لم تُقدم السلطات السودانية حتى اليوم إحصاءات نهائية بأعداد الذين أوقفتهم في الاحتجاجات. واقتصر الموقف الرسمي على تصريح يتيم لوزير الداخلية أحمد بلال عثمان، أمام البرلمان في الأسابيع الأولى من الاحتجاجات التي انطلقت في 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي، قال فيه إن العدد الكلي للموقوفين وصل إلى 816 موقوفاً، بينما تقدرهم المعارضة بأكثر من 2000 شخص.
وتواصل السلطات إطلاق سراح بعضهم بصورة شبه يومية. وكانت أكبر دفعة تم إطلاق سراحها في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، حين أفرجت عن 186 منهم بقرار من مدير جهاز الأمن والاستخبارات الفريق صلاح قوش بعد زيارته لسجن الهدى في أم درمان. لكن عمليات الإفراج شبة اليومية، تقابلها موجات اعتقال جماعية، خصوصاً في الأيام التي تتجدد فيها الاحتجاجات، لتبقى إعلانات الرئيس عمر البشير عن قرار إطلاق سراح كل من اعتقل خلال تجمعات المعارضة، مجرد كلام، بدا وكأن الهدف منه محصور بتهدئة الشارع الرافض لبقائه في الحكم ولاستمرار نظامه.
عقيل أحمد ناعم، مواطن سوداني في الأربعين من عمره، دعا في التاسع من يناير/كانون الثاني على صفحته الشخصية في "فيسبوك"، مواطني مدينته الجيلي شمال الخرطوم، للتجمع والتظاهر، تنديداً بالأوضاع المعيشية في البلاد، والضغط من أجل تنحي حكومة البشير، وهو ما كلفه 31 يوماً من الاعتقال، على غرار مئات الأشخاص الذين اعتقلوا منذ بدء الاحتجاجات الشعبية في 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي. ويروي عقيل أحمد ناعم، الذي سبق أن عمل صحافياً في عدد من الصحف السودانية، لـ"العربي الجديد" تجربة اعتقاله، موضحاً أن قوة أمنية اقتادته من منزله في العاشر من يناير الماضي، وذهبت به إلى مقر أمني في مدينة الجيلي، قبل أن تنقله إلى مقر آخر في مدينة بحري، وأخيراً نقلته إلى مقر موقف شندي، أشهر معتقلات العاصمة الخرطوم. ويوضح أن الغرفة التي قضى فيها معظم أيام اعتقاله لا يتجاوز طولها 3 أمتار ونصف المتر، وعرضها نحو ثلاثة أمتار، مصممة في ما يبدو للحبس الانفرادي، ومكث فيها مع 8 معتقلين آخرين، وداخلها حمام واحد، وسرير واحد، مع فرش على الأرض بعدد الموجودين. وحول العناية الصحية داخل المعتقلات، يقول ناعم إنها "متوفرة".
أما إسراء عمر الفاروق، اختصاصية الأشعة (25 سنة)، فقد جرى اعتقالها مرتين منذ بدء الاحتجاجات. وتقول إسراء، لـ"العربي الجديد"، إن طريقة إلقاء القبض عليها في المرة الأولى كانت عنيفة، إذ تعرضت مع أكثر من 50 سيدة للضرب المبرح بالسياط على ظهورهن، وبعد نقلها مع زميلاتها أُجلسن في المعتقل لنحو ساعة في مساحة خارجية، وسط أجواء باردة جداً في ذلك اليوم، ثم نُقلت إلى غرفة عالية التكييف مع رش الأرضية بالمياه. وفي اليوم التالي، تقول فاروق، ومع بداية التحقيق معها، بدأت عملية توجيه الإساءات اللفظية لهن مع تأخير في تقديم وجبات الطعام، وعدم السماح لهن بدخول دورات المياه إلا بعد إلحاح المعتقلة على ذلك، وفي اليوم الثالث تم إطلاق سراحها. أما في المرة الثانية لاعتقالها، يوم الخميس الماضي، فتقول إسراء الفاروق عن تلك التجربة إنها "تقدم شهادتها لله"، لأن المعاملة اختلفت كلياً على حد تعبيرها، إذ لم يتم التعرض لها ولمن معها من السيدات، وعددهن نحو 150 سيدة، بأي عنف.
وبعيداً عن رواية إسراء الفاروق وعقيل ناعم، فإن حادثة المدرس في المرحلة الثانوية بمدينة خشم القربة شرق البلاد، أحمد الخير عوض الكريم، والذي قتل بعد تعرضه لإصابات بليغة في أجزاء واسعة من جسده، أثناء التحقيق معه، بحسب اعتراف النيابة العامة، أثارت غضباً واسعاً في الشارع السوداني الذي صدمته الشهادات التي أدلى بها زملاء المدرس الراحل في المعتقل، إذ أفادوا أن عوض الكريم تعرض إلى أصناف من التعذيب أفقدته حياته. وضغطت موجة الغضب حول تلك الجريمة، نحو تشكيل عدد من لجان التحقيق، وبموجبها أوقف الأشخاص المشتبه بتورطهم فيها، مع التزام من النيابة العامة بتقديمهم للمحاكمة، بحسب الرواية الرسمية للسلطات السودانية. كما أثارت حادثة أخرى، هي قتل الطالب محجوب التاج محجوب، بعد إلقاء القبض عليه مباشرة من أمام جامعة الرازي الخاصة، جدلاً واسعاً حول طريقة وفاته، وسط أحاديث عن تعرضه لضرب مبرح خلال الفترة الوجيزة التي اعتُقل فيها. كذلك أثارت حادثة اعتقال ياسر السرعلي، وهو مصاب برصاصة أثناء تظاهرات في الخرطوم، جدلاً مماثلاً بعدما أحدثت الرصاصة كسراً في أضلاعه، وثقباً في الرئة، واستقرت في الحبل الشوكي، وكان من المقرر أن يسافر خارج البلاد لتلقي العلاج، لكنه ظل رهن الاعتقال قبل أن يُطلق سراحه لاحقاً بعد ضغوط داخلية وخارجية، تصدرتها منظمة العفو الدولية.
وعن التعذيب داخل المعتقلات، أصدر جهاز الأمن والاستخبارات الوطني بياناً أكد فيه أنه مؤسسة وطنية رسمية معروفة، و"سيبقى يؤدي عمله ومهامه بمهنية واحترافية والتزام تام بالقانون الذي هو الحاكم والضابط لكل تصرفات وتحركات عضوية الجهاز". وأشار الجهاز، في بيان، إلى "تمسكه بالحزم والجدية والانضباط التام في أداء مهامه بعيداً عن أي تجاوزات للقانون والأعراف السودانية المرعية"، موضحاً أنه "في الحالات النادرة التي تقع فيها تجاوزات، لم ولن يتردد في محاسبة العضو المتجاوز، بعيداً عن أي مجاملة أو عصبية مهنية، مع الالتزام بالمبادئ الوطنية والمهنية التي قام عليها صرحه". لكن المحامي والناشط الحقوقي، المعز حضرة، يقول إن الإفادات التي أدلى بها عشرات المعتقلين بعد خروجهم، تؤكد وجود حالات تعذيب داخل المعتقلات تخالف القانون والدستور والاتفاقيات الدولية لمناهضة التعذيب. ويوضح حضرة، لـ"العربي الجديد"، أن التعذيب يبدأ من لحظة القبض على المعتقل بالضرب المبرح والذي ظهر على أجساد كثير من المعتقلين في صور وفيديوهات قصيرة. وأبدى أسفه الشديد لعدم تحرك أي جهة لوقف تلك الانتهاكات أو التحري عنها بما في ذلك لجنة تقصّي الحقائق التي شكلها رئيس الجمهورية "التي لم تتكرم حتى اليوم بالجلوس مع الأشخاص الذين أكدوا تعرضهم للتعذيب"، على حد تعبيره، مشيراً إلى أن كل ذلك "يكشف عن غياب دولة القانون في السودان". ويوضح حضرة أن "جهاز الأمن وحتى اليوم لم يصدر بياناً يدين فيه الحادثة الثابتة بمقتل معلم خشم القربة، بل عمد في البداية إلى تضليل العدالة بالحديث عن تسمم غذائي للمعلم داخل المعتقل"، مشيراً إلى أن "فيديو واحدا قصيرا كان كفيلاً باستقالة وزير الداخلية ومدير جهاز الأمن وكافة المسؤولين الأمنيين".