أهالي مهاجري جرجيس الغارقين يتهمون السلطات التونسية بالتعتيم

17 أكتوبر 2022
أهالي المفقودين يطالبون بالحقيقة (ياسين محجوب/Getty)
+ الخط -

أصبح تسلّم الجثامين أكبر أمنيات أهالي المفقودين من بين 18 مهاجراً سرياً من مدينة جرجيس التونسية، بينما يتابعون نتائج التحليل الجيني للجثث التي جرى انتشالها، وأُودعت بمشارح قابس ومدنين.

يتجمّع البحارة وعدد من الأهالي في ميناء جرجيس القديم حول "الريس شمس الدين بوراسين" ينتظرون آخر الأخبار القادمة من البحر، أو من الدوائر الرسمية، في انتظار تحريك أسطول سفن الصيد بحثاً عن جثث جديدة لضحايا غرق مركب المهاجرين، عسى أن يطفئ دفنهم لوعة أهلهم، وغضب كلّ سكان المدينة.
في جرجيس، يظهر الألم والغضب أيضاً على وجوه البحارة الذين سخروا كلّ إمكاناتهم لتمشيط البحر والشواطئ، من "برج قسطيل" إلى "العقلة" إلى "مرمور" وصولاً إلى جزيرة "جربة"، إذ يقود الصيادون الحراك الميداني، ويتفاوضون مع السلطات والمنظمات ويلملمون جراح الأسر المكلومة، ويتقاسمون الأوجاع مع أهالي المفقودين بعد غرق مركب الهجرة.
يقول رئيس جمعية البحارة، شمس الدين بوراسين: "القوارب متوقفة عن الصيد منذ نحو أسبوعين، فلا شيء أهم من الوقوف إلى جانب أهالينا، واستعادة جثث ضحايا المركب بالمجهود المدني للصيادين الذي يدعمه أهالي الجهة".
ويوضح بوراسين لـ"العربي الجديد"، أن "الصيادين وأهالي المدينة قرروا البحث عن المفقودين بمجهوداتهم الخاصة، بعد أن خذلتهم السلطات، وروجت معلومات خاطئة أربكت الأسر. السلطات المحلية أكدت أن المهاجرين دخلوا إلى المياه الإقليمية الليبية، وجرى احتجازهم من دون تقديم أية تفاصيل أخرى عن عدد الناجين، أو هوياتهم، وظلت تقدم تطمينات مغلوطة نهاراً، وتدفن جثث المهاجرين ليلاً من دون إجراء التحاليل الجينية، أو محاولة الاتصال بعائلات المفقودين الذين قدموا بلاغات رسمية منذ 23 سبتمبر/أيلول".
ويقول الأهالي إنهم بحثوا طويلاً عن طريق صيادين ليبيين عن أي أثر لأبنائهم في السجون أو مراكز التوقيف الليبية، وتأكدوا من عدم وجودهم، مما أثار شكوكهم حول الرواية الرسمية للسلطات المحلية، وجعلهم يقررون التعويل على إمكاناتهم الخاصة في تمشيط البحر، عبر الاستعانة بجهود الصيادين من أبناء الجهة. 
ويمثل الصيد البحري أحد أهم الأنشطة الاقتصادية في مدينة جرجيس، ما يفسر الانخراط الكبير للصيادين في عملية البحث عن المفقودين، وتعد المدينة أكثر من 75 ألف نسمة، ونحو 30 ألفاً من أبنائها يقيمون في الخارج، ولا سيما فرنسا، وتساهم تحويلاتهم بشكل كبير في تنمية الجهة.

لا يعرف الأهالي مصير المهاجرين المفقودين (العربي الجديد)
لا يعرف الأهالي مصير المهاجرين المفقودين (العربي الجديد)

كان الصياد بشير الزواري أول من أمسك خيط الحقيقة، إذ عثر على جثتين لمهاجرين، وقام بإبلاغ الحرس البحري لرفع الجثث، لكنها اختفت لاحقاً، وتلا ذلك أدلة أخرى أكدت أن القارب غرق، وأنه ركابه في عداد المفقودين. 
يقول الزواري: "أبلغت السلطات البحرية بالعثور على جثتين، لكني لم أتمكن من تحديد هويتهما، ولم تقم السلطات بإبلاغ الأهالي، وجرى لاحقاً التأكد من أن الجثث دفنت ليلاً في مقابر الغرباء من دون إخضاعها لتحليل الحمض النووي".
لكنّ العثور على جثة ملاك (26 سنة) في منطقة برج قسطيل الأثرية، كان نقطة التحوّل في ملف مفقودي "قارب الهجرة 18-18" كما يسميه الأهالي، إذ تعرّفت عائلتها على الجثة عن طريق أسورة كانت في يدها، ثم لفظ البحر لاحقاً حقيبتها وأغراضاً أخرى لمشاركين في الرحلة نفسها. 
يقول الصياد بشير الزواري إن "العثور على جثة ملاك يوم 5 أكتوبر/تشرين الأول، استنفر البحارة والأهالي لتمشيط البحر بحثاً عن جثث باقي المهاجرين الغرقى، وتمكنوا تباعاً من العثور على جثث كل من أيمن الوريمي، وسيف الدين بالهيبة، ومنى عويدة، وحازم المهندس، على الخط البحري ذاته. كان قرار مشاركة الصيادين طوعياً لمساندة الأسر، ففي جرجيس تربط أغلب الأهالي صلات قرابة ونسب".

أهالي جرجيس غاضبون من السلطات المحلية (العربي الجديد)
أهالي جرجيس غاضبون من السلطات المحلية (العربي الجديد)

وأضاف أن "المساندة جاءت من أبناء الجهة في الخارج، والذين تطوّع العديد منهم لتقديم الدعم المالي من أجل توفير المحروقات لمراكب الصيد، والتي تمكّنت من العثور على 8 جثث، دفن 5 منها فقط بعد التأكد من هوياتهم، ولا يزال البقية في انتظار تقارير الطب الشرعي".
ويقول الأهالي في شهادات جمعتها "العربي الجديد"، إن الكثير من الشكوك تحوم حول غرق المركب الذي انطلق من منطقة "العقلة" ليل 21 سبتمبر الماضي، قبل أن يغرق على بعد 28 ميلاً من الشاطئ، بحسب تقديرات البحارة، لكن خلية الأزمة التي تشكلت على مستوى المحافظة لم تنعقد إلا بعد 20 يوماً من غرق المركب.
ويؤكد الأهالي أن الخطاب الرسمي لم يكن واضحاً منذ البداية، إذ حاولت السلطات التعتيم على غرق المركب عبر بث شائعة حول وجود المهاجرين في ليبيا، بينما كانت البلدية تدفن الجثث ليلاً، كما أن السلطات قدمت أرقاماً متضاربة حول عدد أذون الدفن وعدد الجثث، ما تسبب في غضب شعبي كبير، تحول إلى مواجهات بين قوات الأمن والمواطنين الذين تظاهروا في الشوارع مطالبين بالكشف عن مصير أبنائهم.

ويحمّل الناشط المدني علي كنيس، مسؤولي الجهة مسؤولية الغضب العارم الذي يسيطر على مدينته الهادئة، مؤكداً لـ"العربي الجديد"، أن "أسراراً كثيرة يخفيها غرق المركب، والذي خلف ثلاثة أصناف من الضحايا، وهم شباب المدينة الذين توفوا غرقاً في مطاردة حلم الهجرة، وأسرهم التي تكتوي بنار الفاجعة، والحقيقة التي لا تزال غائبة، وتتعمد السلطة مواصلة حجبها".
ويضيف كنيس أن "تورط السلطة في حجب الحقيقة يجعلها محل اتهام مباشر، وتعمد السلطات دفن الضحايا في مقابر الغرباء من دون إجراء التحاليل اللازمة، يبدو كأنه محاولة لطمس معالم جريمة. ضغط الأهالي أجبر السلطات على فتح القبور، وإجراء تحاليل للجثث المستخرجة، ليتبّن لاحقاً أن 3 ممن دفنوا في مقبرة الغرباء هم من أبناء المدينة الذين كانوا على متن القارب المنكوب".
وتضم جرجيس مقبرتين خصصتا لدفن ضحايا الهجرة السرية من مهاجري دول أفريقيا جنوب الصحراء، الذين يختارونها نقطة عبور نحو الضفة الشمالية للمتوسط، وقد ينتهي بهم الأمر أرقاماً في مقابر الغرباء.
فقد كريم عبد الكريم ابنه البالغ 18 سنة في حادث غرق المركب، وليس لديه مطالب سوى أن يستعيد جثته، ويدفنها في مقبرة المدينة بكرامة. يقول عبد الكريم لـ"العربي الجديد": "تحولت حياتي إلى كابوس، وأواصل الليل بالنهار باحثاً عن خيط أمل قد يقود إلى معرفة مصير جثة ابني. شباب المنطقة تتجاهلهم السلطات أحياء وأمواتاً، فهم ضحايا التهميش والبطالة اللذين يدفعانهم إلى الهجرة. الموت يخيّم على المنطقة، والغضب قد يستمر لأشهر إذا ما استمر الغموض بشأن مصير بقية ضحايا المركب. هذا البلد يريد تحويل ضحايا الهجرة إلى مجرد أرقام".

أهالي ضحايا جرجيس يطالبون بالجثامين لدفنها (ياسين محجوب/getty)
أهالي ضحايا جرجيس يطالبون بالجثامين لدفنها (ياسين محجوب/getty)

وتنتقد منظمات مدنية حاضرة في حراك جرجيس طريقة تعامل السلطات مع جثث الضحايا، ويقول رئيس منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، عبد الرحمن الهذيلي، إنه "لا يجد أي تبرير لرفض السلطات إجراء تحاليل الحمض النووي لكل الجثث التي تنتشل من غرق مراكب الهجرة".
ويؤكد الهذيلي لـ"العربي الجديد"، أن "تونس بصدد انتهاك القوانين والأعراف الدولية للهجرة، والتي تقضي بإجبارية إجراء هذه التحاليل، وتخزين البيانات الخاصة بضحايا مراكب الهجرة. كل الدول التي تواجه نزيف الهجرة تتعامل مع الجثث وفق بروتوكول يحمي إنسانية الضحايا، ويكفل حقوق ذويهم في التعرف عليهم عبر المعطيات الجينية".
ولا يتوقف نزيف الهجرة في تونس، كما لا يتوقف انتشال الجثث الذي تحول إلى مهمة يومية للصيادين على امتداد السواحل، فما أن يقترب الناس من نسيان فاجعة غرق قارب مهاجرين، حتى تطل عليهم فاجعة جديدة، فيما يبدو كمسلسل لن يتوقف في ظل وجود العوامل المنتجة للظاهرة، من الفقر، والبطالة، وحالة اليأس التي تنتاب عدداً كبيراً من الشبان في أغلب مدن البلاد، والذين يقبلون على ركوب قوارب متهالكة في رحلات ينتهي كثير منها بالموت غرقاً.
وتقول أرقام منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية إن 507 مهاجرين سجلوا في عداد الضحايا أو المفقودين منذ بداية العام الحالي، وتصاعدت وتيرة الهجرة غير النظامية انطلاقاً من سواحل تونس صوب السواحل الإيطالية خلال الأشهر الأخيرة، وتعلن وزارتا الداخلية والدفاع بوتيرة متكررة إحباط عدد كبير من محاولات اجتياز الحدود البحرية، وتوقيف منظّمين وممولين لعمليات الهجرة، إلى جانب حجز القوارب، فضلاً عن نشر تقارير حول انتشال عشرات من جثث الغرقى.
وأشارت تقارير حكومية إلى إحباط 1509 محاولات هجرة سرية باتجاه إيطاليا خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2022، بينما حذّر التقرير السنوي لهيئة مكافحة الاتجار بالأشخاص من تنامي مخاطر الاتجار السيبراني بالبشر، في ظل قصور قانوني حول الظاهرة في تونس، وبقية دول العالم.

المساهمون