باغتت آليات جيش الاحتلال الإسرائيلي النازحين في منطقة "المواصي" ومناطق غربي وجنوبي مدينة خانيونس خلال اليومين الأخيرين، بعد أن كان يصنف تلك المناطق باعتبارها "مناطق آمنة".
كان آلاف النازحين من مناطق شمال ووسط قطاع غزة، والآلاف من سكان مدينة خانيونس، يعيشون في عدد من مراكز الإيواء في مناطق غربي وجنوبي المدينة، قبل أن يجدوا أنفسهم في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية التي تهددهم بالموت حال رفض النزوح من جديد.
وهاجم جيش الاحتلال لليوم الثالث على التوالي المنطقة الغربية في مدينة خانيونس، برياً وجوياً، ما خلف عشرات الشهداء والجرحى، مع مواصلة إجراءات الحصار التي تشمل عدم السماح لسيارات الإسعاف أو آليات وأفراد الدفاع المدني بالوصول إلى المنطقة، مع إجبار النازحين على النزوح القسري إلى الجنوب نحو مدينة رفح، والتي باتت الملاذ الأخير.
قبل أكثر من شهر، نزح عبد العزيز العصار (44 سنة)، برفقة عائلته المكونة من عشرة أفراد إلى داخل جامعة الأقصى القريبة من منطقة المواصي، غربي مدينة خانيونس، تاركاً مخيم البريج في وسط القطاع بعدما لحقت بمنزله أضرار بالغة نتيجة القصف، وأصيب اثنان من أبنائه، وقد وصل، صباح الثلاثاء، إلى مدينة رفح، عبر عربة يجرها حمار وضع عليها أطفاله ومقتنياته البسيطة، في ظل عدم وجود أي وسائل نقل أخرى في المنطقة، وهو موجود حالياً بالقرب من مستشفى أبو يوسف النجار.
يؤكد العصار وجود قناصة الاحتلال في كل مكان بالمنطقة التي غادرها أخيراً، والتي كانت تضم آلاف النازحين، وأن القصف الإسرائيلي تواصل حتى مساء الاثنين، ما اضطر معظم الناس إلى النزوح، في حين لم يتمكن عدد من النازحين من المغادرة بسبب وجود مسنين أو جرحى ومرضى ضمن عائلاتهم، كما كانوا عاجزين بسبب سيطرة الاحتلال على المنطقة عن التوجه إلى مجمع ناصر الطبي.
يقول العصار لـ"العربي الجديد": "هاجمتنا طائرات (الكواد كابتر) المسيرة قبل نزوحنا، وكانت تطلق الرصاص على محيط الجامعة، وتصيب أي شخص يتحرك، وأصيب العديد من النازحين، ومن بينهم طفل شاهدته يموت من دون أن أتمكن من إنقاذه، ثم جمعوا بعض النازحين، وطلبوا منهم إبلاغ الجميع بضرورة المغادرة عبر شارع البحر إلى مدينة رفح، فخرج معظمهم سيراً على الأقدام، ورأيت بعض من كانوا يسيرون حفاة".
سقط نحو 90 شهيداً في الهجمات على مراكز الإيواء بمدينة خانيونس
يضيف: "لم أتمكن من النزوح في الأيام الأولى بسبب إصابة اثنين من أبنائي، فابني براء (20 سنة)، مصاب بطلق ناري في يده اليسرى، وابني الثاني يحيى (14 سنة)، مصاب في ظهره، ثم جاء صاحب عربة يجرها حمار ونقل أبنائي مع عدد آخر من المصابين إلى مدينة رفح، وهذا ما أتاح لنا النزوح، وكان الرصاص يلاحق جميع النازحين، وكنا نسمع أصوات طلقات القناصة بينما نسير".
وعلى مدار يومين، سقط نحو 90 شهيداً في الهجمات على مراكز الإيواء بمدينة خانيونس، ولا تزال جثامين عدد من هؤلاء الشهداء على الأرض، ولا يتمكن أحد من رفعها أو دفنها، وأكد الهلال الأحمر الفلسطيني، صباح الثلاثاء، أن سيارات الإسعاف تعجز عن الوصول إلى المنطقة التي يحاصرها الاحتلال بالكامل، وأن أطقمه عاجزة عن تلبية استغاثات الناس.
ويقول المتحدث باسم الهلال الأحمر في غزة رائد النمس، لـ"العربي الجديد": "هناك هلع كبير بين النازحين إلى حي الأمل، الذي يتعرض لقصف عنيف، ويحاول المئات من الأشخاص النزوح هرباً من القصف، لكنهم لا يستطيعون، فلا توجد مخارج آمنة من محافظة خانيونس، ووصلتنا معلومات بوقوع عدد كبير من الشهداء والجرحى نظراً لاستهداف الاحتلال أي شخص يتحرك في المنطقة، وستكون الأيام القادمة أكثر خطورة على النازحين الذين لن يتمكن بعضهم من المغادرة إلى مدينة رفح".
وصلت أسرة أحمد أبو مصطفى (55 سنة)، إلى مدينة رفح، نهار الاثنين، لكنها لا تزال من دون مأوى، وقضى أفراد الأسرة الخمسة عشر ليلتهم الأولى في أحد أزقة المدينة، بينما يواصل الأب البحث عن مأوى، فجميع المدارس ومراكز النزوح في رفح عاجزة عن استقبالهم كونها مكتظة.
كانت عائلة أبو مصطفى وعائلة شقيقه النازحتان من مدينة غزة تقيمان داخل منزل في مدينة خانيونس يضم نحو 60 نازحاً، وقد نزح جميع هؤلاء من جديد عندما اقتحم جيش الاحتلال المنطقة، وهو يبحث عن أي ملجأ لإيواء أسرته، فزوجته مصابة بالتهاب الكبد الوبائي، ولا تستطيع البقاء في العراء.
يقول لـ"العربي الجديد": "طلب الاحتلال من الناس التوجه إلى منطقة المواصي، وقال إنها منطقة آمنة، لذا تجمع الناس داخلها، وبنوا الكثير من الخيام، ومع مرور الوقت نزح الكثيرون من مناطق وسط القطاع إلى منطقة المواصي، وانتشر الباعة، وأقيمت نقاط طبية لمؤسسات مثل أونروا، ثم فاجأنا الاحتلال باقتحام المنطقة، وشاهدنا الموت بأعيننا. كنت أرغب بالبقاء في المواصي، على أمل السماح لنا بالعودة إلى منطقتنا التي لا أعرف عنها شيئاً، ولا أعرف مصير منزلي، هل هو مدمر أم سليم. أصبحنا نازحين وجائعين، وهذا حال آلاف الناس، كما لو أننا في يوم الحشر، فلا ملجأ، ولا طعام، ولا شيء متاحاً للبقاء. يبدو أننا ننتظر الموت أو التهجير إلى سيناء".
وحسب بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فقد ركز جيش الاحتلال جميع أسلحته على مراكز النزوح في خانيونس، واستهدفها بالقصف المباشر من خلال الطائرات والمدفعية، وتوغلت آلياته العسكرية في المنطقة التي كانت تضم أكثر من 60 ألف نازح موزعين على 5 مراكز إيواء في المنطقة التي زعم الاحتلال أنها آمنة، وهي مركز إيواء جامعة الأقصى، وهي إحدى أكبر الجامعات الفلسطينية، والكلية الجامعية التي تحولت إلى مركز إيواء كبير، ومركز إيواء مدرسة الخالدية، ومركز إيواء مدرسة المواصي، ومركز إيواء صناعة خانيونس.
ويشير المكتب الإعلامي الحكومي إلى أن هذه المراكز كانت تضم آلاف النازحين من مدينة غزة وشمالي القطاع، والآلاف من سكان مدينة خانيونس التي هاجم الاحتلال المنطقتين الغربية الشمالية والشرقية منها، وأفرغهما من المدنيين ضمن مساعي السيطرة على كامل المدينة، بما فيها مجمع ناصر الطبي الذي يعتبر آخر شريان طبي في المدينة.
وأفرغ الاحتلال 8 مراكز نزوح بالكامل، من بينها إخراج النازحين من مستشفى الأمل، ومن مقر الهلال الأحمر الفلسطيني في حي الأمل، والذي كان يأوي مئات النازحين، فضلاً عن إفراغ مدرستين كانتا تؤويان مئات النازحين في المنطقة بعدما حاصرهم جيش الاحتلال بداخلها لعدة أيام، كان يرفض فيها السماح لأي منهم بالخروج، قبل أن يسمح لاحقاً بتحركهم باتجاه مدينة رفح.
وقبل بدء النزوح، كان الناس يوجهون سؤالاً متكرراً إلى جنود جيش الاحتلال، مفاده إلى أين نفِر؟ وكان الرد دائماً: إلى الجنوب، فلما نزحوا جنوباً وجدوا أنفسهم بدون مأوى سوى الشوارع، ولا تتوفر لهم حتى الخيام.
يصل النازحون في البداية إلى الحي السعودي في مدينة رفح، والذي يطل على منطقة تل السلطان، والتي لا تزال مصنفة كمنطقة آمنة من قبل الاحتلال، وتوجد فيها مقار لوكالة أونروا، ومؤسسات خيرية أخرى، وعدد من النقاط الطبية، لكن كل تلك المؤسسات لا تملك أي حلول للنازحين الجدد.
نزحت الستينية أم عاهد صيام من شرقي مدينة غزة إلى مدينة خانيونس، وبعد الاجتياح الأخير لجيش الاحتلال، نزحت مجدداً إلى مدينة رفح، لتكتشف عدم وجود مكان للإيواء. تعاني السيدة الفلسطينية من آلام شديدة في ساقيها تعيق قدرتها على الحركة، فضلاً عن إصابتها بالسكري وارتفاع ضغط الدم، ومع قلة الأدوية، وعدم توفر الطعام والشراب تفاقمت حالتها الصحية، وهي تجلس مع أحفادها في انتظار تمكن نجلها الأكبر عاهد من تأمين مكان يؤويهم، بعدما قضوا يومين كاملين في العراء في أحد أزقة مخيم رفح، فرع مخيم الشابورة، وتعرضوا فيهما للبرد القارس.
تقول صيام لـ"العربي الجديد": "كنا آمنين في منطقتنا، وكانت أوضاعنا أفضل بعد النزوح إلى منطقة المواصي، والآن لا نعرف إلى أين نذهب. شاهدت الكثير من الجثث بينما كنا نمشي إلى رفح، وكان قناصة الاحتلال يطلقون النار بشكل متكرر على النازحين، وفي إحدى المرات اقتربت من إحدى الجثث، لكن منعني ابني من الاقتراب خشية استهداف القناصة لي، وحالياً ننتظر قدر الله. عشت عمري كله في معاناة، وأعرف معاناة اللجوء والنزوح، وسمعت الكثير من قصص النكبة، ولا أريد أن أتعرض للتهجير. أفضل أن أموت في غزة، ولن أقبل التهجير إلى سيناء".