استمع إلى الملخص
- تعبر الممرضة العبدة برجي عن حزنها للدمار في بلدتها، لكنها تؤكد على الأمل في إعادة الإعمار، مشيرة إلى أن العدو يسعى لتدمير الهوية الثقافية والاجتماعية.
- يوضح المؤرخ منذر جابر أن تدمير القرى يهدف إلى تغييرات اجتماعية وديموغرافية طويلة الأمد، مما يؤثر على الأجيال القادمة ويدفع النازحين للتركيز على إعادة بناء حياتهم.
يتواصل العدوان الإسرائيلي على أنحاء لبنان، مخلفاً دماراً وقتلاً وأضراراً، لكن التدمير أكبر وأوضح في القرى والبلدات الحدودية، والتي دمر الكثير منها بالكامل، حتى بات يصعب التعرف إلى معالمها.
يمعن جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء اجتياحه البري للبنان، في تفخيخ وتفجير القرى والبلدات الحدودية، لتتهاوى منازل وأبنية حكومية ومعالم أثرية، وتُدمّر المساجد والحسينيات والمدافن، وتُنسف بلدات كاملة، فضلاً عن اقتلاع الأشجار وتدمير السهول والأراضي الزراعية وبرك الري، والقضاء حتى على الماعز والأغنام، بذريعة حماية المستوطنات المواجهة للحدود.
تتحسّر العبدة برجي على ما حلّ ببلدتها ميس الجبل، من نسف لكامل الأحياء والمباني والشوارع، وتقول لـ"العربي الجديد": "رفضت على مدار 11 شهراً مغادرة البلدة، ثم اضطررت إلى النزوح القسري قبل نحو شهر. ميس الجبل بمثابة الروح التي تحييني، ففيها وُلدت وكبرت وتعلمت، وفيها أسّست حياتي وعلاقاتي. هي الذاكرة والوجدان، وفور وقف إطلاق النار سأهرع إليها لأشتمّ رائحة ترابها. أدرك أنني لن أجد منزلي وحديقتي، وسأفتقد حياتي السابقة حالي حال كل أهل البلدة، غير أني لن أتخلى عن الأمل، وسأعيد إعمار البيت وزراعة الأشجار. سنعود مرفوعي الرأس كشجرة الزيتون، وستعود بلدتنا وكل بلدات جنوب لبنان إلى سحرها وجمالها، ولن نرضخ للضغوط التي يمارسها العدو من خلال التدمير".
تعمل برجي ممرضة في مستشفى ميس الجبل الحكومي، وقد تمسكت قبل نزوحها بواجبها الإنساني، حتى بعد إخلاء المستشفى، إذ كانت تتابع الأوضاع الصحية لـ34 مسنّاً ومسنّة رفضوا ترك البلدة، وتسهم في توفير العناية التمريضية لهؤلاء المسنين، إلى جانب خدمات الطعام وغسل الثياب وشراء حاجياتهم.
وتؤكد أن "العدو يريد تحويل بلداتنا الحدودية إلى أرض قاحلة، غير آبه بقرارات أو مواثيق دولية. لقد أمعن في نسف وتدمير بيوت بُنيت بعرق مقيمين ومغتربين، ويواصل تفخيخ المستشفيات، وتفجير المستوصفات والمباني الثقافية والدينية والتربوية، مثل ثانوية محمد فلحة الرسمية، والتي خرّجت أجيالاً من الأطباء والمهندسين والأكاديميين ورجال الدين، ومسجد الإمام علي الأثري في ساحة البلد. يحاول جيش الاحتلال تدمير البلدة بعد أن قتل أطفالنا وكبارنا وشبابنا ونساءنا، ويفتعل الحرائق في كروم الزيتون، ويلوّث الحقول والأحراج بالقنابل العنقودية كي لا نتمكن من العودة، ويرمي مواد كيميائية في بركة ميس الجبل الأثرية، والتي تعتبر مصدراً أساسيّاً لري الأراضي الزراعية التي تشكل مصدر رزق لكثير من العائلات".
أحياء وحارات وشوارع اختفت معالمها بعد أن طاولها القصف
ويؤكد الباحث في "الدولية للمعلومات" (شركة دراسات وأبحاث مستقلة) محمد شمس الدين، لـ"العربي الجديد" ، أن "الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة من الناقورة غرباً إلى شبعا شرقاً، بطول 120 كيلومتراً، يضم 29 قرية وبلدة ومدينة، وقد دُمّر منها 22 بشكل شبه كامل، من بينها ميس الجبل، وعيتا الشعب، وكفركلا، والعديسة، ومركبا، وحولا، ورب الثلاثين، وبلغ عدد الوحدات السكنية المدمّرة بشكل كامل نحو 22 ألف وحدة، من بينها قصور في بلدات يارون والخيام وميس الجبل، وبالتالي فإن الخسائر جسيمة".
في ثوانٍ معدودة، دمّر منزل رضا شيت في بلدة كفركلا الحدودية، بعد 16 عاماً من الجد والكد لبنائه، كما دمرت "فيلا" شقيقه بعد أقل من أربعة أعوام على إنجازها. يقول لـ"العربي الجديد": "بنيتُ منزلاً جميلاً، وساعدت أخي في بناء فيلا رائعة بإطلالة ساحرة على فلسطين المحتلة وهضبة الجولان، اعتمدنا في تجميلها على الحجر العرسالي الشهير، وأشكال هندسية مميزة. للأسف، تدمر كل شيء، وخسرنا تعب السنوات".
يتحدث رضا عن سحر بلدته التي تحتضن "بوابة فاطمة"، وهي المعبر الذي يربط بين لبنان وفلسطين المحتلة، وهو معلم قديم شهير. ويقول: "بلدتنا جميلة بطيبة أهلها ووحدتهم، بأشجار التين والزيتون المعمّرة، وبيوتها الأثرية الجميلة بالحجر الصخري، وقناطرها القديمة في ساحة البلدة، حتى أن جامع البلدة معلم أثري يتجاوز عمره مئات السنين، وقد هدموه ودمّروا قبّته ومئذنته، كما طاول إجرامهم المدافن والحسينية. أفتقد ساحة البلدة، حيث كان الأهالي يتحلقون في الأفراح والأتراح، ويتبادلون التهاني أو التعازي كعائلة واحدة. تربطني علاقة وطيدة بالجيران والأصدقاء، وبأشجار الزيتون والتين والرمان، والتي صارت جزءاً من حياتي".
يضيف: "حزني يفوق الوصف عندما أرى معالم ومنازل بلدتي تُفخخ وتُفجّر بحقد ووحشية. تدمّرت معظم بيوتنا، بيتي وبيوت أهلي وإخوتي وجيراننا، ومن لم يسقط منزله بالكامل، فإنه تعرض لأضرار جسيمة، والشجرة التي لم يتم اقتلاعها تم قطعها. أحياء وحارات اختفت معالمها، ولن نعرف الشوارع والأزقة والزواريب حين عودتنا. لقد تغيّرت معالم البلدة بالكامل، ونحزن على ضياع ذكرياتنا وذكريات آبائنا وأجدادنا. معظم البلدات الحدودية تتعرض لتدمير معالمها وشوارعها وأزقتها وينابيعها وسهولها وجبالها. إنه إجرام موصوف يعبث بالأرض والهوية، لكننا سنعود لنبني ونزرع، فهي ليست المرة الأولى التي تشهد فيها بلدتنا الخراب والدمار".
أمّا صبحي عبد الله، من بلدة حولا الحدودية، فإنه يعيش النزوح منذ عام 1968، ويقول لـ"العربي الجديد": "تاريخي حافل بالنزوح والاعتقال والتعذيب. في أول مرات نزوحي كنت بعمر السنتين ونصف، حين فجّر العدو الإسرائيلي منزل أهلي، ثم توالت موجات النزوح، وتراكمت خسائرنا، وصولاً إلى مأساتنا الحالية. قصفوا منزلي ومحالي التجارية في حولا، والتي تعبت في تأسيسها. كنت أحاول التوفيق بين مصاريف الحياة ودفع المستحقات وتعليم أولادي الثلاثة، وكل ما استطعت أن أنجو به تكبّدته لاحقاً من خسائر في مدينة النبطية، حيث قصفوا الشقة التي استأجرتها، وحرقوا سيارتين كنت أملكهما. صرنا نازحين نعيش في غرفة بمدينة طرابلس. لكن حولا تظل الروح والعشق، والأصدقاء والدفء، وكل شيء جميل في حياتنا، إنها منزلنا الكبير، ولا نستطيع إيفاءها حقها، ومن دونها تبقى الحياة ناقصة".
يشتاق صبحي إلى صباحاته في حولا، وإلى أضرحة والديه وشقيقه، وإلى اليوميات، وهو يعيش ألم غربة ولدَيه اللذين سافرا قبل الحرب إلى ألمانيا. ويقول: "بعد نسف بلدتنا، لم تبق داخلنا سوى ذكريات الطفولة والحنين إلى الماضي، إلى الوجوه المحفورة في مخيّلتنا، والأماكن التي ارتسمت في عيوننا، والأصوات التي يبقى صداها في مسامعنا. خسرنا كلّ تفاصيل الحياة في حولا".
ويشرح المؤرخ منذر محمود جابر، لـ"العربي الجديد"، أن "العدو الإسرائيلي يكرر أن هدفه من تفخيخ وتدمير القرى الحدودية هو حماية مستعمرات الجليل من عناصر المقاومة اللبنانية، وهذا السبب واهٍ، فطبيعة الأسلحة والصواريخ والمواجهات ألغت الخوف من اشتباك أمني من مسافة قصيرة عبر البندقية أو مدافع (الهاون)، كون مدى الصواريخ أوسع، والأسلحة المختلفة تطاول مناطق بعيدة داخل فلسطين المحتلة. ما نشهده من تدمير للقرى والبلدات الحدودية سيلقي بمفاعيله على أجيال لاحقة، فحال تدمير القرى لا يمكنها أن تعود إلى هيئتها السابقة. لقد كانت حواضر تزخر بالرأسمال والعمران، وتحولت إلى حال مؤلمة".
يضيف جابر: "المثال الأوضح هو التغير الاجتماعي في مدينة بنت جبيل (جنوب). أذكر أننا تقدمنا في عام 1963 لامتحانات الشهادة المتوسطة (البريفيه)، وكنا 80 تلميذاً من صف واحد، وكانت المدرسة تضمّ نحو ألف تلميذ. في حين كان عدد التلاميذ في كل صفوف المدرسة لا يتعدى الثمانين في عام 1998، أي بعد 35 عاماً، وقد تحولت المدرسة من متوسطة إلى ابتدائية، وفي هذا دلالة على تقلص عدد سكان المدينة، ما يؤشر إلى تراجع المنطقة. الأمر ذاته متكرر في قرية مارون الراس، مع حالات التهجير المتكررة من جراء الاعتداءات الإسرائيلية التي تتواصل منذ عام 1948، إذ انتقل عدد كبير من سكانها إلى بلدة أنصار (جنوب)، وأقاموا هناك (حي أهل مارون)، وعندما حاولت القرية استعادة هيئتها الاجتماعية لإعادة أهلها، لم يعد سوى أقل من 20% منهم".
ويشير المؤرخ اللبناني إلى أن "النازح لا يمكنه أن يحمل همومه العائلية إلى جانب همومه الوطنية، فالهم الأول أثناء النزوح هو تأمين مكان الإقامة، وتسجيل الأولاد بالمدارس، والعثور على عمل لمواصلة الحياة، ثم تأمين علاقات اجتماعية تحافظ على المكانة والتوازن الاجتماعي وتماسك الأسر. يحتل الشخصي وجدان النازح، وينسى العام لفترة طويلة، والتاريخ الخاص يتغلب على العام في هذه الأوقات، إذ يتحول الهم إلى إعادة إنتاج التاريخ الخاص، وهو تاريخ لا يُبنى بكبسة زر، بل يحتاج إلى سنوات، قبل أن ننتقل لاحقاً إلى التاريخ العام. خلال هذه الفترة الانتقالية، تكون قد سيطرت على النازح الهموم والخوف من الأمراض والمشاكل، وهموم الزواج والطلاق، ومعرفة مكان الدفن، وغيرها من الهموم المتشعّبة".
وينبّه جابر إلى أن "خطورة النزوح تكمن في أنه يلغي التراث والعادات والتقاليد، والأغاني، وطقوس الأفراح والأحزان، وهي طقوس عمرها آلاف السنوات، كما يلغي العلاقات الاجتماعية، والتي يحل مكانها الخوف من الفقر. تتعمد إسرائيل دراسة مفاعيل النزوح والتهجير وتأثيرهما، فالمواطن حين ينتهي تراثه وتاريخه المحلي، ينصرف إلى إنتاج تاريخ خاص وتراث جديد، فيتلهّى بذلك عن تاريخه الوطني، ولا شك أن تاريخ إسرائيل قائم على هذه المنهجية، تماماً كما فعلت عند تهجير الفلسطينيين، وخلال محاولات تهجير أهل القدس. إقدام الدولة اللبنانية والمواطنين في حقبتي الستينيات والسبعينيات على تغيير أسماء بعض القرى والبلدات لأسباب تافهة أو واهية، يُعتبر أيضاً إلغاء لتاريخ كامل يرتبط بهذه الأسماء، لتفقد الأماكن ليس فقط اسمها، بل تفقد دلالتها ورمزيتها".