دمّر الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوانه المستمر على قطاع غزة آلاف المنازل مشرداً الأهالي، الأمر الذي يشعر الأهالي بأسى مضاعف... فالمنزل وطن صغير
في حي النصر غرب مدينة غزة، بنى خضر أبو صلاح (67 عاماً) منزله على مدى 35 عاماً، وهو عبارة عن عمارة سكنية مكونة من أربعة طوابق، عاش فيها برفقة أبنائه السبعة وأحفاده. تزوج أحد أحفاده في أغسطس/ آب الماضي، وعاش مع العائلة الممتدة في إحدى الغرف لعدم تمكنه من شراء أو استئجار شقة. لكن الاحتلال دمر المبنى.
كان دائماً ما يتحدث مع أبنائه عن قيمة المنزل بالنسبة إليه بعد رحلة عمل في عدد من دول الخليج. وكان يحرص على متابعة كل التفاصيل ويحكي لأحفاده عن المنزل، "هذا الكيان المقدس". ويصفه بـ "الستر والغطى"، لكن الاحتلال الإسرائيلي دمر منزله بالكامل في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
أبو صلاح نازح في إحدى الخيام على الحدود الفلسطينية المصرية. يعيش في خيمتين تضم قرابة 50 فرداً كانوا يقيمون في المبنى في حي النصر. يقول لـ "العربي الجديد": "شعرت في المرة الأولى في حياتي ببرد قارس يصل إلى العظام حين دمر منزلي. كنت نازحاً في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي داخل إحدى المدارس في حي النصر. لكن عندما دمر المنزل، بدأت أشعر بالبرد".
يضيف: "المنزل وطن صغير داخل وطن كبير. عملت في عدد من الدول العربية. وعندما كنت أفكر في المنزل الذي أبنيه، لطالما شعرت بالاطمئنان حتى لو أننا نعيش في بلد محتلّ. وجودي فيه هوية وحفاظ على المبادئ والقضية. المنزل في غزة بالنسبة إلي أعظم من قصور في دول ليست وطناً لي. أصبحت لاجئاً وعارياً وحافياً. البرد يمكن أن يقتلني، هذا ما أراده عدوي". وأكثر ما يحزن أبو صلاح تدمير الغرفة الصغيرة التي كانت قرب باب الدرج كما يطلق عليها الغزيون. وهذه غرفة قديمة تقع على مقربة من باب المنزل وسلم الصعود، وكانت لوالدته الراحلة آمنة أبو صلاح، التي توفيت في ديسمبر/ كانون الأول عام 2019 عن عمر يناهز 90 عاماً. كانت بالنسبة إليه مصدراً للراحة النفسية وذكريات والدته، وفيها السرير الذي كانت تقضي معظم وقتها عليه".
غير صالحة للسكن
بحسب آخر البيانات الصادرة في 22 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وثّق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة تدمير قوات الاحتلال أكثر من 55 ألف وحدة سكنية بشكل كلي، وأكثر من 258 ألف وحدة سكنية بشكل جزئي، أي أن هناك 313 ألف وحدة سكنية مدمّرة وغير صالحة للسكن. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من نصف منازل الغزيين في مختلف المناطق أصبحت غير صالحة للسكن بالمطلق.
يعيش الغزيون أوضاعاً نفسية صعبة ومضاعفة، بعدما قضى البعض سنوات طويلة قبل أن يتمكنوا من تأسيس منازلهم التي كانت تضم العائلات الممتدة وصولاً إلى الأحفاد، في ظل الكثافة السكانية في القطاع، وارتفاع نسبة البطالة والفقر وغياب مشاريع إسكانية للشباب. ولا يزال البعض ينتظر انتهاء العدوان لمعرفة مصير منازله.
معظم الغزيّين الذين دمرت منازلهم تلقوا أخباراً عن تدميرها أثناء الهدنة، أو أنهم يترقبون أخباراً من النازحين الذين تأخروا في الخروج من مناطقهم، علهم يعرفون مصير منازلهم. عدد من النازحين من مناطق تل الهوا وحي الرمال وحي النصر تلقوا أنباءً عن تدمير مساكنهم من خلال بعض الصور التي شاهدوها والتقارير الصحافية الشحيحة التي ظهرت على قنوات مثل التلفزيون العربي والجزيرة. رأى عبد الحكيم صبّاح (40 عاماً) شقته وشقة شقيقه علاء مدمرتين. كان يقيم داخل أحد مباني "الملش"، واشترى وشقيقه البيتين بنظام الأقساط المريحة منذ سنوات، وبقي على سدادها عامين.
يقيم حالياً برفقة أبنائه الذين حملوا أغراضهم البسيطة في حقائب مدرسية، لكنه ترك كل شيء ولم يتوقع تدمير المبنى الواقع على حدود مخيم الشاطئ وحي النصر بالكامل".
في أحد التقارير التلفزيونية، رأى المبنى مدمراً بالكامل، وشعر بحسرة كبيرة، هو الذي يقيم فيه منذ أكثر من 6 سنوات. كان يحرص على تزيينه بالتحف والأنتيكا ولوحات تعبر عن التراث الفلسطيني، ويُعلّقها في صالون المنزل وغرفته التي جمع فيها كتباً اشتراها من مكتبات في غزة ومنطقة وسط البلد في العاصمة المصرية القاهرة.
يقول صباح لـ "العربي الجديد": "المحتل تسانده حكومته وتمنحه المال، بالإضافة إلى الولايات المتحدة واللوبي الصهيوني. أما نحن، فخلف كل شيء إرهاق وتعب وهمّ. كما أن كل قرش نجمعه لمساكننا الصغيرة هو نتيجة صبر وتحمل ضغوط نفسية هائلة. كنت أجمع التحف الفنية والكتب التي تحكي عن تاريخ فلسطين وكل شيء عن هويتنا حتى يكون منزلي هو وطني الدافئ، وليس مجرد مسكن لي ولأطفالي. حتى إن طفلي حسام (10 سنوات) أصبح يقرأ كتب التاريخ".
بناءً على صور الأقمار الصناعية رصدتها عدة وكالات والمكتب الإعلامي الحكومي في غزة وجهات التوثيق المحلية، فإن الدمار الأكبر كان في شمال قطاع غزة ثم مدينة غزة. لكن ما يحزن كثيرين من سكان قطاع غزة، أن بعضهم كان يحاول الهرب من الازدحام في مدينة غزة إلى شمال القطاع، وخصوصاً المنطقة الغربية منه الأكثر هدوءاً والتي تضم بعض المساحات.
ودمّر الاحتلال الإسرائيلي منزلاً لعائلة كمال شاهين (64 عاماً)، الذي كان يعمل معلماً لدى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" وحصل على راتب تقاعده وأراد عيش حياة جيدة برفقة أبنائه الأربعة. كانوا يعيشون في شققهم التي تبلغ مساحاتها 200 متر مربع ويزرعون فيها الورود. لكن لم تدم فرحته إلا ثلاث سنوات، إذ دمر الاحتلال المبنى بالكامل في حي السودانية شمال غرب قطاع غزة.
سابقاً، كان شاهين يعيش في منزل العائلة بحي التفاح. أما أبناؤه، ومن بينهم مهندسون ولديهم أطفال، لم يكونوا قادرين على شراء شقق في ظل الغلاء، بالإضافة إلى عدم وجود مشاريع سكنية للشباب والعائلات بشكلٍ عام. وعلى الرغم من الظروف الصعبة، كان يعيش حياة جيدة خلال العامين الأخيرين. ويقول شاهين لـ "العربي الجديد"، وهو داخل أحد مراكز النزوح بمدينة رفح: "يومياً، كنت أشاهد بحر غزة ولا أبالي أمام أصوات طائرات الاستطلاع وحتى القصف الإسرائيلي على مناطق شمال قطاع غزة من أجل تخويف سكان المنطقة. قبل أن أرحل عن هذه الدنيا، أردت تحقيق شيء ما لأبنائي، وأخشى الموت خلال هذا العدوان. بالإضافة إلى كوني لاجئا من مدينة يافا، فقد تركت أبنائي من دون منازل".
بحاجة لبناء مدينة جديدة
المهندس المدني محمد شرف (43 عاماً)، وهو ضمن العاملين الذين أشرفوا على عدد من المباني التي أعيد إعمارها في قطاع غزة خلال العدوان الإسرائيلي عام 2014، ضمن المنحة القطرية التابعة للجنة إعادة الإعمار وعدد من دول مجلس التعاون الخليجي، يشدد على أن عدداً من المناطق السكنية، وخصوصاً المدن السكنية الصغيرة بحاجة لإعادة ترميم البنى التحتية، كما أن الأساسيات تحتاج إلى فحص.
يشدد شرف على أن اللجنة قدمت توصيات لصالح وزارة الأشغال العامة والإسكان الفلسطينية، تضمنت أن عدداً من المباني المهتزة، والتي شهدت ميلانا خطيرا نتيجة استخدام قنابل ارتجاجية وتدمرت أساساتها الداخلية، أزيلت وخصوصاً في منطقة حي الرمال وشارع الوحدة الذي شهد مجازر خلالها.
لكنه يشير إلى أن العدوان الحالي كشف عن استخدام كميات أكبر من المتفجرات. ويوضح أن قطاع غزة بحاجة لفريق تقصي حقائق حول الواقع السكني. ويرى أن تدمير الشوارع الرئيسية والبنى التحتية يتطلب إعادة تقييم، وعلى أساسها تم وضع خطة تطوير لتسهيل الوصول إلى المناطق وتحديد الاحتياجات الكاملة. لكنه يرى أن مدينة غزة تحتاج إلى تخطيط لبنائها من جديد. يقول لـ "العربي الجديد": "في ما يتعلق بخطط إعادة الإعمار السابقة، لم يتم ضمان منافذ حرة لإدخال مواد البناء اللازمة لإعادة الإعمار وخصوصاً المساكن. لذلك، بعد خمس وست سنوات، أعيد بناؤها في إطار خطة وضعت ضمن اللجنة القطرية والتي أشرفت عليها، وذلك مع زيادة الجهود".