا الذي يهتم بشؤون المرأة. لقد كانت كلمات الفارس سلاحاً في وجه النظام وروسيا، ثم بعض التنظيمات المتطرفة التي تتسلط اليوم على رقاب العباد". وأضافت "لا شك أن غيابهما سيترك فراغاً كبيراً، ليس لدى موظفي يو أر بي (اتحاد المكاتب الثورية) في إدلب والذين يزيد عددهم عن 400 موظف، بل في مجمل الحراك السلمي في المحافظة، لأنه كانت لديهما طاقة كبيرة، ومنهما نستمد العزيمة والمعنويات".
وحول طبيعة المؤسسات التي كان يشرف عليها الفارس، أوضحت الرحال "أنها متنوعة وتتبع جميعها إلى اتحاد المكاتب الثورية، وتغطي مجالات عدة، مثل المكتب الإعلامي الذي يدير راديو فرش ومركزاً للتدريب، ومؤسسة مزايا، وعدة مراكز للأطفال ونقطتين طبيتين ومكتب للموارد البشرية ومكاتب مالية ولوجستية". وأوضحت أن "حجم واستمرار مجمل النشاط المدني مرتبط بمواصلة تلقي الدعم من الجهات الداعمة التي كانت تولي ثقتها لرائد الفارس ورفاقه، ونأمل أن يتواصل هذا الدعم الآن". وحول الأثر المحتمل لعملية الاغتيال على الناشطين وإمكانية شعورهم بالخوف بعد اليوم، رأت أنه "ليس كل الناشطين معرضين للاغتيال، خصوصاً أولئك الذين يؤدون عملاً وظيفياً محدداً، وليس لهم آراء سياسية أو نشاط مجتمعي كما كان للراحلين الفارس وجنيد، اللذين كان لديهما فكر منفتح وأهداف محددة، وبالتالي لم يتم استهدافهما لشخصهما بالذات، بل بسبب هذا الفكر الذي لا يروق للبعض". وكشفت الرحال أن الفارس تعرض لسلسلة من التهديدات أخيراً، وكان يرغب في مغادرة إدلب باتجاه تركيا، لكنه لم يحصل على تصريح الدخول المطلوب من جانب السلطات التركية، وكان يبيت في الفترة الأخيرة في أماكن مختلفة، متنقلاً بين عدة بيوت في بلدته كفرنبل والبلدات المجاورة.
من جهته، طالب الناشط خالد أبو صلاح بعدم السكوت عن هذه الجريمة، أو تركها تمر كما مر غيرها من الجرائم، لأن رسالة التخويف التي تحملها للناشطين المدنيين يجب الرد عليها بتأكيد العزيمة على مواصلة المسيرة التي اختطها الفارس ورفاقه. وحمل النظام السوري المسؤولية المباشرة أو غير المباشرة عن هذه الجريمة، بمعنى أنه هو من هيأ الظروف لتصل الأمور إلى ما وصلت إليه في سورية، منذ أن واجه التظاهرات السلمية بالرصاص وهيأ الأجواء لخروج جماعات متطرفة، معظم قادتها خرجوا من سجونه، فالجريمة وإن تمت بأيدي هؤلاء المتطرفين المجرمين إلا أنهم ليسوا سوى أداة بيد المجرم الأكبر.
ورأى أبو صلاح، الذي يتنقل بين تركيا والمناطق المحررة في الشمال السوري، في حديثه مع "العربي الجديد"، أن "بعض هذه الجرائم عبثية تتيحها ظروف الفوضى وتستهدف طلب فدية أو تصفية حسابات، لكن معظمها مقصود ومخطط له لغايات أكبر من ذلك، وصاحب المصلحة الرئيس فيها هو النظام، فيقوم في بعض الأحيان بتنفيذها بشكل مباشر، عبر عملائه المدسوسين في المناطق المحررة"، مشيراً إلى حادثة مقتل عناصر الدفاع المدني أخيراً، إذ لا مصلحة لأي طرف غير النظام في قتلهم، وتشهد على ذلك الحملة الشرسة التي يشنها عليهم في المحافل الدولية بالتعاون مع حليفته روسيا، باعتبار الدفاع المدني من المؤسسات القليلة التي نقلت المحنة السورية من دون أن تتحزب أو تعمل تحت أي إطار سياسي ضيق. وطالب بالتعامل بحكمة مع جريمة الاغتيال، بحيث لا يتم تمكين مرتكبيها من تحقيق أهدافهم في تخويف النشطاء الذين يستمدون العزم والقوة من بعضهم البعض.
وحول أثر غياب الفارس وجنيد على الحراك السلمي في المحافظة، قال أبو صلاح إن "غيابهما لن يستطيع أحد سده، لكن أهل كفرنبل حولوا مدينتهم منذ سبع سنوات إلى أيقونة للثورة وسيواصلون النضال السلمي الذي بدأه الراحلان". وطالب الجميع بدعم بقية العاملين في المكتب الإعلامي، و"عدم الصمت على هذه الجريمة، ومواجهة القتلة، عبر التأكيد على قيم الثورة في الحرية والكرامة والعدالة في إطار الخيار الوطني والديمقراطي لكل سورية". وأوضح أن أجواء العمل الثوري باتت أكثر صعوبة في ظل الفوضى الأمنية التي يرعاها النظام، وتنخرط فيها قوى عسكرية محسوبة على المعارضة عن قصد أو دون قصد، والهدف الرئيس لها الإجهاز على أمل السوريين بمستقبل أفضل، وليكون خيار العودة لسلطة النظام هو الخيار الأقل سوءاً من الفوضى. وقال "رغم كل هذه الصعوبات لا تزال إدلب وأهلها يتظاهرون سلمياً، ويؤكدون على أهمية نضالهم بوجه كل قوى الظلام والاستبداد".
أما الناشط محمد السلوم، أحد رفاق الراحلين الفارس وجنيد، فقال، لـ"العربي الجديد"، حول أثر غيابهما على الحراك السلمي في المحافظة، إن "حمود مصور وغيابه يغيب كاميرا نشطت في نقل معانة المدنيين وجرائم النظام. والخسارة الكبرى كانت بغياب رائد كونه كان مسؤولاً عن اللافتات في كفرنبل، والتي ميزتها منذ 2011 وميزت الثورة السورية بشكل عام بعد أن أصبحت اللافتات جزء من هوية الثورة". وأضاف السلوم أنه "خلال السنوات السابقة، ومع اشتداد القمع، تراجعت الأصوات المدنية يوماً بعد يوم نتيجة قصف النظام وروسيا وتقدم القوى المتطرفة التي تحاول لجم الصوت المدني. لذلك فإن أية خسارة للصوت المدني، هي خسارة كبيرة، فما بالك إذا كانت بوزن رائد وحمود". وتابع أن "طريقة الجريمة ووقاحة تنفيذها في وضح النهار بوجوه مكشوفة فيهما تحدٍ لإمكانية المحاسبة، وهو ما قد يدفع الكثير من الأصوات إلى الصمت خوفاً من مواجهة مصير مشابه. ومن هنا فإن للجريمة أبعاداً مباشرة تستهدف إسكات الأصوات المتبقية".