كم هو مؤلم أن يجابهك وزير خارجية أوروبي وأنت تسأل عن الأخلاق بسؤال صادم ومعاكس: وماذا فعل العرب لهم؟
الحديث ليس في السياسة، بل في الإنسانية والأخلاق والقيم، التي تنهار دفعات منذ 2011، على هامشها تكرر الموت مرات ومرات، وكأنه المطلوب في قراءة باردة لقيمة شعب سورية، بل تخصيصا لفئة دون غيرها تدفع ثمن "عار البشرية" في التحول إلى " جماهير فرجة".
السؤال ليس عند عدد المرات التي قرع فيها السوريون الخزان، ولا أعداد أطفالهم في الشمس الأوروبية، تنتفخ جثثهم تارة لتنفسهم ماء مالحا وتارة أخرى لتحللها في سيارة تهريب لا هواء فيها. بل هو بمثل سؤال لاجئ، لا يعدم طريقة للهروب من موت محتوم في بلده لأنه لم يعد "يعشق القائد" ولم يعد "من الشعب الذي يقف مع قيادته": " أين العرب منا؟".
سؤال امرأة فلسطينية سورية يؤرق الضمير قبل أن ينفجر دماغها بعد عام ونصف العام على رحلة قسرية، ناجية من مذبحة "جديدة الفضل" بريف دمشق، في أقصى الشمال الأوروبي:" هل سأموت قهرا بعيدة عن المخيم إن لم أعد إليه؟".
من أجل ماذا كل هذه العبثية التي باتت تتكرر في أبشع صورها؟ من أجل ماذا على السوريين والفلسطينيين السوريين أن يموتوا في أبشع صور الموت؟ حتى في خيمة تحترق يموت أطفال سورية دون أن يرف جفن لمنظومة عربية كاملة تغيب هي ومنظماتها عن مشهد العار... هو ليس مشهداً أوروبيّاً، تعقد لأجله قمة، ولا تتحمل مسؤوليته "قبائل القارة" في توحش الدفاع عن حدود القبيلة الفارضة من جديد عصر الصراع على البقاء.
لا صوت لمنظومة "العمل العربي المشترك" ولا منظماتها إلا بالتقطير المذكر بأنها ما تزال تصدر بيانا... صحيح أن رومانيا، أو بلغاريا، أو المجر مَن تحول هذه المرة إلى "أبو الخيزران" لكن الواقع شيء مختلف، فحتى "أبوات" الخيزران العرب يغيبون عن المشهد المؤلم.
هذا "الافتداء بالروح والدم" بحرا وبرا ليس سوى كابوس من زمن العبودية وتحويل الشعوب إلى قطيع، إنه ماثل في التطبيق الفعلي في غياب إرادة عربية لا تحسب حساب ما تصنعه الكوابيس في غد السوريين، والعرب من خلفهم.
نتذكر قصة ذلك الشاب وابنه المحتجزين في مطار عربي، في مايو/أيار الماضي، لـ18 عشر يوما فقط لأن "نفسه سولت له الهجرة"، حينها قلنا إنه ذات يوم وتحت سماء أوروبية سيتذكر ذلك الطفل ما صنعه معه شرطة ذلك المطار باعتباره طفلا عربيا مشبوها يشكل "خطرا على الأمن القومي للدولة". وها هو اليوم بالفعل تحت سماء فرنسية لا يستطيع أن ينسى ما علق بذاكرته.
الخزانات العربية التي طرقها السوريون منذ أعوام لم تؤرق لا أمين عام منظومة العمل العربي ولا منظماتها المتشعبة المنشغلة بتثبيت حاكم مصر وحاكم سورية، الذي لفظ نصف شعبه برا وبحرا مكررا على مسامعنا جميعا:" لولا أن شعبي لا يقف معي لما بقيت يوما واحدا في السلطة"!
هكذا ببساطة حمل ذات يوم صهريج أبو الخيزران هؤلاء اللاجئين الباحثين عن عمل بكرامة بعيدا عن خيمة التغريبة، ومن كل ذلك "الحب لفلسطين" تتكرر تراجيديا حب السوريين بتوقيع صواريخ "الصناعات الحربية المصرية" لتحيل حياتهم إلى مزيد من الاختناق...
خيبات كثيرة تصيب الضحايا، ومن ورائهم ملايين، يتحسسون أجسادهم بأنهم خرجوا من تحت برميل مدمر يلقى عليهم بقهقهة قاتل يتلذذ بلعبة الفناء، باعتبار هؤلاء "يهود الداخل" بفكر لا يفقه مشعل البرميل بسيجارته منه سوى "الخلود للقائد"... خيبات تدمر مجتمعا وبلدا وتحمل بذور مستقبل لا يتلمس منه كثيرون فظاعات اندثار قيم وحلول تراكم رغبات الانتقام في انتشار أعراض الصدمات، التي لا تختفي بمجرد رغبة أحدهم في اختفائها.
الأوروبيون، ورغم العصرنة والحداثة وشعارات القيم الإنسانية، لا يهمهم إن كانت "خير أمة" تحبهم أو تكرههم، ما يهتمون به في عقلية الارتداد القبلي ألا يزاحم أحد على مربعات وجودهم. لكن "خير أمة" التي تزاحم بشعارات حاتمية وإغاثة الملهوف والمحتاج تركل بكل أطرافها عرباً آخرين ليموتوا بعيدا... ما أصعب أن تتذكر ذلك الشاب الفلسطيني الثلاثيني وهو يقول لك: "ولدت في حدود المخيم وهي 2 كم... لم أعرف غيره، وحين حاولت ذات يوم أن أصل إلى عاصمة عربية اكتشفت مدى حبهم لي حين وضعوني في زنزانة أسفل المطار، ثم أعادوني مخفورا إلى المخيم".
أما كان يمكن منذ سنوات أن يستقبل العرب، بعيدا عن عنصرية الصفع في شارع الحمرا ببيروت، والتنكيل والإذلال لكرامة البشر، هؤلاء السوريين مؤقتا مثلما فعلت أوروبا نفسها مع البوسنيين والكرواتيين ريثما تحط الحرب أوزارها ثم يعودون ليبنوا بلديهما؟
السؤال لا جواب بسيطاً له " كلنا فقراء وبلا موارد"، ثم يخرج علينا من يذكرنا بضرورة التسلح بالصبر لتتحرك المنظمات العربية، لكنها إن تحركت فسيكون هؤلاء السوريون المرآة العاكسة لعفن متراكم في طبيعة عملها... ومنها وبلا أي تردد " جامعة الدول العربية"... المسكوت عنها كأحد أهم "التحف التذكارية العربية"... فالفلسطينيون باتوا الأكثر تجربة في "علم الأنتيكا"... اللغوية منها وكراتين الدعم للقدس... بل بعض المتهمين للسوريين بأنهم "يهود الداخل" يغيب عنهم خبر الموت اختناقا... لأنه فضيحة الفضائح: فمن الذي يرمى في البحر ليموت؟