اعتراف إسرائيلي بفشل مشاريع تهويد الجليل

30 نوفمبر 2019
تراجع نسبة الإسرائيليين اليهود في الجليل (Getty)
+ الخط -
أقر تقرير نشرته صحيفة "مكور ريشون" التابعة للتيار الديني الصهيوني الاستيطاني، بحقيقة فشل جهود حكومات الاحتلال الإسرائيلي في تهويد الجليل، ليس لجهة المعطيات الإحصائية المتعلقة بتراجع نسبة الإسرائيليين اليهود مقابل ثبات عدد السكان الفلسطينيين العرب فحسب، وإنما أيضاً لجهة فشل دولة الاحتلال الإسرائيلي بإنشاء بنية اقتصادية جذابة قادرة على توفير أسباب بقاء الأجيال الشابة من اليهود الإسرائيليين، الذين ولدوا في العقود الأخيرة في المستوطنات والبلدات اليهودية في الجليل، من جهة، وافتقار المخططات والأساس التطبيقي الرسمي لسياسات وخطط الحكومة، إلى عوامل تجذب الأجيال الشابة من الطبقة الوسطى، وتترك بلدات المركز ووسط إسرائيل وتنتقل للسكن في البلدات والمستوطنات الجديدة، من جهة أخرى.

وبحسب التقرير، فقد بات أكيداً أن "الأغلبية اليهودية" في الجليل قد ضاعت منذ فترة (53 في المائة من العرب مقابل 47 في المائة من اليهود)، وأن الانتقال والهجرة السلبية من هناك إلى مدن وبلدات المركز آخذان بالازدياد. ففي العام الماضي ترك محافظة صفد (مدينة صفد التاريخية التي اقتلع اليهود وهجّروا أهلها منها خلال حرب النكبة، وباتت معقلاً لليمين الديني العنصري) وحدها 5300 يهودي مقابل هجرة 4400 شخص للسكن فيها وفي المستوطنات المحيطة بها الواقعة في سهل الحولة ومحيط بحيرة طبريا والبالغ عددها 64 مستوطنة.
ويأتي هذا في الوقت الذي حظيت فيه مدينة صفد بميزانيات هائلة، عدا عن الاعتراف الرسمي بكلية صفد الأكاديمية. ويشير التقرير إلى أن "ميزان الهجرة السلبية" بحسب المصطلحات الصهيونية، يطاول أيضاً مناطق في الجليل الغربي والأعلى، مثل عكا ومرج بن عامر ومناطق أخرى في الجليل.

ووفقاً لدراسات اعتمد عليها التقرير، أجريت في السنوات الأخيرة حول تشكيلة المجموعات السكانية لليهود الذين هجروا الجليل، فقد تبيّن أنه منذ عام 2000 حين اقتربت نسبة اليهود والفلسطينيين في الداخل من حد التعادل، فقد هاجر من الجليل نحو 30 في المائة من اليهود حتى جيل 25 عاماً ممن ولدوا لمستوطنين يهود وانتقلوا للسكن في الجليل في موجات التهويد الرسمية التي انتهجتها حكومات الاحتلال منذ بدء عملية ومخططات التهويد في عام 1953. في المقابل، فإن نسبة الشبان الفلسطينيين العرب من الفئة العمرية نفسها الذين تركوا الجليل وانتقلوا للسكن في بلدات أخرى لا تتعدى 20 في المائة.

وبحسب البروفسور الإسرائيلي، دورون لافي، من الكلية الأكاديمية في تل حاي، (وهي كلية أقيمت قبل نحو 20 عاماً بغية تكريس بقاء الاستيطان اليهودي في أعالي الجليل، عبر توفير خدمات تعليم عال) "فقد فقدنا غالبية الشبان اليهود الذين وُلدوا في مستوطنات الجليل ويمكنهم تطوير المنطقة، وهذا معطى هائل يعكس فقدان كل طاقة ممكنة قادرة على تحقيق الاختراق الاقتصادي الذي كان يمكن له أن يتطور في الجليل".

ومع أن الحكومات الإسرائيلية أطلقت مشاريع كثيرة لتهويد الجليل، هدفت في بدايتها عندما أطلقها رئيس الحكومة الأولى، دافيد بن غوريون، في عام 1953، إلى ترسيخ السيطرة على ملايين الدونمات التي تمت مصادرتها ووضع اليد عليها بعد حرب النكبة، خصوصاً أراضي القرى التي تم تدميرها وتهجيرها، إلا أنه يتضح أن هذه المشاريع لم تكن قادرة على تغيير الميزان الديمغرافي في الجليل وتكريس أغلبية يهودية، تحول دون تحقق أحد كوابيس دولة الاحتلال في سنواتها الأولى، وهو محاولة مطالبة فلسطينيي الجليل بحكم ذاتي أو حتى الانفصال عن دولة الاحتلال في حال اندلاع حرب مع دول الطوق العربية.

وكان بن غوريون أصدر قراراً حكومياً رسمياً في 18 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1956 تحت غطاء الدوافع الأمنية، ونصّ البند 15 من القرار على "تهويد الجليل والناصرة"، وهو ما أطلق لاحقاً قرار بناء مدينة يهودية على أراضي صودرت من مدينة الناصرة والقرى العربية المحيطة بها لإقامة مدينة "نتسرات عيليت" أي الناصرة العليا. ثم طورت الحكومات الإسرائيلية مشاريع إضافية شملت أيضاً بناء مدينة يهودية أخرى في قلب الجليل في منطقة الشاغور، هي مدينة كرميئيل، في أواسط السبعينيات، وبناء مدينة "معالوت ترشيحا" عبر فرض ضم قسري لقرية ترشيحا الجليلية إلى مستوطنة معالوت، والاستيلاء على أراضي القرية العربية لصالح إقامة مخططات استيطانية يهودية.


وبلغت مخططات التهويد أوجها في المصادرات التي سبقت يوم الأرض في قرى مثل سخنين وعرابة ودير حنا، ثم ما تبعها من إعلان حكومة "الليكود" تحت قيادة مناحيم بيغن، عام 1979، عن إطلاق مخطط بناء 28 مستوطنة يهودية جديدة في الجليل، وصل عددها في السنوات الأخيرة إلى أكثر من 48 مستوطنة، تمت إقامتها على وجه السرعة وبنفس طريقة إقامة المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية، عبر إيفاد ما بين 16 و19 عائلة كنواة استيطانية.
وكانت الخطة التي أُقرت في جلسة مشتركة للحكومة ولمنظمة الهستدروت الصهيونية العالمية في إبريل/نيسان 1979 أقرت إقامة 30 بلدة يتم توزيعها جغرافياً في مناطق مختلفة في الجليل، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، عبر الاستعانة بموجات الهجرة المختلفة لتوجيه المهاجرين الجدد إلى هذه النقاط الاستيطانية.

وبحسب البروفيسور دورون لافي، الذي يقدّم من وجهة نظر الصهيونية وأهدافها، نبوءة شؤم، فإن الهجرة السلبية تفوق حتى الزيادة الطبيعية في البلدات والمستوطنات الإسرائيلية في الجليل. وينسب لافي هذه الهجرة السلبية بالأساس إلى غياب أفق اقتصادي "نوعي" في الجليل حتى في وجود مؤسسات مدعومة حكومياً هدفها توفير أماكن عمل، مثل مؤسسات ومعاهد أبحاث مختلفة، لأن الواقع الحالي في الجليل لا يجعل الأجيال الناشئة تطمئن إلى وجود أمان اقتصادي واستقرار لدى العائلات.
ويؤكد هذا الادعاء أيضاً مدير معهد الأبحاث "ميغيل" في مستوطنة كريات شمونة الحدودية مع لبنان، دافيد زغيدون، الذي يقول للصحيفة "إن ما يُبقي الناس في منطقة محددة هو الأمن الاقتصادي والأمان الوظيفي إلى جانب توفير الأمن الشخصي، وفي الجليل فإن أموراً عدة في هذا السياق لا تتوفر".

وتأتي هذه التوقعات أيضاً على خلفية توقف نمو المستوطنات اليهودية في الجليل منذ عام 2000، ولكن أيضاً بفعل موجة هجرة عربية فلسطينية في الجليل، بسبب سياسات التضييق الإسرائيلية على البلدات العربية وحرمانها من مخططات التطوير والبناء، إلى المستوطنات والبلدات اليهودية التي أقيمت أصلاً لتهويد الجليل. وقد بلغت هذه الموجات التي بدأت قبل نحو عقدين أوجها في الأعوام الأخيرة مع ارتفاع نسبة العرب في مدينة "نتسرات عيليت" التي أقيمت للحد من تطور الناصرة، على نحو 25 في المائة من مجمل سكان المدينة التي غيّرت اسمها أخيراً من "نتسرات عيليت" إلى "نوف هجليل"، أيضاً بفعل العنصرية الإسرائيلية واشتكاء سكانها اليهود من تشابه اسم مدينتهم مع المدينة الأم الناصرة.
ولم يقف الأمر عند "نتسرات عيليت" بل إن كرميئيل التي أقيمت كما أسلفنا في منطقة الشاغور، تحوّلت هي الأخرى في السنوات الأخيرة إلى "بلدة مختلطة" مع ازدياد نسبة العرب الفلسطينيين من القرى المجاورة، الذين انتقلوا للسكن فيها بعد نزوح سكان يهود عادوا إلى مركز ووسط إسرائيل، وباعوا شققهم لمواطنين عرب من القرى المجاورة.

في المقابل، وفي ظل هذه الموجة العربية لاقتحام المستوطنات اليهودية في الجليل، بفعل منع البناء في البلدات العربية، رفعت العنصرية الإسرائيلية رأسها من جديد بعد بيع عشرات الشقق في مشاريع إسكان رسمية في مدينة العفولة، وأقرت بلدية العفولة إلغاء مناقصات بناء هذه المشاريع تحت ضغط اليمين الإسرائيلي العنصري في المدينة، الذي دفعته العنصرية إلى توجيه سهام الانتقادات للحكومة الإسرائيلية وسياساتها بتقييد البناء في البلدات العربية الفلسطينية المجاورة مما يفتح الطريق أمام وصول أزواج شابة عربية من الطبقة الوسطى لشراء بيوت في المدن اليهودية في الجليل.

وبحسب البروفيسور لافي، فإن فشل السلطات المحلية اليهودية في الجليل، على الرغم من كثرتها، في تشكيل لوبي ضاغط على الحكومة للاستثمار في تطويرها، يؤدي إلى النتيجة الحتمية الحالية وهي انتقال الشرائح القوية أو الواعدة للعيش في منطقة المركز في إسرائيل، حتى في صفوف من قدموا للاستيطان في الجليل لأسباب أيديولوجية.



المساهمون