تحرص الأوكرانية إيرينا فيسوتا جرماني على ظهور سنابل القمح في خلفية الصورة بينما تتحدث إلى "العربي الجديد"، عن تجربة عيش الحرب "عن بعد"، بعد مرور سنة على غزو بلادها من "الجارة" روسيا.
تصف المرأة الأربعينية، التي قدمت إلى لبنان في العام 2001 يوم 24 فبراير/ شباط 2022، تاريخ بدء الغزو، بـ"اليوم الأسود"، مستعيدة "التاريخ الحافل بالمشاكل" بين البلدين الجارين، راثية "الأمل الذي كان موجوداً يوماً بعدم الوصول إلى سيناريو الحرب".
تكرر فيسوتا جرماني سرديات بني جلدتها بأنّ روسيا تسعى إلى "محو أوكرانيا"، وتحاول "السطو على التاريخ واللغة والثقافة والأرض"، مستدركة "ونحن لا نريد كما تريد روسيا".
تحكي من بيتها في بيصور، قضاء عاليه، وبلغة عربية لافتة، حتى بلهجة "القاف"، قصة قدومها إلى لبنان، حيث تعرفت إلى زوجها أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية ذوقان جرماني، عندما درسا معاً على مقاعد كلية الاقتصاد في كييف.
تتوقف عند مفارقة كونها بـ"أمان" في لبنان حالياً "حيث أسست عائلة حلوة قوامها خمسة أولاد"، بينما تشاهد الحرب في بلادها، وإنْ من وراء شاشة، حتى وإن كان انقطاع الكهرباء عاملاً مشتركاً رغم اختلاف الظروف.
تقول بينما تخنقها الدموع أكثر من مرة: "الحرب أحياناً أصعب على الإنسان البعيد، لأن من هو موجود تحت القصف والضغط قد يعتاد عليه"، مقرّة بـ"وجود نوع من الشعور بالذنب عند من هو بعيد لأنّه ليس موجوداً هناك، بينما يرغب في قرارة نفسه لو أنه كان كذلك".
لا تعير شاشة التلفاز السوداء، حيث الكهرباء مقطوعة في لحظتها، تلك الأهمية، فـ"الموبايل والإنترنت واتصال الفيديو يسهل التواصل مع الأقرباء والجيران في كييف، حتى وإن كان الروس يحاولون قصف البنى التحتية، كنوع من الضغط على المدنيين كي يستسلموا"، كما تقول.
تأسف فيسوتا جرماني وهي في الوقت عينه رئيسة الجالية الأوكرانية في لبنان، للحال التي وصل إليها "هذا البلد الجميل الذي نحبه"، كما تصف، تقول إنّ لبنان وغيره من الدول العربية التفتوا إلى "أهمية أوكرانيا" بعد أزمة القمح و"الحرب التي غيّرت وجه العالم"، لكنها تشير في الوقت عينه إلى أنّ الجالية التي تأسست مع بدء التحرّكات الروسية في شرق أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم في 2014، تسعى دوماً للفت النظر إلى قضية بلادها وسط الأزمات المتراكمة.
وتذكر في هذا السياق التحرك المناهض للحرب أمام السفارة الروسية في بيروت يوم بدأ الغزو، وتقول: "تجمعنا جميعاً في هذا النهار.. في هذا النهار أطلقنا صرخة.. كنا نبكي"، لكنها تبتسم بينما تستذكر رفع علم أوكراني ضخم في قلعة بعلبك الأثرية، وتضيف: "أخذنا معنا علماً طوله 30 متراً، لأن بعلبك مدينة عريقة في التاريخ، وليس في العالم مثل عظمتها، فكان فخراً لنا أن نرى علم أوكرانيا في مكان كهذا في لبنان".
يقدّر عدد الأوكرانيين في لبنان، وغالبيتهم مثل إيرينا نساء متزوجات بلبنانيين وأولادهم من حملة جنسية أمهاتهن، بحوالي 4 آلاف شخص، قبيل اندلاع الحرب، وفق ما تفيد السفارة الأوكرانية "العربي الجديد"، لافتة إلى أنّ هذا العدد انخفض إلى حوالي 2500 مع تسهيل دول أوروبية والولايات المتحدة وكندا إجراءات استقبال المهاجرين.
تعتبر فيسوتا جرماني أنّ شعب سورية الذي عانى كما شعبها من هجوم روسي على أراضيه، قد يشعر أكثر من غيره بمعاناة أبناء بلدها، لكنها تأسى لأنّ "أي جيل عايش الحرب، سواء في أوكرانيا أو سورية أو لبنان، ستبقى جروحه مفتوحة، ومن الصعب أن يشفيها الوقت"، آملة من شعبي لبنان وسورية أن "يصلوا لنا"، ويدعموا أوكرانيا باعتبارها "حقيقة" و"الأصل لا يمحى".
ورغم هذه "الجروح التي لا تشفى"، لا تبدي أي شك في أنّ "أوكرانيا ستنتصر، لأن من يدافع عن أرضه وأهله يظهر قوة من الداخل.. فماذا أكثر من ذلك؟".
هل ستعود يوماً إلى أوكرانيا؟ تحيل إيرينا فيسوتا الجواب عن هذا السؤال إلى صورة رجل خلفها، قصدت أن يسند ظهرها خلال حديثها لـ"العربي الجديد"، إنه الشاعر والأديب و"الثائر" وأبو اللغة الأوكرانية الحديثة تاراس شيفتشينكو، "ميخائيل نعيمة لبنان" كما تصفه، مذكّرة بأنّ نعيمة كان أول لبناني يتخرج من جامعات أوكرانيا، وهو من ترجم إلى العربية أعمال شيفتشينكو، ومن بينها قصيدة "زابوفيت" (الميثاق).
تقول إنّ الجواب يكمن في هذه القصيدة، وتستعين بابنتها ماري آنا كي تلقيها بلغة عربية فصيحة:
"عندما يدركني الموت، ألحدوني وسط سهبٍ فسيح، من سهوب أوكرانيا الحبيبة. وليكن لحدي على هضبةٍ، تطل على هضاب كثيرة، وعلى الحقول المترامية، وعلى دنيبرو، وأسمع منها، هدير ذلك الهدار الجبار، وأبصر كيف يحمل إلى البحر، دماء أعداء أوكرانيا. عندئذٍ أنهض من لحدي، وأهجر الحقول والهضاب، وبوثبة واحدة أدرك عرش الله، لأرفع إليه صلاتي، أما قبل ذلك، فأنا لا أعرف الله، ألحدوني ثم هبوا، وحطموا الأصفاد، وبدماء الأعداء البغيضة، ارووا الحرية. ثم لا تنسوا أن تذكروني، بكلمة طيبة، في أُسرتكم الجديدة العظيمة، أُسرة الحرية".