لم يتردّد الاحتلال الإسرائيلي في تنفيذ تهديداته، بعد أوامر الإخلاء التي وجّهها إلى مستشفيات عدّة في قطاع غزة المحاصر والمستهدَف. فارتكب مجزرة كبرى في المستشفى المعمداني، وثّقت فظاعتها وسائل الإعلام العالمية وقد نقلت صور الأشلاء والدماء وأنين الناجين وصراخهم.
نحو الساعة السابعة والنصف من مساء أمس الثلاثاء، استهدفت الطائرات الإسرائيلية المعادية "المستشفى المعمداني" أو "المستشفى الأهلي العربي" الواقع في حيّ الزيتون جنوبي مدينة غزة، لترتكب واحدة من أفظع مجازر الاحتلال. لم يكن المستشفى يؤوي مرضى ومصابين من جرّاء العدوان الأخير الذي يشنّه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة فحسب، إنّما كان آلاف من أهالي شرقي مدينة غزة ووسطها قد لجأوا إلى باحاته وقد فرّوا من بيوتهم على خلفية تهديد الاحتلال المتواصل سكان شمالي القطاع وأوامره بضرورة إخلائه بالكامل.
وبعد صمت عالمي مستهجن، مذ بدأ الاحتلال عدوانه على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أثارت مشاهد مجزرة المعمداني المروّعة الرأي العام العالمي الذي صدرت عنه ردود فعل مستنكرة، فيما سُجّلت تحرّكات احتجاجية عفوية في عدد من الدول العربية.
ومنذ نحو أسبوع، راح المستشفى المعمداني يستقبل يومياً مجموعات جديدة من النازحين في باحاته، وقد نصبت أعداد منهم الخيام هناك. أحمد ياغي واحد من هؤلاء، وهو من سكان حي الشجاعية في مدينة غزة نزحت أسرته إلى مدينة دير البلح عند أقارب لها وبقي هو وشقيقه في الحي. لكنّ القصف الإسرائيلي أجبره وشقيقه على النزوح مع عدد من أهالي الحي إلى المستشفى المعمداني أخيراً، مثلما كان قد فعل عدد من سكان المنطقة في وقت سابق.
يقول أحمد لـ"العربي الجديد" إنّ النازحين الذين لجأوا إلى المستشفى، إلى جانب سكان حي الشجاعية، كانوا من حي الزيتون وحي الدرجة في مدينة غزة ومناطق أخرى في شمال قطاع غزة. بالنسبة إليهم، فإنّ المستشفى تديره الكنيسة الأسقفية الأنغليكانية في القدس، وبالتالي ظنّوا أنّ الخطر سوف يكون بعيداً عنهم. ويشير أحد إلى أنّ من بين هؤلاء النازحين أفراد أسر ضحايا مجزرة حي الشجاعية الذين سقطوا في العدوان الإسرائيلي على غزة في عام 2014.
عندما وقعت المجزرة، كان أحمد قد خرج برفقة شقيقه حسام لتعبئة عبوات بلاستيكية بالمياه، إذ إنّ النازحين كانوا يتهافتون على صنابير المياه المتوفّرة في المستشفى، وكان الازدحام كبيراً على الرغم من مذاق المياه المالح. وبعدما ابتعد قليلاً، قبل أن تسنح له فرصة تعبئة قواريره، وقع الاستهداف. ورأى النيران الهائلة التي اندلعت في المكان، فألقى القوارير وعاد مسرعاً إلى المستشفى.
ويخبر أحمد: "عندما وصلت إلى طريق يؤدّي إلى مدخل المستشفى الخلفي، رأيت الجثث في المكان. وفيما أشرت إلى طفل شهيد، صرخ شقيقي أنّ ثمّة امرأة كذلك. وتقدّمنا بين الجثث، في حين أنّ الدماء كانت تشكّل بركاً على الأرض. في كلّ مكان، كانت تنتشر الجثث. هي جثث مشوّهة، معظمها أشلاء، في حين كان الصراخ والبكاء يملآن المكان".
يضيف أحمد أنّ "المسعفين راحوا ينقلون الجثث وقد تكدّس بعضها فوق بعض. وصرنا نوقف السيارات في الشارع لنقل الجثث إلى مجمّع الشفاء الطبي". وفي خلال ذلك، حمل طفلَين، أحدهما كان حياً لكنّ عينَيه كانتا مملوءتَين بالدم، وظنّ الصغير أنّ أحمد والده. أمّا الطفل الآخر، فلم يعرف إذا كان حياً أم لا، لكنّه سلّمهما إلى الطواقم الطبية التي كانت تنصب الخيام في المكان.
من جهته، كان معتصم علي، من سكان حي الزيتون، قد لجأ إلى المستشفى المعمداني قبل خمسة أيام من المجزرة التي استشهد فيها ابنا عمّه. يقول لـ"العربي الجديد": "لم أتركهما إلا لدقيقتَين، وقد أردت بعضاً من الراحة وتوجّهت إلى بقعة فيها شجرة بعيداً عن الناس، وسط ساحة المستشفى. وعندما أغارت الطائرات، لم أدرِ ما الذي حصل"، لكنّ قوة الضربة دفعته إلى البعيد.
ويشير معتصم إلى أنّه في خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في عام 2014، "لجأنا إلى هذا المستشفى وحصلنا على بعض من الأمان فيه". يضيف أنّ جيرانه لجأوا إلى كنيسة القديس برفيريوس الأرثوذكسية الواقعة كذلك في حي الزيتون، والتي تبعد فقط مئات الأمتار عن المستشفى، "وكانوا كما الجميع يستبعدون قصفها. لكنّنا بعد ما شهدناه في المجزرة الأخيرة، ازددنا قناعة بأنّ الاحتلال لا يعير أهمية إلى أيّ غطاء ديني أو مؤسساتي في العالم".
ويتابع معتصم: "دمّروا كلّ شيء. ثمّة أشلاء متناثرة في المكان"، ويتابع أنّ ثمّة "أطفالاً كانوا يلعبون حَجَلة بالقرب من خيمة في ساحة المستشفى، رأيتهم بعضهم فوق بعض شهداء بعد القصف، فيما كان بعض الناس يضعون أشلاءً في أكياس". ويكمل معتصم: "تركنا الجثث في الأرض. من شدّة الصدمة، لم نكن نعلم أياً منها نحمل". ويلفت إلى أنّه "عاجلاً أم آجلاً سوف نصير كلنا شهداء"، في حين يشدّد "لكنّنا على هذه الأرض باقون".
المستشفى تابع للكنيسة المعمدانية
يُعَد المستشفى المعمداني من أقدم المستشفيات في قطاع غزة، وقد أُنشئ في أواخر القرن التاسع عشر. أُعيد تأهيله قبل أعوام، مع المحافظة على طابعه المعماري. كان يُطلق عليه اسم المستشفى الإنكليزي ويُعَدّ من أقدم المستشفيات التخصصية في قطاع غزة، لكنّه صار المستشفى المعمداني عندما تسلّمته الكنيسة الأسقفية الأنغليكانية، قبل أن يصبح اسمه الرسمي أخيراً المستشفى الأهلي العربي.
ويعقد المستشفى شراكات مع دول أوروبية ومنظمات مسيحية عدّة من أجل تقديم الخدمات الطبية والإغاثية، وهو يوفّر خدمات عديدة ومتخصّصة فيما تُعَدّ غرف العمليات فيه نوعية. يضمّ المستشفى 80 سريراً، ويتوفّر على برنامج للكشف المبكر عن سرطان الثدي مجاناً، في حين يجرى العمل فيه على استكمال إنجاز مركز متخصّص لعلاج السرطان. كذلك يشمل خدمة العيادات المتنقلة للرعاية الطبية المجانية.
وعلى الرغم من القيود التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي على القطاع الطبي، فإنّ المستشفى استقبل النازحين وخصّص ساحاته ومرافق فيه لهم. وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، فقد تلقّى المستشفى، كما مستشفيات أخرى، تحذيرات عدّة وأوامر بالإخلاء من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية، لكنّ إدارته رفضت إخلاءه، إذ هو واقع في مدينة غزة القديمة وفي نقطة مركزية ويلبّي حاجات المرضى والنازحين.
وقد تعرّضت سبعة مستشفيات عدّة في غزة للتهديد مع أوامر بالإخلاء (يبلغ عدد المستشفيات في غزة 35، من ضمنها 13 مستشفى حكومياً)، حتى كتابة هذا التقرير، منذ بداية العدوان الإسرائيلي الأخير على القطاع. وقد قُصف اثنان منها، الأول في بيت حانون، وذلك بصواريخ استهدفت بعض مرافقه ومداخله، فأُخلي سريعاً إنقاذاً للمرضى والعاملين فيه. أمّا المستشفى الثاني فهو المعمداني حيث ارتُكبت المجزرة الرهيبة مساء أمس.
وفي سياق متصل، رأى المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة أشرف القدرة أنّ ما حصل يُعَدّ تحوّلاً كبيراً في العدوان الإسرائيلي الأخير، ويؤكد وقوع مجازر ضدّ الإنسانية. وبيّن أنّه من غير الممكن إخلاء المستشفى المعمداني، لا سيّما أنّه يوفّر خدمات جراحية ويضمّ قسم توليد مهمّاً، مشيراً إلى أنّ المستشفيات لطالما تُحيَّد عن الصراع في كلّ الحروب في العالم والتاريخ.
والقصف الذي استهدف المستشفى المعمداني لم يشكّل حفرة كبيرة في الأرض، إنّما تناثرت شظايا الصاروخ في كلّ مكان وبلغت كلّ الأقسام لتحصد عدد ضحايا أكبر. ويأتي ذلك دليلاً واضحاً على إمعان الاحتلال الإسرائيلي في قتل المدنيين وذلك في محاولة لتحقيق أهدافه العسكرية وإخلاء مدينة غزة بالكامل.
وأوضح القدرة أنّ استهداف المستشفى أتى في وسطه، وهذا تأكيد على ارتكاب الاحتلال مجزرة مقصودة بطريقة مباشرة بهدف الإبادة. وأكد أنّ الاحتلال يراقب كلّ تفاصيل قطاع غزة عبر طائرات الاستطلاع الخاصة به ويعرف أنّ ثمّة أطفالاً في المستشفى، وما جرى انتهاك صريح للقوانين والمعاهدات الدولية الإنسانية التي من شأنها حماية المدنيين والطواقم الطبية في أوقات النزاعات.
نزوح إلى مجمّع الشفاء الطبي
وقد بلغ عدد الذين سقطوا في مجزرة المستشفى المعمداني 471 شهيداً إلى جانب 314 جريحاً، إصابات 28 منهم حرجة، بحسب بيانات وزارة الصحة في غزة الصادرة بعد ظهر اليوم الأربعاء، في حين نزح آلاف الناجين من المستشفى المعمداني إلى مجمّع الشفاء الطبي الذي يبعد عنه نحو ثلاثة كيلومترات.
وعلى الرغم من استهداف المستشفى المعمداني والمجزرة الرهيبة التي وقعت فيه، فإنّ ثمّة أناساً يعتقدون أنّ مجمّع الشفاء الطبي هو الصرح الصحي الأكبر في قطاع غزة.
إسلام شاهين من الناجين من مجزرة المستشفى المعمداني، يخبر "العربي الجديد" أنّ ثمّة عائلات في غزة لجأت إلى هذا المستشفى، إذ إنّها لا تملك المال الكافي للانتقال إلى جنوبي قطاع غزة، ولم تجد لها مكاناً في مدارس أونروا (وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى) في مدينة غزة التي امتلأت بالنازحين، بعد أوامر الاحتلال بإخلاء شماله، لذا لجأت إلى المستشفى". يضيف أنّ تلك العائلات "ظنّت أن المستشفى آمن وأنّها لن تتعرّض لأيّ ضرر فيها".
وبعد إصابته في ساقه في خلال المجزرة، نزح إسلام مع شقيقته ووالدته وعمّه إلى مجمّع الشفاء الطبي، مع آخرين. ويقول: "الجميع كان يظنّ أنّ المستشفيات آمنة"، مشيراً إلى أنّ "المدارس جرّبناها في حروب سابقة، وقد تعرّضت للقصف ولحقت بها أضرار. لكن حالياً، كلّ شيء معرّض للاستهداف. لو أنا موظّف لدى الأمم المتحدة وعلم الأمم المتحدة يحميني، فإنّ الطائرات الإسرائيلية سوف تستهدفني". ويؤكد: "ما شهدناه إجرام كبير. نحن الآن في مجمّع الشفاء الطبي، ولا نعرف إلى أين نذهب. سوف ننتظر يومَين ونرى ما سوف يحدث".